التذوق الاجتماعي استراتيجية تقليل أضرار وسائل التواصل

التذوق الاجتماعي استراتيجية تقليل أضرار وسائل التواصل

أوصت دراسة لمجموعة من الباحثين الأمريكيين بتنمية مهارة التذوق الاجتماعي، باعتبارها استراتيجية تدخل ناجعة للحد من الآثار السلبية للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي في مقدمتها المستويات المرتفعة من الاكتئاب، والقلق، وتدني تقدير الذات، والشعور بعدم الرضا عن الحال من جراء عقد المقارنات الاجتماعية. 

 

يقوم مصطلح التذوق الاجتماعي على ملاحظة حدوث الأمور الطيبة، وتصويب الانحياز السلبي في فهمنا للآخرين. وقد بني على مفهوم التذوق الذي يعني، في علم النفس، الحضور وتقدير الخبرات الإيجابية في الحياة. وهو ما يتطلب درجة من التأمل والوعي الماورائي، فيمكن تذوق الماضي بتذكر لحظات مرحة مع أصدقاء المدرسة؛ أو تذوق الحاضر، كما نتذوق وجبة نتناولها ونتأمل مذاقها ورائحتها. ويمكن أن نتذوق المستقبل بتصور رحلة قادمة خططنا لها. وهناك تذوق للتجارب عمومًا مع تركيز متعمد على تقدير الأحداث الإيجابية؛ ويشمل الأحاسيس والعواطف والتصورات والأفكار والسلوكيات المرتبطة بالبيئة المحددة التي ننغمس فيها، كالجلوس على الشاطئ والشعور بنسيم البحر في أثناء مشاهدة غروب الشمس. وتذوق لردود أفعال حدث إيجابي بتضخيم - أو تخفيف - شدة المشاعر الإيجابية ومدتها. ويتضمن التذوق توافر القدرة على التواصل مع اللحظة الراهنة، والتحرر من المسؤوليات الاجتماعية، ومقابلة الاحتياجات الجسدية والنفسية الأساسية. ولا يهدف إلى تجاوز الذات، بل التركيز على المشاعر الممتعة التي تعيشها الذات. وبإضافة البعد الاجتماعي تم توفيق المفهوم ليصبح عملية شخصية وتعاطفية، تركز على الشعور بالسعادة والابتهاج بتجارب الآخرين الإيجابية، وعيش لحظات سعيدة بدلًا من الاسترسال في عقد مقارنات محبطة والتحسر على النفس. 

