فقد الشهية العصبي يعاني منه الطفل والمراهق

فقد الشهية العصبي يعاني منه الطفل والمراهق

يبدأ تاريخ فقد الشهية العصبي بأمل: أمل الفرد بالإحساس أنه على ما يرام، جسدياً وذهنياً، والحمية تصبح وسيلة لتجسيد هذا الأمل. يستخدم بعض المهنيين مصطلح «احترام الذات»، الإيجابي أو السلبي، للتعبير عن هذا الإحساس، لكن لا يلبث «فقد الشهية» أن يفرض نفسه خلال المراهقة دون أن يكون للمراهق أي يد في نشوئه كتعبير، ربما، عن صعوبة لديه في إدراك نفسه بشكل إيجابي بفعل التغييرات الفيزيقية والنفسية التي يعايشها، وبالفعل، «يعتبر فقد الشهية العصبي من الاضطرابات ذات الصلة الوثيقة باضطراب احترام الذات وصورة الجسم، على الرغم من كونه يعد من اضطرابات السلوك الغذائي ولكنه يرتبط بشكل الجسم ووزنه ومن ثم بصورته».

ويعني «فقد الشهية العصبي» وجود فقدان شهية، لكن يبدو الأطباء متأكدين من أن الأمر يتعلق ليس بمرض فيزيقي فحسب بل باضطراب يطال الذهن والجسد معاً: فالخوف من الأكل يسيطر على ذهن الفرد خشية ازدياد وزنه، والجسد يضعف هو الآخر، ثم، يزداد الخوف مع ازدياد النحول. هذا الخوف موجود لدى الفرد في كل لحظة من حياته «في الصف، يفكر مثلا بالوجبة التالية» بحيث يطال المنع كل مجالات اللذة عند المراهق (فمثلا، يثير الذهاب إلى السينما، لديه، خوفا من ازدياد الوزن بفعل الجلوس دون حركة).

لا أحد يفهم هذا الخوف لدى المراهق (أفراد عائلته، بوجه خاص)، فيخيب أمله في إمكانيّة تفسيره للأشخاص الذين يحبهم، بخاصة أنه أحيانا (أي الخوف) وراء خلافات حادة مع أهله، خلال تناول الوجبات على وجه الخصوص، ومع الجسد الذي يضعف، هناك توقف للطمث (عند الإناث طبعا)، توقف النمو (يتوقف طول الجسم: لا يعود يزداد أكثر من سم أو اثنين في السنة). الأمر الذي يشغل بال الأهل لكن ليس المراهق (المراهقة) المعني بالأمر.

وعلى العكس، يغلب عند الفرد، في بداية «فقد الشهية»، الإحساس بأنه على ما يرام (فيزيقيا ونفسيا)، لكن ذلك غير صحيح، ومن المهم جداً له معرفة أن هناك وضعية غير صحية. إذ، كلما كان الإنذار مبكراً كانت احتمالات الشفاء منه (ومن أي اضطراب، بشكل عام) أفضل.

انتشاره كاضطراب

هذا الاضطراب يصيب، حسب معظم العياديين، المراهقين ما بين 12 و20 عاما بشكل خاص: إنّه على ازدياد في البلدان الغربية ولا يصيب سوى المجتمعات الغنية والطبقات الاجتماعية المرتاحة ماديا، تتراوح نسبة انتشاره بين 1 - 2%: يزداد معدل انتشاره بين الإناث حيث قد يصل إلى حوالي 10% بينهن، ويكثر في العمر الزمني الذي يتراوح بين 12 - 18 وحتي سن الخامسة والعشرين، وقد تصل تلك النسبة إلى حوالي 20% من الطالبات. نسبة الجنس: ذكر على 9 إناث، نسبة الوفيات مرتفعة: ما بين 5 و9% ولا تنجم الوفاة، عموماً، عن الانتحار بل الضبط المفرط.

مؤشرات إنذار

لابد من لفت الانتباه لوجود مؤشرات عدة تنذر بحدوث «فقد الشهية» ويستفيد المراهق كثيرا حين يتعرف عليها، مثل: تجنّب بعض الأطعمة، خسارة حديثة لبعض الوزن، خوف من بلع الطعام، خوف من الإغماء، وجع في البطن أثناء أو خارج إطار الوجبات، عدم شرب كوب أو كوبي ماء فحسب في اليوم، أو على العكس، شرب أكثر من عشرة لترات ماء في اليوم، الإحساس بأن الوزن شديد الارتفاع، إيجاد البطن، الأفخاذ والأرداف بغاية الضخامة، الاهتمام بعدد السعرات الحرارية في الأطعمة، إلغاء بعض الأطعمة، تحضير الطعام للعائلة دون المشاركة بأكله، تأدية الرياضة بشكل مفرط، النوم والنافذة مفتوحة، حتى بالبرد، العمل بكثرة على المستوى المدرسي، عدم رؤية رفاق الصف أو الأصدقاء أو الجيران كما في السابق، اضطراب النوم.

