كيف وصل البشر إلى كل ركن من أركان الكوكب؟

كيف وصل البشر إلى كل ركن من أركان الكوكب؟

هذا الكتاب المذهل سوف يعصف بذهنك بعيدًا، من خلال سرد ثري ورائق عن المكان الذي أتينا منه. يحكي ديفيد رايْك القصة المدهشة لكيفية وصول البشر إلى كل ركن من أركان الكوكب، والذي لم يتم الكشف عنه إلا بعد أن أظهر، هو وغيره من العلماء، أسرار الحمض النووي وسوف تجبرك الجرأة والحساسية والتفرد الشديد على تبديل طريقة تفكيرك في معنى النسَب والعِرق.
هكذا يرى دانييل إي ليبرمان، أستاذ البيولوجيا البشرية بجامعة هارفارد، كتاب ديفيد رايْك، الذي عنونه بـ«من نحن وكيف وصلنا إلى هنا؟... الحمض النووي القديم والعلم الجديد لماضي البشرية»، وفيه يقول رايك إنه يمكننا الآن تحويل جزء كبير من العينات التي تم فحصها، والتي يرجع تاريخها إلى العشرة آلاف سنة الماضية إلى بيانات الجينوم الفاعلة، ذاكرًا أن الأساليب الجديدة قد سهلت تحليل مئات العينات في دراسة واحدة، وباستخدام هذه البيانات نستطيع إعادة بناء التغيرات السكانية بتفاصيل رائعة، سوف تغير من استيعابنا للماضي.

 

 في كتابه الذي ترجمه طارق فراج وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، يرى ديفيد رايك، أن ثورة الحمض النووي القديم تعرقل بسرعتها الرهيبة افتراضاتنا حول الماضي، ومع ذلك لا يوجد في الوقت الحالي كتاب لأحد العلماء العاملين في مجال علم الوراثة، يمكن أن يوضح تأثير العلم الجديد، أو يشرح كيف يمكن استخدامه لإثبات حقائق جديدة مقنعة، مشيرًا إلى أن النتائج المطلوبة لفهم مجال ثورة الحمض النووي القديم منتشرة بين أوراق علمية تصعب قراءتها، ومليئة بالمصطلحات التي تستكمل في بعض الأحيان بمئات الصفحات من الملاحظات الكثيفة حول منهجية البحث، مؤكدًا أنه يهدف من وراء كتابه هذا إلى تقديم نظرة واضحة من خلال نافذة استثنائية على الماضي، مقدمًا كتابًا عن ثورة الحمض النووي القديم للقارئ العادي والمتخصص، دون أن يكون هدفه هو تخليق أو تركيب جديد، خاصة وأن حقل الجينوم يتحرك بسرعة كبيرة.
يسلط ديفيد رايك الضوء على بعض الموضوعات العظيمة الطارئة، لا سيما اكتشاف أن الاختلاط بين السكان شديدي التمايز هو عملية متكررة في الماضي البشري، مشيرًا إلى أن النظرية القديمة حول «العِرق» قد ثبت أنها خاطئة في السنوات القليلة الماضية، كما أن نقد مفاهيم العرق التي توفرها البيانات الجديدة تختلف تمامًا عن النظرية الكلاسيكية التي طورها علماء الأنثروبولوجيا على مدار المائة سنة الماضية، ذاكرًا أن المفاجأة الكبرى التي تنبثق عن ثورة الجينوم هي أنه في الماضي القريب نسبيًّا، كان البشر مختلفين تمامًا عن بعضهم البعض، كما هي الحال اليوم، لكن خطوط الصدع بين السكان كانت تقريبًا مختلفة بشكل غير معروف، وأن الحمض النووي المستخرج من بقايا أشخاص عاشوا قبل عشرة آلاف سنة تقريبًا يدل على أن البنية السكانية للمجموعات البشرية في ذلك الوقت كانت مختلفة نوعيًّا.

