النقد الأدبي الحديث تحولات جذرية

النقد الأدبي الحديث  تحولات جذرية

أصبح النقد الأدبي الحديث جسرًا بين الأدب وقضايا العصر، من البيئة إلى التكنولوجيا. وعلى الرغم من التحديات، فإن تبني المناهج الجديدة يثري القراءة النقدية للأدب العربي ويفتح آفاقًا لتأويلات متجددة. ومن الضروري تشجيع الحوار بين النقاد العرب والمنظّرين العالميين، مع تطوير أدوات نقدية تعكس الخصوصية الثقافية للعالم العربي.

 

شهد النقد الأدبي الحديث تحولات جذرية في العقود الأخيرة، ابتداءً من التركيز على النص ذاته إلى تبني مناهج متعددة التخصصات تعكس تعقيدات العصر الحديث، ولم يعد النقد يقتصر على تحليل البنية أو السياق التاريخي، بل امتد ليشمل قضايا الهوية، والبيئة، والتقنية، والتفاعل بين الثقافات. وعبر هذه الأسطر سنحاول استعراض أبرز النظريات النقدية الحديثة وتطبيقاتها على الأدب العربي المعاصر، مع تسليط الضوء على إسهاماتها في إعادة قراءة النصوص وتفكيكها.

صراع المناهج الأدبية
الراصد للحركة النقدية الأدبية العربية يلمس تأثير النظريات الغربية على مفاصلها، فلا يمكن تجاهل الدور الذي ساهمت فيه النظريات الغربية في تطوير طرق التفكير الثقافي العربي، وكذلك أركان النشر، فنحن نعلم جيدًا أن ثمة تحولات كثيرة طرأت على النقد العربي خلال الفترة الماضية، حيث كان النقد يركز على الكاتب أو المبدع، لكن مع مرور الوقت انتقل التركيز إلى النص ثم في مرحلة لاحقة أصبح القارئ هو العنصر الأقوى والأهم في هذه المعادلة، وفي خضم هذه التحولات تسيدت مناهج ونظريات نقدية عديدة في عالمنا العربي، وكانت الأكثر رواجًا من غيرها، وشهدت الساحة الثقافية حراكًا وصراعًا وتنافسًا بين الفرقاء على المناهج النقدية الأدبية.
يعتمد النقد بمختلف أشكاله على دراسة دقيقة للنص وتشمل هذه الدراسة لغة النص والفكرة الأساسية، إضافة إلى مجموعة المشاعر التي يتضمنها النص. النقد هو مصدر الذائقة الإبداعية للأعمال الأدبية، فإن شعر المتذوق بجمال النص قدم رأيًا نقديًا يصب في مصلحة العمل وإن شعر بخلاف ذلك سيقدم رأيًا لا يحسب في صالح النص الأدبي.
فعلاقة النقد بالنص علاقة تكاملية، حيث يعمد النقد البنيوي على تحليل العمل الأدبي؛ وكذلك تولي مدارس النقد الحديثة الاهتمام بالنص، فيكون الحكم نابعًا من منطلقات جمالية ليست متأثرة بأمور أخرى، أما النقد التفكيكي، فيقدم تأويلات لا حصر لها، وربما تكون من بنات أفكار القارئ وليس الكاتب، وحيال هذا التأرجح كان لابد من ظهور نظريات أخرى تساهم في تطور النقد الأدبي، فظهرت نظريات تجمع بين الأمرين وأخرى تعتمد على أطر ومعايير متباينة.

النقد العابر للحدود
دراسة الأدب في سياق التبادلات الثقافية العالمية، كأدب المهجر أو الكتابات العربية المترجمة، مثل أعمال الروائي الجزائري كمال داود «موريسو» التي تتفاعل مع التراث الفرنسي والعربي، شكلت حالة ثقافية فريدة، حيث استطاع الروائي العربي الأصل والفرنسي الجنسية، تحقيق مردود إيجابي في الساحة الثقافية العالمية، ووضع الأدب العربي ضمن دائرة الضوء ضمن هذه الفترة الصعبة التي يشهدها العالم العربي، كما أن النماذج العربية الأصل التي اكتسبت جنسية أجنبية لفتت الأنظار نحوها منذ أدوارد سعيد وأمين معلوف وغيرهما، فهذا التبادل الثقافي يحرك المياه الراكدة في مستوى التفاعل الثقافي مع الأعمال الأدبية العربية، وخلق أجواء من التعاطي والقراءة والبحث، كما يدفع النقاد الأجانب إلى الاطلاع على النتاج الأدبي العربي والتفاعل معه، لاسيما أن التنظير الغربي لن يكون مماثلًا للتنظير العربي، فثمة معطيات وأولويات أخرى ينظر لها الفريقان وفقًا للمكتسبات والإرث النقدي والاجتماعي والثقافي، وإلى ما هنالك من أسس ومعايير متباينة.