سعادة اجتماعية 
قدم التدخل القائم على التذوق الاجتماعي في الدراسة التي شارك فيها 55 طالبًا جامعيًا كمهمة يكلف بها المشاركين، كمراقبة لحظات بهيجة يعيشها شخص آخر، والتفكير فيما سيشعر به هذا الشخص إذا مر بهذه الخبرة، ثم يطلب منهم السماح لأنفسهم بالشعور على ذلك النحو، والفرح لذلك الشخص الآخر. وتم تقييم تفاعلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي لمدة سبعة أيام، قبل تلقي التدخل، وستة أيام بعد تلقيه، وذلك فيما يتصل بالمقارنة الاجتماعية، واحترام الذات، الشعور بالاكتئاب، والوحدة، والترابط الاجتماعي، وسوى ذلك، عبر استبيانات يومية تسلم عبر رسائل نصية أو البريد الإلكتروني. وبعد الانتهاء من الاستبيانات اليومية السبعة الأولى، شاهدت مجموعة من المشاركين- تم اختيارها عشوائيًا بنسبة 47 في المئة من العينة فيديو التدخل، وتم توجيه أعضاء المجموعة نحو ممارسة هذه المهارة يوميًا لخمس دقائق، ثم مواصلة استكمال الاستبانة اليومية، والمسوح في الأيام اللاحقة. ولم يتلق المشاركون في المجموعة الأخرى، التي تشكل نسبة 53 في المئة، أي مواد جديدة سوى المسوح اليومية. وفي اليوم الأخير من الدراسة، أكمل المشاركون المسح البعدي، الذي تضمن عناصر لتقييم خبرتهم مع التدخل بالإضافة إلى نفس العناصر الموجودة في المسح الأساسي الذي جرى في اليوم الأول. 
ومما يذكر أن المشاركين قد استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعلوا مع محتويات ذات علاقة بموضوعات كاللياقة البدنية والرياضة، والنظم الغذائية وتناول الطعام، والطهي، والقضايا السياسية والمجتمعية، وموضوعات الجمال، والطبيعة، والحيوانات، والفن، وقضاء الإجازات، إضافة إلى محتوى كوميدي. ومن مواد التدريب على ممارسة التذوق الاجتماعي المقدمة، فيديو رسوم متحركة من سبع دقائق تناول مفهوم المقارنة الاجتماعية على وسائل التواصل الاجتماعي، ووضح دور التذوق الاجتماعي في تقليل تأثير المقارنات الاجتماعية على السلامة النفسية، مع إرشادات مفصلة لكيفية ممارسة هذا النوع من التذوق. واستخدم الباحثون - متعمدين - شخصيات غير بشرية في الفيديو لتقليل احتمال مقارنة المظهر الجسدي مع الممثلين في الفيديو. ثم طلب منهم ممارسة التذوق الاجتماعي مرة واحدة على الأقل قبل إجراء الاستطلاع اليومي.
وفي اليوم الأخير طرحت أسئلة مفتوحة على المشاركين تستطلع آراءهم ومقترحاتهم فيما يخص مهارة التذوق الاجتماعي. وأكدت غالبية المشاركين العظمى انخراطهم في المقارنة الاجتماعية على وسائل التواصل الاجتماعي مرة واحدة على الأقل خلال مدة المسح اليومي. وأكد 40 في المئة تقريبًا من العينة أن شعورهم كان أسوأ، أو أسوأ بكثير بعد المقارنة، ولم يشعر بشعور أفضل، أو أفضل كثيرًا بعد المقارنة سوى 4 في المئة. وأكدت المجموعة المشاركة في التدريب أن ممارستهم للتذوق الاجتماعي حسنت شعورهم. 
وتعليقًا على الدراسة، أيد الطبيب النفسي
د. هنري إيمونس ترك المقارنة الاجتماعية والتركيز على الآخر، والتعاطف معه، والفرح معه، من أجل صحة نفسية أفضل. ونصح بأن ينظر كل منا إلى قصته الشخصية الكبرى، ويرى أهميتها وتأثيرها، وينتبه إلى حقيقة أن ما يشاهد ليس سوى مقتطفات من قصص الآخرين؛ وأن صناع المحتوى أو المشاهير لا يقصدون إيذاءنا، بل نحن ما نفعل ذلك بأنفسنا عندما نعقد المقارنات غير منطقية. وقال إن الوعي بذلك كفيل بتغيير الشعور بالاستياء. فالتذوق الاجتماعي في رأيه سعادة اجتماعية. ودائمًا ما يكون أمامنا خيارين: إما أن نسترخي ونستقبل خبرات الآخرين ونحتفي بها، ونشعر على نحو طيب، أو ننزعج بالمقارنة ونكمش ونستاء. وفي جميع الأحوال يجب أن نعمل على تطوير أنفسنا، واكتشاف ذواتنا السعيدة وأن نتقدم في حياتنا بالتخلص من عاداتنا السلبية المعكرة للمزاج. ونعيش اللحظة الراهنة بدلًا من الهروب إلى المستقبل لاعتقادنا أن السعادة غير ممكنة الآن ما لم تتحسن الظروف. 