مساوئ فقد الشهية على المراهق
(وحتمًا على الطفل)

حين يبدأ الفرد بتقييد غذائه وبتناقص وزنه، من المحتمل أن يمر بعدة مراحل قد يتوقف في الطريق عند إحداها: الأولى هي مرحلة الحمية (كثر هم من يقومون بحمية لينحفوا، لكن قلة هم من يصابون بفقد الشهية)، المرحلة الثانية هي مرحلة تناقص الوزن (وهو مصدر لاستعادة المعنويات والنشاط الفيزيقي والعقلي)، الثالثة هي مرحلة بداية وسواس «خسارة الوزن»، الرابعة هي مرحلة السقوط (حيث تشهد الفتاة انقطاع الطمث لديها حيث ينخفض الوزن ومعه المعنويات) والخامسة هي مرحلة «الدائرة الجهنمية» (حيث يصبح التقييد الغذائي ونقصان الوزن بمنزلة عادة: كلما انخفض الوزن، تصبح فكرة خسارته وسواسية أكثر فأكثر، وبالتالي، خسارة الوزن تستمر، هنا، يصبح من المستحيل على الفرد الخروج بمفرده من أتون الاضطرابات).

والانعكاسات السلبية لهذه المساوئ متنوعة ومتعددة، منها ما هو منظور (مثل نشاف الجلد، سقوط الشعر، صدر يتضاءل حجمه، توقف النمو: عند البنت والصبي، توقف الطمث إن كان قد بدأ من قبل عند البنت)، ومنها ما هو غير منظور حيث يأتي، بالدرجة الأولى، عدم نضج الجسم واكتساب خصوبته، لذا يركّز الإخصائيون اهتمامهم على كل من الجسد والناحية النفسية معا.

تطال هذه الانعكاسات المجال التفاعلي مع الآخرين لدى المصاب: فلقد سمّي فقد الشهية مرض احترام الذات والعلاقة مع الآخرين، إذ أن اهتمام الفرد، المنصب بشكل شبه حصري على النحول ونقصان الوزن، يعزله عن بيئته ويجعله سريع الانفعال تجاه أي ملاحظة يوجهها إليه أحد أفراد عائلته. ويوضح تعبير آكسل (17 سنة) التالي، بالشكل الأمثل، هذه المساوئ «لديّ الانطباع بأني في الأربعين من عمري من حيث الخبرة بالألم وفي السابعة عشرة على المستوى المدرسي، لكن، على المستوى العلائقي، عمري 14 سنة».

أسباب الاضطراب

فقد الشهية هو نتاج لأسباب متعددة، متنوعة ومعقّدة، بخاصة حين نفكر بكيفية اختلاطها بعضها بعضا عبر الوقت بحيث لا تنطبق التفسيرات التي تُعطى لشخص مصاب إلا عليه. هناك بعدان سلوكيان أساسيان يعتبران السبب وراء حدوث هذا الاضطراب هما البحث عن الكمال وعدم الرضا العام، وقد أضيف إليهما، عام 1991، بعد ثالث يتعلق بالشخصية وهو بعد السيطرة والضبط. يمكن التحدث، عموما، عن ثلاثة أنواع من الأسباب:

1 - أسباب عميقة تؤثر تدريجيا على الفرد خلال نموه ويصعب تحديدها قبل حصول المرض، كسرعة العطب مثلا أو تميّز الشخصية ببعض السمات.

2 - أسباب تثير أو تكشف عن المرض كالأحداث المؤلمة التي يتعرض لها الفرد (تبديل منزل، تغيير مدرسة، التعرض لصدمة معينة، القيام بحمية.. إلخ).

3 - أسباب تغذّي الاضطراب أو تأزّمه (كسماع مديح معين أو تعليقات سلبية معينة أو رؤية ردود فعل البيئة أو اتباع حمية.. إلخ).

ولتفسير هذه الأسباب هناك، كما كشفت الدراسات، أربعة أنماط:

1 - سرعة العطب البيولوجية الوراثية.

