النفايات الفضائية تتراكم فمتى الكارثة القادمة ؟

يتجاوز النمر - باعتباره رمزًا كونه مجرد حيوان بري - نظرًا لخصائصه الطبيعية وسلوكه المميز؛ إذ مكَّنته قوتُه، وقدرته على التخفي، وهيمنته في بيئته أن يَتَسَيَّد تلك البيئة، وأن تكون له الغلبة بين غيره من الحيوانات المفترسة، ومهما مُكِّن لدونه من الحيوانات في الأرض فجميعها أمامه تتراجع همَّتُها وتتقاصر قوَّتُها وتتضاءل هيبتُها؛ ما جعله رمزًا للقوة والغموض والنفوذ في العديد من الثقافات حول العالم.
قطعة صغيرة من القشرة العازلة، كانت قد أفلتت من جدار المكوك الفضائي «كولومبيا» عام 2003م، أدّت الى تفجير المكوك وقتل رواده السبعة العائدين من محطة الفضاء الدولية... وما هَمّ لو أن مثل تلك القطعة أفلتت للتو من المكوك نفسه أو أتت من بقايا قمر آخر تالف، فالنتيجة ذاتها: كارثة فعلية علمية وبشرية قاسية. وكذلك عام 2006م تعرّضت المحطة الفضائية الدولية نفسها لاصطدام قطعة صغيرة من الخردة الفضائية المنتشرة، تسببت بكسر صغير في نافذة مدعّمة في المحطة. وعام 2018م، تم اكتشاف ثقب بقطر 2 ملم في الوحدة المدارية الروسية Soyuz MS-09 في المحطة الفضائية الدولية، ونجح رواد الفضاء فيها بإغلاق التسرب باستخدام مادة مانعة للتسرب من الإيبوكسي.
إن تاريخ البعثات الفضائية، المأهولة وغير المأهولة، حافل بالحوادث والكوارث في الفضاء، وحتى مارس 2024م، طار إلى الفضاء 682 شخصًا توفي 19 منهم في خمسة حوادث منفصلة. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تعرّض العديد من المركبات والمسابير الفضائية لأعطال شتى بسبب الحطام الفضائي المتناثر.
تهديد على سكان الأرض
وخطر تلك الخردة الصناعية لا يقتصر على أمن الفضاء وسلامته، رغم أسبقيته، بل إن تلك الخردة تشكل أيضًا تهديدًا قائمًا على سلامة سكان الأرض... فعلى الرغم من أن معظم الحطام العائد إلى الأرض يحترق في الغلاف الجوي، إلا أن الأجسام الكبيرة يمكن أن تصمد وتشكل خطرًا حين اصطدامها بالأرض. ووفقًا لوكالة ناسا، فإن قطعًا من الحطام الفضائي تسقط على الأرض بمعدل قطعة واحدة على الأقل في اليوم، وأن هذا الرقم يزداد بقوة مع تزايد اهتمام الدول بالخروج إلى الفضاء. ورغم أن المحيطات المائية تغطي أكثر من 70 في المئة من سطح الأرض، وأن 31 في المئة من البرّ المتبقي مغطّى بالغابات، فقد شهد السكان على البر، في أكثر من موقع، سقوط خردة فضائية عليهم. فعام 1969م - على سبيل المثال - أصيب خمسة بحارة يابانيين جرّاء سقوط حطام فضائي على سفينتهم. وعام 1997م أصيبت امرأة أميركية بكتفها إصابة بالغة بقطعة خردة من صاروخ فضائي كانت قد أطلقته القوات الجوية الأمريكية قبل عام لإيصال قمر صناعي إلى مداره.
بعض الحطام الخفيف العائد قد يتمتع بمساحة كافية ليسقط متراقصًا بفعل انسيابه في هواء الأرض، وقد يشكّل صورة مشهدية حين يضاء بأشعة الشمس أو أضواء المدن، فيبدو كصحن طائر يتراءى لنا كأنه «لا يخضع لقوانين الفيزياء»... وتكثر الحكايا حوله!
