لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

يمد الكاتب/الطباخ يده إلى عجين القصة، مدركًا صعوبة صناعة طبق مركز في كل مراحله، محاولًا بكل جهده أن يقدم طبقًا غني المكونات والأثر. في اختياري للقصص بحثت عن القصة التي لها نكهة الأسئلة وقدرتها على أن يرى القارئ كثافة التأويل ومتعة التلقي وإن تباين ذلك بين القراء. ونحن هنا أمام نصوص بعناوين محفزة ذات شخصيات هامشية ولغة سلسة ووصف متمكن وزمن حاضر بقوة في انتقالات القصة ومكان مؤثر، تقدم للقارئ قصة بطبقات ونكهات متعددة، مع نهايات لا تحمل المفاجآت أو المفارقات الصادمة إلاّ أنها تشير إلى قصص نشطة بأسئلة لها سطوتها في ذهن متلقيها. راويها عليم بكل مقاديرها وتفاصيلها قابضًا عليها وعارفًا بهارات أحداثها التي كانت هنا ذات إيقاع هادئ أنتج قصًا مُحكمًا ومالحًا بالألم.

المرتبة الأولى: قصة «قهوة باردة» لعدي راغب محمد/الأردن
هناك حوار فعلي بين شخصيتين، وحوار آخر صامت بين شخصية الحارس والبحر والقهوة والخذلان والفضول، وعبارة «إقامة جبرية» التي أفرجت عن الشخصية فكانت مفتتحًا لكل ما يلي ذلك من أحداث. استطاع الكاتب بالوصف لهيئة الحارس ووصفه الحالة النفسية له أن يدمجنا حارس منسي مستسلم لمهمة يرغب بالتفلت منها يومًا، زاد عويل ذكرياته فيه فألحّت عليه الأمكنة القديمة. عبر لغة سلسة وشخصية الطالب يأخذنا الكاتب لعلاقة يرسمها العطف والفضول، وتكشف صورة الحارس للطالب تاريخًا مختلفًا ومباغتًا عنه، الحارس الذي ناضل من أجل الحرية ويتوق لها في سجن مهمته.

المرتبة الثانية: قصة «القطار التائه» لمحمود مصطفى حلمي/مصر
عنوان له دلالاته الأكيدة في نسيج النص، متبوعًا بتساؤل حول هل يتوه القطار وهو منتظم الطريق والمواعيد؟ في قصة متماسكة البنيان نواجه برمزية القطار والمحطة وفكرة الانتظار، نحن أمام شخصية رجل شائخ بمعطف مهترئ وبلا اسم، يحترف الصمت والترقب ومأسور بسيناريو يومي لا فكاك منه، يؤثث مكانه كرسي للمنتظرين وقضبان قطار، ذات يوم كسر روتينه بمشهد مخادع أو حلمي للقائه بالمرأة المبتغى، ليعاود فقدها بالشك أولاً وبمطر يغسل المشهد ثانيًا، ويعيده لنقطة البداية رجل يتعكز على عصا الوقت والخيبة وحاضر مليء بالتسويف والتكرار اللانهائي.

المرتبة الثالثة: قصة «المرأة المجذوبة» لعبدالمالك حسنيوي/المغرب
عبّر الراوي العليم المحايد ندخل إلى جوف قصة هم والآخر، امرأة تكشف أمراضًا كامنة بمجتمع معروف بتميز نخبته من السياسيين والمثقفين ورجال الدين فنجدهم يستغرقون «بالثرثرة» تجاه وجودها دون «مبادرة» إنسانية، امرأة ظاهرها نتن وداخلها بريء، توصف بلغة دقيقة من الكاتب، التي تعامل من الأطفال بالذات بعنف لفظي يتحول لفعلي أحيانًا، يرصد الكاتب مناداتهم لها «بعواطف» إشارة ذكية لجفاء المجتمع وجفافه تجاهها. تخشى أن تكون مرئية فتكره النهار ولا تخاف الأمراض أو القذارة، وكما جاءت رحلت دون أن تفرج عن سرها وأسرارهم.