حاجة ملحة لسد الفجوات
بدأت الحاجة إلى النقد العابر لحدود التخصصات مع بداية القرن العشرين، حيث ظهرت إرهاصات كثيرة تدعو إلى سد الفجوات المعرفية من حيث بدأت المجتمعات تتفاعل مع الثقافات الأخرى في ظل التطور التقني، فظهر جليًا حاجة الفيزياء إلى الرياضيات، وكذلك حاجة البيولوجيا إلى الكيمياء وغيرها... إلى أن طفت على السطح في القرن الواحد والعشرين حاجة الفلسفة إلى العلوم الأخرى كالإنسانية والطبيعية وغيرهما. وبدأ النقد يلعب دورًا كبيرًا في مفاصل الحياة الثقافية، ولم يعد يقتصر على التحليل البنيوي أو النسق التاريخي بل أصبح أكثر شمولية ليربط بين قضايا الهوية، والبيئة، والتقنية، والتفاعل بين الثقافات.
وبفضل التطور التكنولوجي والتقني والتقدم المعرفي، ظهرت حاجة ملحة إلى العبور إلى تخصصات أخرى وبعد عدة محاولات ومخاض عسير، بدأت تتبلور ظاهرة معرفية حداثية تستند إلى اندماج العلوم بكل فروعها وتواصلها القائم على تجاوز الحدود بين العلوم المختلفة، أو بمعنى آخر هي أساس جديد يسعى إلى إرساء أطر جديدة ضمن حقل النقد العربي، تبكي على تقويض المركزية عبر استخدام أساليب معرفية حديثة تناهض كل الأطر التقليدية وتسمح باختلاف وجهات النظر وتعددها.
هذه المقاييس النقدية، سعت إلى التخلص من القالب القديم والتعمق في فضاء أوسع، فالنتائج التي يتوصل إليها النقد لن تكون حكرًا على أحادية في الرأي، بل ستكون وليدة اختراق النص عبر أكثر من منهج سيسمح باستيعاب النص من خلال مجموعة مناهج تثري القراءة بشكل كبير جدًا. وتنبذ احتكار الأحادية وتشجع على التعددية في استنباط الحقيقة.

أحدث النظريات النقدية
ضمن هذا الإطار، تم استخدام أدوات حاسوبية مثل برنامج Text Mining لتحليل النصوص كدراسة أنماط التكرار في الشعر العربي، أو كما حصل مع مشروع الذخيرة العربية لتحليل النصوص التراثية باستخدام الذكاء الاصطناعي، ومن برامج النقد الحديثة، تحليل قصيدة النثر العربية على منصات مثل «إنستغرام»، أو «إكس – تويتر سابقًا»، ودراسة تأثير التفاعل المباشر مع الجمهور، مثل أشعار غادة السمان المنشورة رقميًا، والتي تدمج بين الشعرية والثقافة البصرية. 
ومن خلال مشروع تحليل النصوص الشعرية العربية، تحققت نتائج إيجابية كثيرة ضمن هذا المضمار، فقد ظهر للباحثين بوضوح التكرار في النصوص، وكذلك مواقع التشابه بما في بعض النصوص، وهذا حتمًا سيكون في مصلحة القصيدة وتطورها والحد من السرقات بمختلف أنواعها.
وللتعرف أكثر عن ماهية مشروع الذخيرة، سنتطرق إلى مؤسِسه د. عبدالرحمن الحاج صالح، وهو عالم لغوي جزائري اشتهر بلقب «أبو اللسانيات»، ويحمل المشروع خصوصية عربية، حيث يعد أول بنك آلي للنصوص العربية القديمة والحديثة عبر شبكة الإنترنت، ويهدف المشروع إلى استثمار اللغة العربية في مجال التكنولوجيا والعمل على ترقيتها وتطويرها. كما يهدف إلى رفع مستوى القارئ العربي وكفاءته في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها لغتنا العربية، وسيكون الإنتاج الفكري العربي متاحًا للباحثين بكل سهولة ويسر.

النقد النفسي الحديث
استخدام نظريات تراودي (Trauma Theory) لفهم تمثيل الصدمات الجماعية التي تحدث خلال الحروب الأهلية على سبيل المثال، ورواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، تعكس مثل هذا النوع من الصدمات. 
وفي بيئة مماثلة للرواية الأصلية التي نسج منها سعداوي حكايته، حيث الحرب والتصدع والمأساة والتناحر والاقتتال، استطاعت روايته أن تلفت الأنظار في نسختها العربية، وكذلك تمكن سعداوي من ترجمتها إلى نحو 26 لغة، وحصدت النسخة الإنجليزية المركز الثالث ضمن جائزة «مان بوكر» للرواية العالمية 2018م. كما أنها حصدت في العام 2017م في فرنسا، جائزة أفضل الروايات المترجمة إلى اللغة الفرنسية في ذلك العام.
هذا الاستحقاق والتميز الذي حصلت عليه الرواية، يؤكد على تفوق النتاج الأدبي العربي الذي يتماهى مع الأطر والأسس التي يتبعها النقاد في الغرب، بل يشير إلى علو كعب السرد العربي.

تحديات لا تزال مستمرة
تبرز إشكالية التمركز الغربي في هذا الحقل من الأدب، فهل تناسب النظريات الغربية السياق العربي؟ بعض النقاد مثل الدكتور عبدالله الغذامي يدعون لتأصيل نظريات محلية تتلاءم مع بيئاتها. التحدي الآخر هو ضعف البنية التحتية الرقمية التي توفر قواعد بيانات عربية مفتوحة للدراسات الرقمية، وهذا مأزق كبير ربما يحتاج إلى جهد مضاعف تتكفل به مؤسسات ثقافية كبيرة في معظم دول الوطن العربي للمساهمة في مشروع ثقافي ضخم. وأخيرًا التقاطع بين الحداثة والتراث، حيث تبرز صعوبة تطبيق مناهج جديدة على نصوص كلاسيكية دون الإخلال بسياقها التاريخي ■