عام 2022م، أبلغت شبكة مراقبة الفضاء الأمريكية عن وجود ما يقارب 26000 جسمٍ صناعيّ في مدار فوق الأرض، بما في ذلك 5500 قمر صناعي، عاملٍ أو منتهي الصلاحية. ومع ذلك، فهذه مجرد أجسام كبيرة بما يكفي لتتبعها وتوجد في مدار يجعل التتبع ممكنًا، فإلى ذلك، هناك حطام كثير لأقمار صناعية في مدارات مرتفعة جدًا فوق نصف الكرة الشمالي بحيث لا يمكن تعقبها. والمثير للقلق أن الفضاء القريب المحيط بالأرض، بات يختزن، وفقًا لتقدير شبكة مراقبة الفضاء الأمريكية في العام 2019م، حوالي 130 مليون قطعة من الحطام، 34 ألف منها أكبر من 10 سنتم، و900 ألف بين 1 سنتم و10 سنتم، والباقي دون السنتيمتر الواحد.
يتضمن هذا الحطام، عدا آلاف الأقمار الصناعية المنتهية الصلاحية والعالقة في المدار، بقايا من شظايا أقمار محطمة ونيازك صغيرة عالقة في المدار، وغبار من عوادم الصواريخ الصلبة، وأجزاء صغيرة مفقودة في الفضاء، وبراغي وأغطية عدسات بعض التلسكوبات، وبقايا رقائق الطلاء الناتجة عن تآكل أسطح الصواريخ والمركبات والأقمار... وفي تقرير حديث لوكالة الفضاء الأوربية «إيسا» جاء أن أكثر من 2000 قمر صناعي، بين الأقمار التي أطلقت الى الفضاء منذ 1957م حتى اليوم، انتهت صلاحياتها وباتت تعتبر كحطام يضاف إلى سجلات القمامة الفضائية المتنامية.
كل تلك الخردة تدور في أفلاك الأقمار الصناعية العاملة، التي باتت تزيد عن 3000 قمر تستخدم في مجالات متنوعة من الاتصالات والتلفزة، إلى محطات الإنترنت، إلى الملاحة، إلى التنبؤ بالطقس، إلى الأبحاث العلمية، إلى أقمار الطقس، إلى مراقبة سطح البحار واحتمالات التسونامي، إلى شبكات تحديد المواقع الجغرافية (جي.بي.إس)، إلى التجسس وتوجيه الصواريخ والمهام العسكرية الأخرى.
تنتشر تلك القمامة في مدارات المركبات والمسابير الفضائية والمحطة الفضائية الدولية أيضًا، وتشكل خطرًا حقيقيًا للاصطدام بها. حتى أن أصغر الأجسام الدائرة في مدار المحطة الفضائية المنخفض، (لنقل 1 غرام فقط)، بسرعتها التي تصل إلى 30000 كلم/ساعة (حوالي 8 كلم بالثانية الواحدة)، تملك طاقة اصطدام تفوق طلقة رشاش «دوشكا» الروسي (20 غرام بسرعة 850 مترًا بالثانية) الخارق للدروع بأكثر من 5 مرات! وهي تتسبب بضررٍ كبير خاصة حين تتعرّض لها الألواح الشمسية وصحون الإلتقاط والتلسكوبات وبقية الأجهزة الحساسة في المركبات الفضائية.