 

المرتبة الأولى: قصة «قهوة باردة» لعدي راغب محمد/الأردن

صوب نظرة نحو الآفاق، أرخى قبضة يده، وكان البحر يسري في عينيه، قال: هذه إقامة جبرية، وصعد صوت المد، بينما ارتحلت نوارس حالمة، أبعد مما تصل أنظار حارس المخزن، في أذنيه دوت أصوات بعيدة، دفعتها الذاكرة في هذه اللحظة، قبل أن تغطي عليها ارتدادات الراهن، ارتفع صراخ الموج، مما جعل الضيف يرفع نبرته بصوت أعلى:
هذا استقرار، كثيرون في سنك يحلمون به، لماذا لا تقبل بذلك؟ 
تشاغل عن السؤال، كان رجلًا مسنًا، انتدب ليحرس مخزن الميناء، ولم يعد له اسم سوى الحارس، تذكر أن عليه ألا يتحدث كثيرًا عن وضعه، قال: هيا لنعد إلى الغرفة، ستبرد القهوة. 
حدّقا بصمت، كانت القهوة قد بردت بالفعل، تراخى الحارس على الأريكة، جفف عينيه من بكاء مكتوم، وانتظر من صاحبه أن يرتشف من فنجانه، إلا أنه ظل صامتًا، تشغله كلمة الإقامة الجبرية التي ظلت عالقة على رمل الشاطئ دون تأويل. 
كان حارس المخزن لا يستقبل الضيوف عادة، إلا صديقًا قديمًا له يقاربه في العمر، يأتيه مطلع كل شهر، ظلت الوحدة تلازمه، شعر أنه يتكامل مع البحر، ولكنه ظل عاتبًا، أن للبحر شاطئين، جليسين، محاورين، يسمع مرة من جهة الجنوب، ومرة من جهة الشمال، وللبحر امتداد عميق، أما الحارس، فقد اقُتلع من امتداده، وذلك أشد ما ألمه في قصته مع البحر، لقد اغترب كثيرًا عن الأجزاء التي نشأ منها، لم يستطع الحارس أن يصف هذه الحالة التي تربطه بالبحر، وتتناقض معه على نحو آخر، لكنه بين الحين والآخر، يسري ببعض الإجابات لضيفه الذي لمس فيه الرأفة، وكان يطالعه بصدق واهتمام.
كان طالبًا جامعيًا، أتى صدفة إلى هذا الشاطئ، وصار يجيء قصدًا، من أجل أن يقدم اليسير مما يملك، طعامًا زائدًا، أو لباسًا قد اشتراه من السوق، أو حاجيات قد تنفع رجلًا هرمًا يركن وحيدًا في غرفة تطل على البحر، كان رهيف الخاطر، وحاد الشعور، مطلعًا على الشؤون السياسية، يقرأ الصحف ويتابع في الراديو ما يطرأ على الساحات، لذلك أوقدت في رأسه كلمة (إقامة جبرية) شيئًا من الفضول عن الحارس، الذي اختارها دونًا عن الكلمات كلها كي يصف وحدته وحزنه.
هبط الفنجان على الطاولة، بعد أن شرب الطالب رشفة، وتأمل وجه الحارس، بحث فيه عن تفسير لما قاله عن إقامته، قبل أن ينتبه إلى صورة تظهر بعض أطرافها من وراء إطار مُخرَب، يميل قليلًا عن سوية النظر، تغشيه الأغبرة والأوساخ، تقدم نحوه وسأل: بماذا تذكرك هذه الصورة؟ 
وراح يحاول تصويبها، قال: حتى المسامير تهترئ هنا، كأنها ترفض أيضًا الإقامة الجبــــرية!
قال الحارس وهو يتأمل ضيفه، يقف باحترام أمام صورته: كل شيء في سعي دؤوب نحو الحرية، حتى ما نخاله جامدًا هامدًا.
قال الطالب وقد تيقن من شيء ما، بعد أن سمع مضيفه يحكي عن الحرية، وبعد ما رآه في الصورة، من إقدام وشجاعة لرجل محارب، يكسو نفسه بجعبة عسكرية: 
يبدو أنك سعيت كثيرًا وراء الحرية.
قال الحارس: لم تكن حياتي سوى مطاردة للحرية. 
مسح الطالب إطار الصورة بكم قميصه، وسأل: هل وصلت؟ 
أسند الحارس ظهره، تأفف من شدة الوجع الذي كشف عنه الهواء البارد الذي انسل من النافذة والذاكرة في آن معًا ثم قال متألمًا: ليتني أدري. 

