الأنساب في شعر أبي تمّام

الأنساب في شعر أبي تمّام

علم الأنساب هو فرع من المعرفة الإنسانيّة يركّز على دراسة الأصول والعلاقات الأسريّة بين الأفراد والعائلات، ويعكس عمق الرّوابط الاجتماعيّة والتّاريخيّة التي تجمع بين البشر. يتجاوز هذا العلم مجرّد تسجيل الأسماء والتّواريخ، ليكون وسيلة لفهم الهويّة الثّقافيّة والانتماء، حيث يستكشف الأنساب جذور الهويّة الجماعيّة للأمم والشّعوب.

 

أبو تمّام هو شاعر عربيّ من العصر العبّاسيّ، يعدّ من أبرز شعراء العربيّة، عُرف بأسلوبه البلاغيّ الفريد؛ وكانت معرفته بالأنساب تعكس فهمًا عميقًا للتّركيبة الاجتماعيّة والسّياسيّة في عصره، فاستثمرها في أشعاره، ممّا أضفى على نصوصه عمقًا فنّيًّا.
وقد تجلّى علم الأنساب في شعر أبي تمّام من خلال: 

الفخر والانتماء
استفاد أبو تمّام من علم الأنساب كوسيلة للتعبير عن فخره بأصوله العريقة، فقد كان الانتماء إلى قبيلة أو عائلة مرموقة يُعدّ رمزًا للكبرياء والمكانة الاجتماعية الرفيعة، مما حفزه على تناول نسبه في قصائده، لتكون تعبيرًا عن اعتزازه بجذوره؛ يقول:
أُسبُّ بها، والنجرُ يشبههُ النجَّرُ    
عديُّ العديَّين القلمَّسُ أو عمرو    
إذا نجمت ذلَّت لها الأنجم الزُّهرُ    
أبى لي نجرُ الغوث أن أرأمَ التي
وهل خاب من جذماه من ضِنء طّيءٍ
لنا غررٌ زيديةٌ أددَية
هذه الأبيات لأبي تمّام تعكس ارتباط الشّاعر بعلم الأنساب، فهي تجسّد اعتزازه بأصوله القبليّة، حيث يرفض أيّ محاولة للنّيل من شرف نسبه، مُبرزًا عظمة قبيلة طيء ومكانتها الرّفيعة. كما يُشدّد على أنّ الفخر بالنّسب يعدّ جزءًا لا يتجزّأ من هويّته، مُشيرًا إلى قوّة أبناء القبيلة وعراقتهم التي لا تقبل الشّكّ. إنّه يستحضر رموزًا من تاريخ قبيلته ليعكس عراقة جذوره، مُستفيدًا من علم الأنساب لتعزيز شعوره بالكرامة والاعتزاز، ممّا يُبرز دور النّسب في بلورة الهويّة والفخر في الثّقافة العربيّة.

المدح والهجاء
في ميدان المدح والهجاء، لطالما اعتمد الشّعراء على علم الأنساب سلاحًا يعزّزون به حججهم؛ فالمدح يستوجب إلمامًا عميقًا بأنساب الممدوحين، يستحضر أمجاد أسلافهم ويعلي من مكانتهم؛ بينما الهجاء يتطلّب مهارة في كشف العيوب المستترة في النّسب، والحطّ من قدر المنافسين عبر الطّعن في أصولهم.
كان أبو تمّام يمتلك معرفةً وافيةً بأنساب القبائل، تتجاوز حدود أسمائها وأخبارها إلى فهم عميق لعاداتها وخصائصها المتوارثة. وتنعكس هذه المعرفة في شعره، حيث لا يكتفي بذكر أسماء القبائل، بل ينسج منها خيوطًا تمتدّ إلى الحديث عن أجداد ممدوحه، مستعرضًا محاسنهم وأمجادهم، في إشاراتٍ تكشف عن دراية راسخة بهذا الميدان. ولم تقف براعته عند هذا الحدّ، بل وظّف عادات القبائل بإبداعٍ في نصوصه، ممّا أضفى على شعره أصالةً وقوّةً لا تخطئها العين. ومنها قوله:
 كان الزّمان بكم كلبًا فغادركم        
بالسّيف والدّهر فيكم أشهر الحرم
نلاحظ في هذه الأبيات براعة أبي تمام، حيث يجمع بين فنّ المدح والنّسب؛ فهنا وظّف قبيلة «كلب» إذ كانت لا تحرّم الأشهر الحرم ولا تعظّمها في الجاهليّة، ليبرز براعة مالك بن طوق، الذي استطاع بسط نفوذه على خصومه ومناوئيه، فحوّل الفساد إلى عدلٍ، وأحلّ الصّلاح مكان الفوضى بسطوة حكمه وحكمته.
ويقول في هجاء عيّاش بن لهيعة:
  كلا أبويك من يمن ولكن         
كلا أبوي نوالك من سلول
المهجُو ينتمي إلى أصل يمني عريق، فلا يمسّ الشاعر كرامة نسبه، بل يوجّه سهام هجائه إلى شخصه، متّهِمًا إياه بالبخل عبر ذمّ نسبه القبليّ وإلحاق كرمه بسلول، تلك القبيلة الموصومة بالهوان، وهم فرع من قيس نُسبوا إلى أمّهم سلول، فجعل البخل سمةً تعود إلى القبيلة.

العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة
تبرز الأنساب في الشّعر كنافذة لفهم العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة بعمق، حيث وظّف أبو تمّام علم الأنساب لتفكيك رموز التّحالفات والمنازعات بين القبائل والعائلات، مُستحضرًا تلك الرّوابط التي تلقي بظلالها على مجريات الأحداث التّاريخيّة وتعقيداتها، في مشهد تتشابك فيه الأنساب مع المصالح والمواقف؛ يقول أبو تمّام في استعطافه مالك بن طوق:
فيه المزاد بجحفل كلابُ    
سهميك عند الحارث الحراب    
جلبوا الجياد لواحق الأقراب    
رفدوك في يوم الكلاب وشقّقوا
وهم بعين أباغ راشوا للعدا
وليالي الثرثار والحشاك قد
يستعطف الشّاعر الممدوح ليصفح عن «الأراقم التّغلبيّين» الذين خرجوا عن طاعته، فيذكّره بما كان بينهم من تآزر تاريخيّ، وكيف ساندوا قومه في الماضي، وتعاونوا على «قيس» في معارك مضت، حيث يشير إلى تآزر الطّرفين في تلك الوقائع، إذ لم يكن أيّ منهما ليناهض الأعداء إلّا بمدد الآخر.

استحضار الشّخصيّات الأدبيّة التّاريخيّة
كان الشّعراء يستحضرون شخصيّات بارزة من التّاريخ والأدب، ويذكرون أنسابهم في سياق القصائد، لتعزيز الإحساس بالانتماء، ممّا يعكس تأثير الأنساب في تشكيل الذّاكرة الجماعيّة؛ يقول:
وبقيت لولا أنّني من طيء        
علم لقال النّاس أنت جرير
هنا، يشبّه أبو تمّام نفسه بالشّاعر جرير، الذي تبوّأ مكانة سامية في سماء الشّعر الأمويّ، فكان اسمه مقرونًا بالتّفوّق، وأشعاره تتردّد على ألسنة القوم، معلنةً عن نبوغه ومكانته الرّفيعة في تاريخ الأدب العربيّ.
ومنه قوله:
أرفاده وتجنب الأرفاثا    
ترك العلا لبني أبيه تراثا    
يقظان لا ورعًا ولا ملتاثا    
عفّ الإزار تنال جارة بيته
عمرو بن كلثوم بن مالك الذي
ألقى عليه نجاره فأتى به

يستعرض أبو تمّام مآثر ممدوحه، مالك بن طوق، مستلهمًا من شخصيّة عمرو بن كلثوم، تلك الأسطورة الخالدة التي تجسّد القوّة والبأس والنّبل، وصاحب المعلّقة المأثورة التي تسجّل أمجاد الفخر. فهو يستند إلى هذا الرّمز الفذّ، ليبرز شرف ممدوحه، وعراقة نسبه المتأصّلة في جذوره العربيّة التي ورثت عن جدّهم عمرو بن كلثوم شجاعة لا تعرف الجبن ولا التّردد. هنا، يصبح عمرو بن كلثوم تجسيدًا للمعالي الخالدة، وقيمه مستمدّة من عراقة الأنساب العربيّة التي يتفاخر بها النّاس، حيث يرتبط المجد بالشّجاعة والنّبل، وتتجلّى أصداء الماضي في كلّ مديح يحيي تراث الأبطال.
ختامًا، كان أبو تمّام من أبرز الشّعراء الذين أولوا عناية خاصّة لإبراز عراقة أنسابهم، ممّا أسهم في إثراء الحركة الشّعريّة بمزيد من الإبداع والتّنوّع في الأساليب والتّقنيات. فقد صار علم الأنساب ركيزة أساسيّة في الشّعر العبّاسيّ، ولا سيّما في شعر أبي تمّام على وجه الخصوص، حيث أضفى عمقًا وثراء على النّصوص الشّعريّة، مُعزِّزًا بذلك الهويّة الثّقافيّة للعصر، ومُؤكّدًا على أهمّيّة الانتماء في تشكيل الهويّة الثّقافيّة والرّؤية الأدبيّة لذلك العصر ■