2 - المجتمع ونموذج النحافة (يعتبر فقد الشهية مرض المجتمعات الغنية حيث بإمكان الشخص أن يأكل قدر ما يريد، يضاف إلى ذلك تأثير الدعاية والإعلان بخصوص نموذج النحافة).

3 - العائلة (في الحقيقة، يُلاحظ فقد الشهية في مختلف الأنماط العائلية، لكن، بعد إصابة الفرد به، يصبح رد فعل الأهل وكيفية تفاعلهم معه الأكثر تأثيرا، لذا ينصح غالبا بعلاج عائلي في حالات إصابة الطفل والمراهق بفقد الشهية).

4 - سمات الشخصية (تم وصف المصابين بفقد الشهية أنهم كانوا، قبل المرض، لطيفين، مجتهدين ويعملون كثيرا، يهمهم كثيرا إرضاء الآخرين، يميلون للكمال، يجدون صعوبة في الانفصال عن الأهل وفي أن يكبروا، ضعيفي الثقة بأنفسهم.. إلخ. وبشكل أساسي، لديهم صورة سيّئة عن ذواتهم يزيدها سوءا تأثير المتطلبات الشديدة التي يفرضونها على أنفسهم، صعوبة التفاعل مع الأقران، الخوف من فقدان الضبط والقدرة على التحكم) والتعرّض لأحداث مؤلمة (موت شخص قريب، ابتعاد أخت أو أخ محبوب جداً، طلاق الأهل، الانتقال إلى مرحلة المراهقة حدث يعزّز قابلية الفرد للعطب) حيث يتم التفكير بالحمية كوسيلة لضبط الغذاء والجسد تسمح للمراهق بضبط حياته، من غير المفروض، طبعا، أن تكون كل هذه الصفات متوافرة عند كل طفل أو مراهق مصاب بفقد الشهية.

تجدر الإشارة إلى أن المرض لا يوجد هكذا مصادفة، ومن المهم فهم معناه بالنسبة للفرد وفهم الرسالة التي يود التعبير عنها، بشكل لاواعٍ طبعا، انطلاقا من ذلك، يمكن القول إن «فقد الشهية» هو مرض نفس - جسدي، أي أنه يعبّر، عن طريق الجسد، عن مشكلات نفسية أو تفاعلية. صحيح أن هذا الحل هو حل سيئ، لكنه محاولة لحل صراعات أو مشكلات يعجز الفرد عن حلّها بطريقة أخرى، وهو، أي فقد الشهية، كالجليد: جزء صغير جدا منه هو، كما سبقت الإشارة، منظور والجزء الأكبر هو غير منظور:

يمثّل الجزء المنظور كل ما يمكن رؤيته: النحافة، السلوكيات الغذائية المضطربة، عمليات الغش المستخدمة لتحاشي استعادة الوزن (كالقيام بتمارين رياضية بشكل مفرط، شرب الكثير من الماء، التقيؤ المثار ذاتيا) والخوف من ازدياد الوزن، ويمثل الجزء غير المنظور كل أنواع الصعوبات الشخصية كالشكوك أو القلق التي تغذّي اضطرابات السلوك والمواقف الغذائية التي تتم محاولة البحث عن حلّها عن طريق «فقد الشهية»، مهما يكن من أمر، يعتبر «فقد الشهية» (الجزء المنظور) بمنزلة رسالة تشير إلى أن الشخص يشعر بأنه على غير ما يرام مع نفسه وأنه يبحث عن حلول لهذا الإحساس السيئ (الجزء غير المنظور).

يتلازم هذا الاضطراب مع بعض الاضطرابات كالقلق والاكتئاب والوساوس القهرية والخوف المفرط من السمنة مع فقد الشهية العصبي وذلك، بشكل مرضي: قد يعاني نصف المصابات بفقد الشهية، طيلة حياتهن، من القلق المعمّم أو الوسواس القهري أو الفوبيا الاجتماعية.

ويأخذ فقد الشهية العصبي، كاضطراب، أحد النمطين التاليين: النمط المانع أو التقييدي ويتميز بعدم قيام المصاب بأي سلوك يهدف بواسطته إلى التخلص من الأكل الموجود بالبطن..إلخ، أو نمط الأكل الصاخب المصحوب بسلوك يهدف إلى التخلص من ذلك الأكل الموجود في البطن.