المرتبة الثانية: قصة «القطار التائه» لمحمود مصطفى حلمي/مصر

على رصيف محطة قطار مدينة نائية تكاد تُنسى مع جريان نهر الزمن، جلس رجل في أواخر عمره على مقعد خشبي قديم تُصدر أرجله صريرًا خافتًا، كان وجهه محفورًا بالتجاعيد كأنه خريطة لعمر ضائع، وكانتا عيناه تغوصان في بحر من الأفكار المتناثرة.
كان يأتي كل يوم إلى هذه المحطة، يجلس ويُحدق في الأفق بانتظار القطار الذي لم يأتِ يومًا، لكن يقينًا غريبًا كان يملأ قلبه بأنه سيصل في نهاية المطاف.
لم تكن هذه المحطة مجرد مكان عابر بالنسبة له؛ كانت انعكاسًا لحياته، محطاته المجهولة، والانتظار الذي طال كثيرًا، كانت الساعات تمر بطيئة، ثقيلة، كما لو أن الزمن قرر التوقف هنا ليجعل من الانتظار عبئًا لا ينتهي.
في ذهنه، تتكرر تلك الوعود التي قطعها لنفسه، وتلك الأحلام التي غابت مثل سراب في صحراء العمر، كل يوم يعيد نفسه إلى هذه اللحظة، يحاول أن يلتقط خيطًا من الماضي، أن يجد في الانتظار معنىً يغيب عنـــه في الحياة.
وفي لحظة طالما انتظرها، فاجأ أذنيه صوت القطار يُهدر مسرعًا نحو المحطة، توترت نبضات قلبه بشدة، دار شريط ذكرياته معها بسرعة أمام عينيه، سمع صوتها من جديد في أذنيه، «سأعود إليك، لا يمكنني فراقك كثيرًا»، جاء قطارها أخيرًا، سيراها بعد طول انتظار، تأهب لاستقبالها، هندم لباسه المهترئ ومرر يده على شعراته الواقفة لتنبطح، توقف القطار بمحاذاته، أخذ يحملق في الركاب الذين ينزلون منه تباعًا، ثم رآها أخيرًا.
كانت التجاعيد قد احتلت وجهها هي الأخرى، ارتبك بشدة حين التقت عيناهما، ثم توقفت أمامه بجسدها الذي طالما جذبه، كانت ترتدي معطفًا أحمر، وشعرها الذي احتله البياض ينسدل كشلال من خيوط الشمس حول وجهها، لم يتحدث ولم تتحدث هي، لكن عينيها قالتا كل شيء، كان وجهها يمتلئ بالحنين الهادر نحوه، والدمعات المكتومة تنفلت بصعوبة من وراء جفونها.
بصمت جلست بجواره، ثم غاصا سويًا في بحر من المشاعر، شعر بأن وجودها يثير بداخله زوبعة من الذكريات؛ مشاهد من طفولته، ووعود قطعها لنفسه حين كان مليئًا بالحياة والطموح، كانت تجلس بجواره، لكنها لم تكن مجرد امرأة عابرة، كانت تجسيدًا لكل ما فقده، لكل لحظة ضاعت في هذا الانتظار الأبدي.
بهدوء، مدت يدها، ولمست بطرف أصابعها يده الباردة، وجد في تلــــك اللمسة دفء لم يشعر به منذ زمن، كما لو أن الحيــاة نفسها كانت تمد يدها إليه لتمنحه فرصة أخرى، لكن داخله كان يموج بالشكوك؛ هل يستحق أن يُغادر هذا الانتظار الذي أصبح جزءًا منـــه؟ هل يستحق أن يبدأ من جديد، أن يترك كل شيء خلفه؟
قطع حبل أفكاره صوت السماء ترعد، انهمر المطر فوق رأسه بقسوة كأنه يردعه ليفيق، فتح عينيه ليجد نفسه وحيدًا في ذلك المكان المهجور، تأمل في القضبان المتآكل والذي لم يحمل فوقه قطارات منذ زمن، ذرفت من عينيه بعض الدمعات التي تاهت بين قطرات المطر، تَعكّز على عصاته ليقف عائدًا إلى بيته الذي يسكنه وحده، تحدَّث إلى نفسه قائلًا «سآتي غدًا لانتظار القطار».

