اللعب غير المنظم إطلاق العنان للإبداع والمهارات الاجتماعية

في عالم الأطفال اليوم حيث تطغى الأنشطة المنظمة على الاستكشاف العفوي، وحيث يقضي الأطفال وقتًا طويلًا على وسائل الترفيه الإلكترونية، أصبح اللعب غير المنظم، أو اللعب الحر، مهمشًا بشكل متزايد. لكن هذا النوع من اللعب هو جانب أساسي من جوانب نمو الأطفال، بما يتيحه من حرية الاستكشاف والإبداع والتعبير عن النفس دون تدخل الكبار، وبالتالي فهو يعزز مجموعة من الفوائد التنموية التي تعد حاسمة لنمو الأطفال العاطفي والاجتماعي والإدراكي. لذلك نحاول في هذا المقال، أن نسلط الضوء على هذا التحول الثقافي في تربية الأطفال ومسبباته، لا سيما فيما تأتّى عنه من تراجع القيمة الممنوحة للاستكشاف المستقل واللعب غير المنظم كمكونات أساسية للنمو السليم. وأخيرًا، الدعوة إلى إعادة إدراج هذا النوع من اللعب في حياة الأطفال لتزويدهم بفوائد تمتد معهم إلى مرحلة البلوغ، وللمساعدة في تنشئتهم كأفراد متكاملين قادرين على الازدهار في عالم متزايد التعقيد.
مما لا شك فيه أن للعب أهمية كبرى في حياة الأطفال لا سيما أنه، بالنسبة لهم، هو نشاط فطري وسبيلهم الأساسي لاكتشاف العالم، وهو لغتهم الطبيعية التي يعبّرون بها عن أنفسهم، والطريقة التي يتصرفون بها وفقًا لتجاربهم ويقيمون روابط تساعدهم على فهم ما يدور من حولهم. كما أنه، بالنسبة للأطفال، ليس رفاهية بل هو حاجة، والسبيل الذي يتعلمون فيها كيف يتعلمون. ولكن اللعب نفسه ينقسم إلى نوعين اثنين، وهما اللعب المنظم وغير المنظم، الذي غالبًا ما يُشار إليهما بـ«اللعب الحر» أو «اللعب الذاتي»، حيث يكمن الفرق بينهما في أن اللعب غير المنظم يتم بدون إرشادات محددة مسبقًا، وهو، على عكس اللعب المنظم، لا يتم توجيهه من قبل المدربين، ولا توجد فيه فرق منظمة، ولا زي موحد، ولا يتطلب تدخل المعلمين والآباء وغيرهم من البالغين لوضع التعليمات أو القوانين. إنه أكثر عفوية، بحيث غالبًا ما يتم اختلاقه على الفور فيكون وليد اللحظة. وفيه ينخرط الأطفال، عمومًا، في لعب مفتوح بدون أي هدف تعليمي محدد، بحيث تكون الألعاب مدفوعة من قبل الأطفال أنفسهم مما يسمح لهم بحرية الإبداع والاستكشاف والارتجال من دون عوائق.
لماذا أصبح مهمشًا؟
إن أطفال اليوم باتوا يقضون وقتًا أطول في الدراسة والرياضات التنافسية والترفيه الإلكتروني السلبي مقارنة بالأجيال السابقة، فضلًا عن أن الحملات التسويقية وخبراء التربية في العصر الحالي أصبحوا يعملون على إدامة الرسالة التي مفادها أن أطفالنا سيكونون في وضع غير مؤات إذا لم يشاركوا في التعلم المستمر، أو إذا لم ينشغلوا بأحدث الألعاب «التعليمية». نتيجة لذلك، تشير الأبحاث إلى أنه على مدى العقدين الماضيين، فقد الأطفال اثنتي عشرة ساعة من وقت الفراغ أسبوعيًا، بما في ذلك ثماني ساعات من اللعب غير المنظم والأنشطة الخارجية. ومن جهة أخرى، تضاعف مقدار الوقت الذي يقضيه الأطفال في الألعاب الرياضية المنظمة، كما ازداد الوقت الذي يخصصه الأطفال للترفيه السلبي، من خلال مشاهدة البرامج التلفزيونية والانخراط في الألعاب الإلكترونية.