مؤشران يميزان الأطفال المصابين بفقد الشهية عن أمثالهم من المراهقين: تقييد على مستوى الماء لدرجة الإصابة بالاجتفاف وتباطؤ، كي لا نقول توقف، النمو مع هشاشة في القامة (قابليتها للكسر).

في ضوء كل ما سبق نقول: ليس «فقد الشهية» حماقة مجانية لأن المرض لا يوجد هكذا، مصادفة، لذا من المهم فهم معناه ودلالته بالنسبة للفرد وفهم الرسالة التي يعبّر عنها كي يصبح بالإمكان وضع الخطة العلاجية الملائمة لحالته. وبشكل عام، ليس هناك «فقد شهية عام» بل «فقد شهية خاص»، إذ لكل مصاب تاريخه الخاص به ولا يحتاج إلى المساعدة نفسها المقدمة إلى غيره من المصابين بالاضطراب نفسه.

علاج هذا الاضطراب

يشكّل العلاج موضع جدل كبير، لكنّه يشتمل عموماً على الاستشفاء بالنسبة للمصابات بنحول مهم، وأحياناً يبدو الإنعاش ضرورياً، كما يبدو العلاج العقاقيري، هو الآخر، ضرورياً بوجود عناصر اكتئابية. وفي الوقت نفسه، يبدو التدخل الذي يتناول الناحية الجسمية (الغذائية بشكل خاص) ضروريا، وكذلك القول بالنسبة للعلاج النفسي: الفردي والعائلي. ثم إن كل علاج يتعلق بقدرة المصابة (أو المصاب) على الاعتراف بمرضها إذ يؤدي رفضها لهذا الاعتراف إلى فشل أي علاج يمكن اقتراحه. ولابد أن يكون كل علاج متدرجاً وخاصاً بكل فرد وتبعاً لمرحلة تطوره لديه.

والعلاج النفسي ضروري جداً بسبب اضطراب الشخصية الخطير وتواتر الانتكاسات لدى الفرد المصاب. وهو يتحقق، غالباً، بعيداً عن المستشفى ومع وزن فوق الوزن الدوني، وإلا فإن حالة المصاب تستلزم الاستشفاء حيث تقتضي الإجراءات العلاجية لفقدان الشهية مسارين من الاهتمامات: تُوجّه جهود التمريض والرعاية الطبية نحو الاستعادة الفورية للوزن وتنظيم الأيض (إعداد الوجبات مع إخصائية تغذية، مراقبة متواصلة للوجبات، الكشف عن محاولات التقيؤ المكتومة، إيقاف المسهّلات ومدرات البول).

يتجه العلاج، بعد ذلك أي مع حدوث بعض التغيرات في الوزن، إلى العلاج النفسي الذي، كما سبقت الإشارة، لابد أن يتضمّن علاجاً عائلياً إلى جانب العلاج النفسي الفردي نظراً لحاجة المعالج النفسي، بشكل عام، إلى تعاون العائلة معه (على الأقل كمعالج مساعد).

بدا العلاج السلوكي المعرفي من الطرق العلاجية النفسية الفاعلة ذات التأثير الجيد على الطفل والمراهق، ويعتمد في تناوله لفقد الشهية العصبي على فنيات رئيسية، كالتعليم النفسي الهادف لتقديم المعلومات عن مفهوم الاضطراب وطبيعته وأسبابه وتطوره وكيفية مواجهته، إلى جانب مراقبة الذات للتعرف على عادات الأكل وتذبذب الوزن والأفكار والاتجاهات المختلة وظيفيا التي ترتبط بحجم الجسم وشكله. هذه الفنيات تُطبّق مع الراشد، ويتم تكييفها لتتلاءم مع مستوى الإدراك عند الطفل والمراهق.

--------------------------------

أَحمَد البشرُ جاء يُرثيكَ أحمدْ
بفؤادٍ من الفجيعةِ مُجهدْ
جاءَ يرثيكَ ليس زُلفى ولكن
نَسَبٌ بيْنه وبينك ممتدْ
لَم يَزدهُ الخلافُ في الرَّأي إلاّ
قُوة تمسحُ الخلافَ وتشتدْ
مَا افتَرقنا وإن تَراخَى لقاءٌ
رُبَّ قربٍ لصاحبٍ وهو مُبعدْ
كُنت تبكي على العُروبةِ مِثلي
ودُموعي على دموعِك تَشهدْ
يا فقيدَ البيانِ عِشتَ أبيّاً
أَلْفُ طوبى لموضعٍ لَكَ مَرْقدْ

أحمد السقاف

 

كريستين نصار