مقارنات الرجال والنساء 
وفقًا لدراسات عديدة، يميل معظمنا إلى المقارنات الاجتماعية، التي تنبع، في جانب منها، من الحاجة إلى تقييم الذات. وتتنوع المقارنة الاجتماعية ما بين مقارنة مع أشخاص نعتقد أنهم أفضل منا وأوفر حظًا، وأكثر منا جمالًا أو ثراء أو ذكاء - وهنا إما أن نركز على الفارق بيننا وبينهم واستحالة بلوغ مكانتهم، فنبتأس ويتداعى تقديرنا لذواتنا، وربما نشتعل حسدًا، فتعتل صحتنا النفسية والعقلية، أو نجعلهم مصدر إلهام لنا فيكونون المحفز لتطورنا الذاتي - ومقارنة مع من نعتبرهم أندادًا لنا ونتشابه معهم في بعض الجوانب، وبالإمكان أن نصبح مثلهم بل ونتفوق عليهم؛ ومقارنة ثالثة مع من نراهم أقل منا، فتتحسن النظرة إلى الذات، ونحمد الله على ما نحن فيه، ونسترخي، وقد يصيبنا بعض الغرور، ونتقاعس عن السعي وراء التطور. أو يجهدنا التعاطف مما يفضي إلى أثر سلبي على حالتنا النفسية والعقلية أيضًا.
وتؤكد عشرات الأوراق البحثية أن أكبر المتضررين من المقارنات الاجتماعية من فئتي النساء والشباب. وذكرت دراسة أجرتها جامعة ماركيت الأمريكية، أن من أسباب تطرف المقارنات التعرض لضغوط مجتمعية وتسويقية فيما يتعلق بأهمية الجمال. كأن يلجأ مصنعو منتجات التجميل لحيل تقديم سيدة جميلة أو رجل وسيم يبدوان أسعد، وأكثر ثقة، وأوفر صحة وثراء. ويعدون المستهلك بوضع مشابه إذا ما استخدم المنتج! وهو ما أدى إلى ظهور مصطلح «مرض الجمال» الذي يدفع البعض إلى الجري وراء النسخة الأجمل منهم، والإنفاق بسخاء للحصول على آخر الصيحات. وأكدت دراسة سألت عشرات الفتيات والسيدات عن المشاعر والأفكار التي تنتابهن عند مطالعة مجلة نسائية، وما فيها من إعلانات، أن أكثر من ثمانين في المئة عقدن مقارنة اجتماعية واحدة على الأقل. واعتقدن أنهن سيصبحن أسعد لو كن أنحف. أو قلن لأنفسهن: «لا أستطيع أكون جميلة هكذا». وخلصت إلى أن السيدات اللاتي يعانين من عدم رضا عن مظهرهن هن الأكثر مقارنة. أما الرجال فكثيرًا ما يقارنون أجسامهم بأنفسهم في المستقبل، ويتخيلون كيف يمكن أن يصلوا إلى أهدافهم. فيكتسبون قوة لتحقيق خيالهم والمظهر الذين يتمنون. 
ونصحت دراسة أخرى لمجموعة من الباحثين بقسم الطب النفسي بكلية طب كاستوربا الهندية - تناولت تأثير استخدام إنستغرام على الشباب في العقدين الثاني والثالث، فيما يتعلق بالصورة الذهنية للجسد، ودافعية ممارسة التمارين الرياضية، والمقارنة الاجتماعية، كمفاهيم تشكل الطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى أنفسهم وإلى الآخرين - بتوعية الفتيات والنساء بالمخاطر المرتبطة بالصور الذهنية المشوهة للجسد، وتدني تقدير الذات، وعدم الرضا عن المظهر؛ وتعزيز العوامل التحفيزية الجوهرية لدى الرجال الذين يمارسون الرياضة بانتظام إلى الحد الذي يمكنهم من العيش بكفاءة عبر لمس الفرق بأنفسهم، بدلًا من الاندفاع وراء معايير خارجية لبناء الأجسام واللياقة البدنية التي يتم تصويرها في وسائل التواصل الاجتماعي. 
هذا، ويمكن أن تشغلنا عملية إثراء حيواتنا، بإضافة أنشطة مفيدة كالقراءة أو الأعمال اليدوية، عن معرفة ما يفعل الآخرون. فكما ذكرت دراسة نشرت في 2017م حول الصورة الذهنية للجسد أن النساء تتأثر بدرجة أقل بالمقارنة الاجتماعية عندما تكون عقولهن مشغولة بأمور مهمة أو لديهن مهمات يقمن بها. واعترفن أن المقارنة تجعلهن يشعرن على نحو سيئ تجاه أنفسهن. وكان قد طلب من المشاركات في الدراسة وضع درجة لمستوى مزاجهن ورضاهن عن مظهرهن. وبعد تقسيمهن إلى مجموعات طلب من مجموعة تذكر أرقام من 8 خانات، وطلب من الثانية تذكر أرقام بسيطة، ولم يطلب شيء من الثالثة، وبعد رؤية صور لأشخاص، طلب منهن وضع درجات لمزاجهن وجاذبيتهن مرة أخرى. واتضح أن النساء المشغولات بتذكر الأرقام المعقدة أقل تأثرًا برؤية الصور في المجلة، واللاتي تذكرن الأرقام البسيطة واللاتي لم يفعلن شيئًا انخفض لديهن مستوى الأمزجة والجاذبية. 

تشخيص  
في كتابها «13 شيء لا تفعله النساء القويات عقليًا» اقترحت آمي مولين أسئلة لتشخيص ميلنا للمقارنة الاجتماعية، مثل: هل تعتقد أن الآخرين أسعد منك وأكثر جاذبية، ويعيشون حياة أفضل؟ وهل تتعامل مع الحياة كمسابقة، وترى من حولك منافسين؟ وهل تشعر بالحسد عندما ينجح الآخرون؟ وهل تنفق وقتًا في التفكير فيما إذا كان الآخرون أفضل منك ماديًا؟ وعندما تقابل أشخاصًا لأول مرة، هل تبدأ على الفور في تقييم نفسك مقارنة بهم؟ وهل تشعر بأنك أفضل عندما تعتقد أنك أجمل أو أكثر وسامة ممن حولك؟ وعندما تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وترى أشخاصًا هل تسأل من أفضل منك، أو أسعد منك، أو يتمتع بقوام أنحف، أو أوفر حظًا منك؟ وهل تجد نفسك مواكبًا لأصدقائك لأنك تشعر أنهم يعيشون حياة أفضل منك؟ وهل تخاف أن تكون الأغبى أو الأفقر أو الأقل جمالاً في المكان؟ وهل تشعر بعدم الأهمية وعدم الأمان إذا قابلت من يحمل ألقابًا وظيفية؟ ولابد أن تحدد إجاباتنا مدى حدتنا لممارسة التذوق الاجتماعي ■