والحطام الفضائي ليس دائمًا نتيجة الضرورة أو الصدفة، بل أحيانًا يكون مفتعلًا. ففي عام 1985م دمرت الولايات المتحدة الأمريكية قمرًا صناعيًا يزيد وزنه عن طن واحد على ارتفاع 525 كلم، ناثرًا آلاف الحطام التي أخذت بعدها تتساقط على الأرض على مهل خلال عقد من الزمن. وعام 2007م أطلقت الصين واختبرت برنامجًا للصواريخ المضادة للأقمار الصناعية. وعام 2009م اصطدم القمر الصناعي الأمريكي «إيريديوم» بالقمر الصناعي العسكري الروسي «كوسموس» عن طريق الخطأ، بحسب ما أُعلن وقتها. كما أن الهند قامت منذ بضع سنوات بتجارب صاروخية لإسقاط قمر صناعي في مدار مرتفع. وتعتبر هذه الحوادث أكثر ما لوّث الفضاء بآلاف قطع الخردة الفضائية الكبيرة في مدار مهم بين 800 إلى 900 كلم فوق سطح الأرض.
الأقمار الاصطناعية ضرورة متزايدة، والحطام لا بد منه... فما العمل؟!
بالرغم من عدم وجود معاهدة دولية للحد من النفايات الفضائية، إلا أن الحضارة البشرية لم تعد قادرة على الاستغناء عن الأقمار الاصطناعية المتزايدة، المتنوعة الأحجام والمهام. فالاتصالات عبر الأقمار الصناعية، على سبيل المثال، تعمل على تحسين نوعية الحياة، ويساهم استشعار الأرض عن بعد من الفضاء في الدفاع الوطني ويوفر معلومات عن الأحوال الجوية ونوعية البيئة، كما أن استكشاف الكواكب والتجارب التي يتم إجراؤها في الفضاء يزيد من مخزوننا من المعرفة.
وتشير التقديرات إلى أن كمية الحطام في الفضاء تتضاعف كل عقد، والتكنولوجيا الحالية تسمح لنا باكتشاف وتتبع قطع الحطام التي يتجاوز قطرها 10 سنتيمترات فقط. واستجابة للتهديد المتزايد الذي يشكله الحطام، بدأ صناع القرار بالنظر في استراتيجيات لإبطاء زيادة الحطام الناتج عن الأنشطة البشرية وتطوير تقنيات لحماية المركبات الفضائية من الحطام، عن طريق إضافة دروع مكلفة مقاومة للرصاص.
وقد بات أمر رصد وتتبع قطع الحطام الفضائي الكبيرة مهمة إضافية تؤديها مراكز الأبحاث الفضائية وتبحث عن حل لهذه المعضلة، وكان الرادار الألماني «تيرا» واحدًا من هذه الحلول المقترحة.
أوربا تنهي تجهيز «تيرا» لرصد الحطام
بعد حوالي 50 عامًا على البدء ببناء التلسكوب الراداري «تيرا» (TIRA) لمهمة مراقبة الفضاء ورصد الأجسام الصغيرة، أنهت الوكالة الأوربية للفضاء «إيسا» (ESA) تغليف ذلك الرادار الحساس بغطاء صلب ومتين بلغ قطره 47 مترًا، ويمكن رؤيته على شكل «كرة جولف» بيضاء من مسافة بعيدة.
وتيرا نفسه هو صحن هوائي مكافئ قطره 37 مترًا، يتم تشغيله من قبل معهد فراونهوفر الألماني للفيزياء عالية التردد، ويقع في «واتشبيرغ» في ألمانيا. ويُستخدم «تيرا» على صعيد عالمي للحصول على قياسات دقيقة للحطام الفضائي، وللأقمار الصناعية العاملة، وللحصول على صور الأجسام التي تخرج عن نطاق السيطرة.
زوار اللحظة الأخيرة... ونفاياتهم
لمئات ملايين السنين بقيت الأرض تتمتع بطبيعة خضراء خصبة وحياة صاخبة لمخلوقات متنوعة في بيئة نظيفة حاضنة، في البر والبحر والجو... لكن، في البرهة الأخيرة من تاريخ الأرض، ظهرنا كجنس ذكي بين المخلوقات، لتتطوّر معارفنا وعلومنا، وتزدهر صناعاتنا وابتكاراتنا، وتغزو مراكبنا أبعاد البر وأعماق البحر وآفاق الفضاء... لكن مقابل ثمن كبير تدفعه بيئة الأرض. لقد بات التلوّث سمة العصر في كل معطىً بيئي، فجبال النفايات تتراكم هنا وهناك في الحاضرات المدنية وخارجها، ومياه المحيطات باتت عرضة للأمطار الحمضية التي تضيّق على المخلوقات البحرية حياتها، وحتى الفضاء المحيط بالأرض بات مفخخًا بملايين الألغام من صنع البشر، ألغام باتت تهدد طموحهم الجارح لاكتشاف الفضاء.