ثورة الجينوم
رايك يقسم كتابه إلى ثلاثة أجزاء يتحدث فيها عن التاريخ السحيق للجنس البشري، واصفًا كيف أن الجينوم البشري لا يوفر فقط جميع المعلومات التي تحتاجها البويضة البشرية المخصبة لتتطور، بل يتضمن أيضًا تاريخ جنسنا البشري، كما يتحدث عن كيف وصلنا إلى حيث نحن الآن، عن كيفية قيام ثورة الجينوم والحمض النووي القديم بتغيير فهمنا للأنساب الخاصة بنا اليوم، مصطحبًا القراء في جولة حول العالم مع أخلاط السكان، كذلك يشير إلى الجينوم التخريبي، مُركزًا على آثار ثورة الجينوم على المجتمع، مقدمًا بعض الاقتراحات حول كيفية تصور مكاننا الخاص في العالم، ومدى صلتنا بأكثر من سبعة مليارات شخص يعيشون معًا على الأرض، والأعداد الأكبر من البشر الذين عاشوا في ماضينا وسيعيشون في مستقبلنا. 
كذلك يرى ديفيد رايك أنه يمكن الآن للحمض النووي القديم وثورة الجينوم الإجابة عن سؤال لم يُحسم سابقًا عن الماضي السحيق: مسألة ماذا حدث؟ كيف ترتبط الشعوب القديمة ببعضها البعض؟ وكيف أسهمت الهجرات في التغيرات الواضحة التي حدثت في السجل الأثري؟ مؤكدًا أنه يجب أن يكون الحمض النووي القديم محررًا ومتاحًا لعلماء الآثار، لأنه مع وجود إجابات عن هذه الأسئلة في متناول اليد، يمكن لعلماء الآثار أن يواصلوا البحث في ما كانوا مهتمين به على الدوام، وهذا هو سبب حدوث التغيرات، راجيًا أن يكون التساؤل الجوهري في كتابه هذا هو ما قيمة ما نطمح أن نحققه كنوع؟ أليس من سمات المجتمع المستنير أنه يقدر النشاط الفكري الذي قد لا يكون له تأثير اقتصادي أو عملي مباشر؟ ذاكرًا أن دراسة الماضي البشري، كما في الفن والموسيقى والأدب أو علم الكونيات، مهمة لأنها تجعلنا ندرك جوانب قضيتنا المشتركة المهمة للغاية، التي لم نتخيلها حتى الآن.

رواية مذهلة
في هذا الكتاب الذي يرى روبرت وينبج أنه يقدم رواية مذهلة لإنسان ما قبل التاريخ، من خلال العدسة الجديدة التي توفرها بيانات الحمض النووي القديم، يقول ديفيد رايك إن جينوماتنا تحمل في داخلها عددًا كبيرًا من موروثات الأسلاف، يُستمد جينوم أي شخص من47 امتدادًا موروثًا من الحمض النووي، تقابل الكروموسومات التي تنتقل عن طريق الأم والأب، إضافة إلى الحمض النووي للمايتوكوندريا، ذاكرًا أن القدرة المكتشفة حديثًا للحصول على منظور كامل للجينوم في البيولوجيا البشرية التي أصبحت ممكنة بفضل قفزات في التكنولوجيا في العقود الماضية، سمحت بإعادة بناء تاريخ السكان بتفاصيل أكثر بكثير مما كان ممكنًا في السابق، مشيرًا إلى أنه إذ كنا سنحاول البحث في الجينوم بحثًا عن أدلة حول ما يميز البشر المعاصرين، فمن المحتمل أننا لا نستطيع أن نتطلع إلى تفسيرات تنطوي على تغير واحد أو بضعة تغيرات، مضيفًا أنه في السنوات القليلة الماضية، كشفت ثورة الجينوم، التي يشحنها الحمض النووي القديم، أن الجماعات السكانية مرتبطة ببعضها البعض بطرق لم يتوقعها أحد، تختلف عن القصة الناشئة عن تلك التي تعلمناها كأطفال، أو عن الثقافة الشعبية، إنها مليئة بالمفاجآت، خليط ضخم من السكان المتباينين يتداخلون مع جماعات سكانية أخرى أو يحلون محلها، وانفصال سكاني في عصور ما قبل التاريخ، لم يقع على خطوط الاختلافات السكانية نفسها الموجودة الآن، إنها قصة حول كيفية تكوين عائلتنا البشرية المترابطة بطرق لا تعد ولا تحصى. 
أيضًا يقول ديفيد رايك هنا إن المجموعة الفرعية المحددة من البشر التي ننتمي إليها اليوم، نحن البشر المعاصرين، هي وحدها على كوكبنا، لقد تفوقنا أو قمنا بإبادة البشر الآخرين منذ ما يقرب من خمسين ألف سنة، عندما توسع البشر المعاصرون في جميع أنحاء أوراسيا، وعندما حدثت هجرات كبيرة داخل إفريقيا، ذاكرًا أن أقرب أقاربنا الأحياء الآن هم القردة الإفريقية، الشمبانزي والبونوبو والغوريلا، وجميعها غير قادرة على صنع أدوات معقدة أو استخدام لغة مفاهيمية، قائلًا إنه حتى أربعين ألف سنة مضت كان العالم تسكنه مجموعات متعددة من البشر الأثرياء الذين اختلفوا عنا جسديًّا، لكنهم ساروا بشكل مستقيم وشاركوا العديد من قدراتنا، متسائلًا كيف ترتبط هذه الشعوب بنا؟ مؤكدًا أن إجابة هذا السؤال ليست لدى السجل الأثري، بل يمكن لسجل الحمض النووي أن يفعلها.