أما عن الأسباب وراء تراجع اللعب غير المنظم، بالتحديد، واستبداله بالكثير من الأنشطة المنظمة، فيعود أولاً، إلى زيادة الاهتمام بسلامة الأطفال، فالآباء اليوم يشعرون بقلق أكبر بشأن المخاطر المحتملة التي يمكن أن تهدد أطفالهم، بما في ذلك الحوادث والاختطاف وغيرها من التهديدات، وقد دفع هذا القلق العديد من الآباء إلى تقييد أنشطة أطفالهم الخارجية، واختيار زيادة الإشراف بدلًا من ذلك. وثانيًا، يلعب التركيز على التحصيل الأكاديمي دورًا حاسمًا في تقليل وقت اللعب غير المنظم، فمع تزايد الضغوط على الطلاب لتحقيق أداء أكاديمي جيد، خفضت العديد من المدارس من وقت الاستراحة والوقت الحر من أجل تخصيص المزيد من الساعات للتعليم والواجبات المنزلية. كما أدى التركيز على الاختبارات الموحدة والمناهج الصارمة إلى الحد من الفرص المتاحة للأطفال للمشاركة في اللعب الحر أثناء ساعات المدرسة، وثالثًا، أثر ظهور التكنولوجيا على أنماط لعب الأطفال، فمع ظهور الهواتف الذكية وألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي، بات الأطفال ينجذبون، بشكل متزايد، إلى شاشات الترفيه، وفي حين أن التكنولوجيا يمكن أن تقدم بعض الفوائد، إلا أنها غالبًا ما تؤدي إلى سلوك خامل وتقلل من وقت اللعب في الهواء الطلق. وفي هذا الإطار، يشتكي العديد من الآباء اليوم أن أطفالهم باتوا يقضون قدرًا كبيرًا من الوقت في الداخل منشغلين بالشاشات بدلًا من اللعب في الخارج مع الأصدقاء.
لكن ما يخسره الأطفال مع تراجع الوقت الذي يقضونه في الألعاب غير المنظمة لا يقدر بثمن، لا سيما أن هذا النوع من اللعب أكثر ما يساهم في تعزيز الإبداع وينمي التطور المعرفي والاجتماعي والعاطفي بشكل كبير.
تعزيز الإبداع وحل المشكلات
يقول عالم النفس السويسري جان بياجيه إن اللعب هو «الجواب على السؤال كيف يأتي أي شيء جديد»، وبالفعل ينعكس ذلك في اللعب غير المنظم الذي يشبه ملعبًا سحريًا تنطلق فيه مخيلة الأطفال وتجول بحرية مطلقة. فعندما يكون الأطفال أحرارًا في الاستكشاف دون قواعد أو توقعات مسبقة، تزدهر إبداعاتهم بطرق لا محدودة، وقد يتحولون إلى مخترعين صغار وحلالي مشاكل ومؤلفي سيناريوهات خيالية. في عوالمهم المتخيلة قد يحوّلون صندوقًا من الورق المقوّى إلى مركبة فضائية، أو ستارة غير قابلة للاستخدام إلى خيمة مخروطية الشكل. وقد يبتكرون قصصًا معقدة حين تقرر مجموعة من الأطفال، مثلاً، تمثيل مغامرة القراصنة باستخدام العصي كسيوف والبطانيات كأشرعة، أو حين يمثلون أدورًا أخرى حيث يكون أحدهم البطل الخارق الذي يتفوق على الشرير وينقذ العالم. في أثناء اللعب الحر، عندما يبني الأطفال الحصون بالوسائد أو الهياكل المعقدة بالقطع الخشبية، مثلاً، يستطيعون اختبار مفاهيم التصميم والهندسة، وعندما يواجه أحدهم تحدي جعل الحصن مستقرًا، فإنه ينخرط في التفكير النقدي وحل المشكلات - وهي مهارات ضرورية للتنمية الإبداعية. أما اللعب الحر في الطبيعة فلا يسمح باستكشاف العالم الطبيعي، فحسب، بكل عوامله وقوانينه ومواده التي تقدم دروسًا لا تحصى، وإنما يوفر، أيضًا، فرصًا لا حصر لها للإبداع، حين يجمع الأطفال مواد طبيعية كالأوراق والحجارة والعصي، مثلاً، لبناء هياكل فنية أو تصميم عوالم خيالية، وهو الأمر الذي يعزز تقدير الطبيعة مع تشجيع الاستخدام الخيالي للأشياء اليومية.