نحو تعاون دولي لبيئة فضائية مستدامة
الخبراء في وكالات الفضاء الدولية باتوا يحذّرون من أن معدل تراكم الحطام قد يجعل العديد من المواقع المدارية غير صالحة للاستخدام في غضون عشرين عامًا... فكثير من الحطام الفضائي في المدارات المنخفضة التي تقل عن 2000 كلم تفقد مداراتها تدريجيًا بسبب اضطرابات الجاذبية القمرية والأرضية وبسبب ضغط الريح الشمسية، وتنتهي بالنزول البطيء نحو الأرض في ظل مقاومة متزايدة للهواء، وتحترق في الغلاف الجوي أو تسقط على سطح الأرض. لكن الحطام الدائر على ارتفاعاتٍ أعلى، حيث يكون الهواء منعدمًا، يستغرق اضمحلاله المداري وقتًا أطول بكثير قد يصل لآلاف السنين.
ومثل كل قضية عالمية شائكة، لا يتحرّك المعنيون إلا حين تفاقمها، بات هناك حاجة فعلية إلى تعاون دولي لوضع قواعد وحوافز بغية تقليل الحطام أو إزالته. فمع ازدحام السماء بآلاف المركبات المدارية، باتت مشكلة النفايات الفضائية تمثل مشكلة دولية، خاصة للدول التي لديها مشاريع فضائية أو تلك التي باتت على أبواب عصر الفضاء.
وعلى غرار مشروع البيئة الأرضية المستدامة، فإن الحاجة باتت ملحة لبيئة فضائية مستدامة من شأنها أن تلبي احتياجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. وكما أن التنمية المستدامة لا تتطلب وقف جميع الأنشطة الملوِّثة، فإن البيئة الفضائية المستدامة لا تتطلب بالضرورة غياب الحطام كليًا في الفضاء.
في جميع الأحوال لا يمكن انتظار سقوط الخردة الفضائية بشكل تلقائي، خاصة أن تتبعها من الأرض بات ممكنًا عبر أجهزة الرادار والليدار والتلسكوبات المتخصصة. وقد تمت دراسة مجموعة من الأساليب لإزالة الحطام الفضائي المنتشر على أكثر من مدار، أو التخفيف منه بشكلٍ ملموس. بين هذه الأساليب استخدام أشعة ليزر لإبطاء سرعة قطع الحطام وإنزالها بالتالي الى «المدارات المقابر» أي المدارات المنخفضة التي تتيح السقوط التلقائي للحطام في الغلاف الجوي. كما اقترحت أساليب أخرى تستخدم إطلاق كرات رغوية أو رذاذ مائي أو مواد هلامية، وذلك لتثقيل قطع الحطام وبالتالي تغيير توازنها المداري.
ومنذ العام 2012م تعمل وكالة الفضاء الأوربية على مهمة إزالة القطع الكبيرة من الحطام الفضائي، من المدارات المنخفضة حول الأرض، خاصة تلك التي تزيد كتلتها عن أربعة أطنان. وفي عام 2014م، أطلقت وكالة الفضاء اليابانية «جاكسا» مركبة اختبارية اختبرت جمع الخردة الفضائية من المدار باستعمال شبكة من الحبال. وعام 2019م، أعلنت وكالة الفضاء الأوربية «إيسا» عن منح أول عقد لتنظيف الحطام الفضائي، بكلفة أولية تبلغ 120 مليون يور، على أن ينطلق المشروع في العام الحالي 2025م ■