قوة أكثر فاعلية
ديفيد رايك يقول كذلك إن الحمض النووي القديم سمح لنا أن نتعمق في الزمن، مجبرًا إيانا على التشكيك في فهمنا للماضي، وإذا كان جينوم نياندرتال الذي نُشر عام 2010م قد فتح فتحة في سد المعرفة حول الماضي السحيق، فإن جينوم دينيسوفا واكتشافات الحمض النووي القديم اللاحقة قد فتحت البوابات، مما أدى إلى سيل من النتائج التي عطلت العديد من التفاهمات المريحة التي كانت لدينا من قبل، وكانت تلك هي البداية فقط، مؤكدًا أن التاريخ البشري مليء بالطرق المسدودة، ولا ينبغي أن نتوقع أن يكون الأشخاص الذين عاشوا في مكان واحد في الماضي هم الأسلاف المباشرون لأولئك الذين يعيشون في المكان ذاته حاليًّا، مشيرًا إلى أنه إذا كان هناك شيء يتفق عليه العلماء الذين يدرسون تاريخ البشر في الأمريكتين، فهو أن الوقت الذي استمر فيه تعمير البشر للعالم الجديد كان طرفة عين مقارنةً بالطول الاستثنائي لتعمير أفريقيا وأوراسيا، ذاكرًا أن سبب الوصول البشري المتأخر إلى أمريكا يكمن في الحواجز الجغرافية التي تفصل القارة عن أوراسيا، وأنه من خلال الدراسات الجينية الحديثة والحمض النووي القديم يمكن اكتشاف كيفية ارتباط حضارات الأميريكيين الأصليين بروابط الهجرة، وكيف أن انتشار اللغات والتقنيات يتوافق مع تحركات السكان القدماء، مؤكدًا أن علم الوراثة يوفر الفرصة لإعادة اكتشاف الحلقات المفقودة، ولديه القدرة على تعزيز الفهم والعلاج كذلك، مشيرًا إلى أن التعرف على الماضي السحيق للأفارقة من خلال التعرف على السكان الحاليين يمثل تحديًا كبيرًا لأنه في حين أن الكثير من التباينات القديمة لا تزال موجودة في الأشخاص الذين يعيشون اليوم، إلا أنها كلها فروقات في شكل خليط، ذاكرًا أن الفخ الذي يقع فيه باحثو علم الوراثة وعلم الآثار واللغويات في أفريقيا هو الاحتفال بالتنوع الحالي في أفريقيا، الذي يتجسد في شريحة تُظهر وجود الأشخاص من جميع أنحاء القارة الذين يبدون مختلفين تمامًا عن بعضهم والتي يستخدمها الكثير منا عند تقديم إفريقيا. الكاتب يؤكد هنا أنه لا يوجد ما يوقف ثورة الجينوم، خاصة وأن النتائج المهمة التي توصلت إليها تجعل من المستحيل الحفاظ على العقيدة التي تأسست على مدى نصف القرن الماضي، لأنها تكشف عن أدلة دامغة على وجود اختلافات جوهرية بين السكان، معلنًا تعاطفه العميق مع القلق بشأن الاكتشافات الجينية حول التمايز بين السكان والتي قد يُساء استخدامها لتبرير العنصرية، مؤكدًا أنه لا يمكن إنكار أن هناك تباينات جينية بين العديد من السكان في العديد من السمات، وأن العلماء إذا امتنعوا عمدًا عن وضع إطار عقلاني لمناقشة التباينات البشرية، فسيكون هناك فراغ سيملؤه العلم الزائف، وهي نتيجة أسوأ بكثير من أي شيء يمكن أن يحققوه من خلال التحدث بصراحة. 
كذلك يميل هنا إلى القول بأن ثورة الجينوم هي في الواقع قوة أكثر فاعلية للتوصل إلى فهم جديد للاختلافات البشرية والهوية، لفهم مكانتنا الشخصية في العالم من حولنا، أكثر من تعزيز المعتقدات القديمة التي غالبًا ما تكون خاطئة، مثلما يرى أننا لكي نفهم قوة ثورة الجينوم في تقويض الصور النمطية القديمة حول الهوية وبناء اساس جديد للهوية، علينا أن نضع في اعتبارنا كيف دمر اكتشافها لتكرار عملية الاختلاط في تاريخ البشرية كل حجة اعتمدت على القومية المبنية على أساس بيولوجي، ذاكرًا أنه الآن وقد وصلت ثورة الجينوم مع قدرتها على رفض النظريات القديمة، نحتاج إلى التخلي عن ممارسة التعامل مع الأسئلة حول الماضي البشري بتوقعات قوية، وكذلك لفهم من نحن نحتاج إلى التعامل مع الماضي بتواضع وبعقل منفتح، وأن نكون مستعدين لتغيير آرائنا احترامًا لقوة البيانات الثابتة ■