المرتبة الثالثة: قصة «المرأة المجذوبة» لعبدالمالك حسنيوي/المغرب

 طار الخبر في المدينة، وانتشر كانتشار النار في الهشيم، لم يكن يحتاج مذياعًا لإذاعته ولا حتى جريدة لإشاعته، فهذه وظيفة أولئك الذين همهم الوحيد في هذه البلاد السعيدة، الاستماع والتلذذ بنشر مثل هذه الأخبار، بل الأدهى والأمرّ تلوينها بألوانَ تتنصّل من حقيقتها، وتتقمص أشكالاً تتْرى، لتنسُج خيوط حكاية امرأة مخبولة، انفطرت السماء ولفظتها.
كانت تجوب أرجاء المدينة، بشعر منكوش وثياب ممزقة، هائمة تفترش الأرض وتتغطى بالسماء، ليس لها بيت يؤويها ولا قريب يحميها، تجر وراءها أطراف الأغطية البالية، تلتف من حولها حتى لا تكاد تظهر أسمالها الرثة، تكنس الأحياء والشوارع، وتخلف آثارًا لا يمحوها سوى المطر أو فعل بشر.
الشيء الوحيد الذي كان يقلقها مطاردة الأطفال لها، وهم يرددون بصوت عال: «آعواطف؟ واعواطف؟»، فلا رمي بالحجارة يَصرفهم عن فعلهم هذا، ولا صراخ يمنعهم من ملاحقتها، سوى بعض المارة الذين تصادفهم وتلوذ برحمتهم.
لم يكن أحد من سكان المدينة، يعرف اسمها الحقيقي، سوى ألقاب يلصقونها بها كلقب «أمْ كْوَاشْ»، أو إغاظتها باسم «عَواطف».
كانت امرأة غريبة الأطوار، لا تسمع منها إلا بعض الغمغمات، التي تشي بأسرار مخبوءة وتنبئ عن خفايا مدفونة في قلبها.
لا تُحس بالزمان ولا تشعُر المكان، تسير بلا بوْصلة، تنبعث منها رائحة نَتنة، تخترق تلك الأغطية المدنّسة، تمنعك من الدّنوّ منها.
كانت تتمنى ألا ينقضي الليل وأن تُمدد ساعاته، لأنه بالنسبة لها أأْمن من النهار، فرغم قتَامة المكان الذي تبيت فيه إلا أنه محمي من مضايقة الأولاد.
تصطفي منه ركنًا أو زاوية، وتُسلم نفسها للنوم، غير مكترثة بالحشرات اللادغة أو الكلاب المتسكعة، ولا آبهة للسعات البرد أو قضمات الصقيع.
في اللحظة التي أقبلت فيها على هذه المدينةـ الكائنة في أقصى الجنوب الشرقي للبلادـ الصغيرة في حجمها، الكبيرة في عطائها، فلطالما أنجبت علماء جهابذة في الدين، وأنتجت كتابًا مرموقين وسياسيين محنّكين.
كانت تُنسج حولها القصص والروايات، فهذا يظنها مجنونة أو ممسوسة بالجن، وذاك يحسبها قد تعرضت لمشكل ما أثر عليها نفسيًا، وآخر يعتقد أنها بوهالية أو مجذوبة، ولسان حاله يقول: «خذوا الحكمة من أفواه المجانين».
كانت إنسانة مُسالمة لا تعتدي على أحد، ربما ذلك راجع لطبْعها الذي تطبّعت به في الصغر، أو عائد إلى خَشيتها من أمر ما لا يزال مجهولاً.
تنفُش على الطعام في الحاويات، وتُقبل عليها بنَهم شديد، لا تخاف الإصابة بالأمراض أو التهاب في الأمعاء...
مضت أسابيع وشهور، وهي علـى هذه الحال، ليُعثر عليها جُثة هامدة في ضواحي المدينة، دافنة معها أسباب جنونها ومسببات موتها ■