أداة لتطوير المهارات الاجتماعية
غالبًا ما يُنظر إلى اللعب على أنه وسيلة للراحة من التعلم الجاد، ولكن بالنسبة للأطفال، فإن اللعب هو تعلم جاد بحد ذاته، خاصة لما يمكن أن يتعلمه الأطفال من مهارات اجتماعية وحياتية مهمة. فاللعب غير المنظم هو بمثابة دورة تدريبية مكثفة في الديناميكيات الاجتماعية، لما يسمح به للأطفال من تعلم كيفية العمل في مجموعات، والمشاركة، والتفاوض، وحل النزاعات، والتفكير المتشعب واكتساب مهارات الدفاع عن النفس. عندما يتفاوض الأطفال على الأدوار في الألعاب أو يحلون النزاعات حول كيفية اللعب، فإنهم يتعلمون دروسًا قيمة في التواصل والتعاون والتعاطف. على سبيل المثال، عندما يدخل طفلان في نقاش حول من يحصل على منصب القائد في لعبة ما، يكون عليهما التفاوض على شروط ترضي الطرفين، وصقل مهاراتهما الدبلوماسية في هذه العملية. وعندما يلعب مجموعة من الأطفال لعبة «البيت»، مثلاً، فهم يمضون وقتًا أطول في معرفة كيفية وشروط اللعب أكثر من اللعب الفعلي بحد ذاته، بحيث يسود التفاوض على كل شيء - من سيؤدي دور الأم ومن يجب أن يكون الطفل، ومن يستخدم أي أدوات، وكيف ستتكشف الدراما من خلال اللعب مع الأقران، باختصار، يتعلمون كيفية تنظيم عواطفهم ومعالجة مشاعرهم.
ومن أهم الأسباب وراء كون اللعب وسيلة قوية لنقل المهارات الاجتماعية هو أنه طوعي، فاللاعبون أحرار دائمًا في الانسحاب من اللعب وهم الذين يقررون إذا ما أرادوا الانخراط فيه أصلاً. كما يكون هدف كل لاعب يريد الاستمرار في اللعبة، هو إشباع احتياجاته ورغباته، إلى جانب إشباع احتياجات ورغبات اللاعبين الآخرين، أيضًا، حتى لا ينسحبوا من اللعبة فيكون عليه إرضاؤهم أيضًا، وبالتالي فهو ينطوي على الكثير من التفاوض والحلول الوسط.
وسيلة للتعبير العاطفي
تقول ريبيكا سموثرمان، مديرة معهد العلاج باللعب بجامعة ولاية ميسوري الأمريكية أن: «اللعب الإبداعي يمنح الأطفال فرصة للتعبير عن أنفسهم قبل أن يطورا طريقة للقيام بذلك لفظيًا». فاللعب غير المنظم يوفر مساحة آمنة للتعبير العاطفي إذ، من خلاله، غالبًا ما يختبر الأطفال مشاعر معقدة قد يصعب عليهم فهمها في أي إطار آخر. ففي بيئات اللعب غير المنظمة، يمكنهم التعبير عن مختلف المشاعر من خلال الأفعال بدلًا من الكلمات، فعلى سبيل المثال، قد يوجه الطفل ما يحمله من مشاعر الإحباط نحو بناء شيء ما أو الانخراط في سيناريوهات خيالية حيث يمكنه ممارسة السيطرة على بيئته، مما يسمح له بمعالجة مثل هذه المشاعر بطريقة سليمة. وكل ذلك يساهم في تطوير ذكائه العاطفي من خلال تمكينه من التعرف على عواطفه وتحديدها، وهذا الذكاء العاطفي أمر بالغ الأهمية للتنمية الشاملة من حيث مساعدة للأطفال على التنقل في بيئات اجتماعية معقدة في وقت لاحق من الحياة.
وأخيرًا، ولمعرفة مدى أهمية اللعب غير المنظم، يمكننا العودة الى ما قاله ألبرت أينشتاين بأن «الخيال أكثر أهمية من المعرفة: وذلك لأن المعرفة محدودة، بينما الخيال لا حدود له، ويحتوي العالم كله»، لا سيما أنه في مثل هذا النوع من اللعب يتحرر الخيال ويحدث السحر وتسلل المعرفة من الباب الخلفي. لذلك ليس علينا ألا نقلق إذا ما رأينا أطفالنا يلعبون بطريقة فوضوية ويتصرفون وفقا لطبيعتهم الطفولية من دون قوانين ولا أنظمة، فعقلهم الصغير يكون في حالة عمل مستمر. ولعله من المفيد، أيضًا، أن نتذكر أن الطفولة عابرة، لكن المهارات التي يكتسبها الأطفال من خلال اللعب ستستمر معهم مدى الحياة ■