توظيف التراث بوّابة التجديد في القصّة العُمَانيّة

توظيف التراث بوّابة التجديد في القصّة العُمَانيّة

لماذا يعمد الكتّاب في عالمنا العربي إلى الاتّكاء على التراث في إبداعاتهم الأدبية ولا سيّما الروايات والقصص؟ فهل هي مصدر ثقافة، أم اعتزاز؟ أم رافد تندّر؟ وهل يعتبرُ النقّادُ ذلك غنىً أدبيًا أمْ غنى التجربةِ الشخصيّةِ والوجدانية لكاتبها؟ وأين يكمن التجديد؟

 

في محاولة للخوض في الأدب العُمَانيّ ذي الخصائص المرتكزة على المورث الشعبيّ الذي يملك خصوصيّةً فريدةً، ومجتمعًا لغويًّا خاصًّا في قبيلةِ مفاهيم، وعشيرةَ أمثالٍ ومُثُل. نجد أنّ التراث مصدر إلهام في العلوم الإنسانيّة وآدابها، يشكّل معيارًا فاصلًا بين جيلين: كلاسيكي وآخر تجديدي يعكس صراعًا دائمًا بين التجديد والتقليد، مع اقتناع كثيرين بأنّ القديم كان حديثًا في عصره، وما هو حديثٌ في عصرنا يُصبح قديمًا لغير عَصر؛ من هنا يكون التراث مرحلة مفصليّة لها مصطلحاتها النقديّة مثل: توظيف التراث، استدعاء التراث، والتناصّ ليمهّد أيّ تطوير فيها إلى الانزياح ورصد المحمولات المعنويّة لينعكس توسّعا نحو التجديد الأدبي.
 بعدها يجد أنّ توظيف التراث يتّخذ مدلولاتٍ بالغةَ الأهمّيّةِ، منها:
-1 الدعوة إلى التمسّك بالأصول، إثباتًا للهُويّة. 
-2 التندّر امتثالًا لإحياء النفوس بالمورث.
-3 إغناء المخزون الثقافي تعزيزًا للثقافة المعاصرة. 
-4 استدعاء المواقف الأصيلة تثبيتًا للقيم والفضائل. 
-5 إظهار الوفاء حبًّا بالأرض موطن الميلاد.
«توظيف التراث ميلٌ إلى التمسّك بالجانب الآمن
في استحضاره عند الكندي، نحو المواطنة وسعادة الانتماء».
 وبالتالي فإنّ شعور القارئ بالجانب الآمِن فيها يزداد، ويهدف توظيفُها إلى إبراز دلالة الاقتداء، والوفاء وحُسن الولاءِ للأرض والوطن وناسه، بهدف إيصالها إلى الأجيال الآتية من أجل تعزيز المواطَنة السليمة والتنعّم بدفئها، وهذه رسالة الأديب.
وليس أدلّ على ذلك من مدوّنة رواية (القافر) للكاتب العُمَاني خالد الكندي لنقل التجربة. فإلى أيّ حدّ استطاع أن يتّكئ على التراث ويوظّفه في أعماله ويحافظ عليه؟ وكيف تمثّلت الجغرافيا المتحرّكة والجغرافيا الثابتة في حُسن التوظيف؟ ولم يكن ذلك بالتلميح والتصريح من خلال استدعاء شخصيّات قديمة، أو ذِكر حكايا تراثيّة يستمدّها من الماضي ليربطها بالحاضر من أجل أن يرسم مستقبلًا مبنيًّا على القِيم والمبادئ والفضائل العمانيّة من خلال الأمثال والحِكم. هذا ما يشكّل الهاجس الأبرز له، فهل وُفّق الكِندِي إلى نقل الأمثال العمانيّة من العامّيّة العمانيّة إلى الفصحى العربيّة من دون أنْ تفْقد رونقها المحبّب على الساحة العمانيّة ولهجتها المنغّمة؟ وكيف لا يمكنه ألا يتخلّى عن بعضها العامّي ويُبقِي على عامّيته كي لا يفقد الموقفُ السياقيُّ رونقَه في عمليّة السرد وشعْريّته؟ وأين يبرز التجديد؟
«يشكّل توظيف الحكايا القديمة في القصة العمانية الوجه الثقافي الذي يجب أن تتوارثه الأجيال». 
ولهدف تحديد تجلّيات توظيف التراث الشعبي يجب النظر في تجديد إعادة استخدامه الحكايا في القصة العمانيّة المعاصرة من خلال تحديد التدخّل المباشر للكاتب من خارج السياقين القصصي والحكائيّ، وذلك من خلال شرح بعض الأمثال الشعبيّة، وتبيان أسلوب الكندي في إيصال فكرته بالشرح أو عدم الشرح والاكتفاء بالتلميح والتلويح إلا اقتناعا بأنّ جمال النص ليس في التصريح، ولقناعةٍ بأنّ التصريح مطلوب، اعتزازًا وتلذذًا، بذكر الموروث الشعبيّ، ولم يكن ذلك في التصريح أو عدمه بل في التأويل الذي يخفي وراءه معاني جمالية، فيترك للمتلقي أن يصل إلى المعنى، من خلال ما ورد في الروايات المدروسة التي تحمل دلالاتٍ ثقافيةً فيها قيم حضارية ومجتمعيّة غنيّة بالرموز، وعلى المتلقّي فكّ شِفراتها في إطار سياق لغويّ وثقافيّ واجتماعيّ للنص، كما يقول إمبرتو إكو: إنّ التناص من زاوية المُتلقّي، يقع على عاتق القارئ الذي «يتحمل العبء الأكبر في فكّ رموز النّص، واستحضار تناصّاته الغائبة، أو استنباط شيفرات تناصّاته الحاضرة، ليصبح النّص خليطًا من نصوص، وتناصّات كثيرة».
 غير أنّ اللافت أن الكندي مال إلى توضيح الموروث الاجتماعي وإبرازه أكثر من سائر الرموز إيغالًا في التمسّك به والحفاظ عليه من الانقراض أو غلبة الحداثة عليه بغية نقله للأجيال وتعليمه، ما يعكس ارتياحه للتمسك به بأريحيةٍ وعفويةٍ مُحبّبتين. يقوم ذلك على إيحائيّة المشهد بالربط بين جيلين أو أكثر:
- جيل الكندي وأجداده من جهة. 
- وجيل الأصدقاء والمجتمع العماني بشكلٍ عامٍّ، في توأمة بين الأنا والنحن الجماعيين، برزت في عمليّة التطوّر الكتابيّ الذي يسبر عمق الفكرة في تقصّي دلالات التراث في روايات خالد الكندي بوساطة الصورة المتخيّلة وما يناظرها من دلالات تأويليّة في نصّ الحكايا التراثية في قصصه المعاصرة؛ لما تحمل كلماتها من دلالات ومضامين ورموز تعبّر عن الثقافة العمانية المورثة، وإدراك محمولات الثقافة الشعبيّة. 

اندماج وجدانيّ
ولا يستطيع إدراك التأويلات السياقيّة غير الخبير الذي يدرك علاقة الكاتب بالنّصّ والمرسِل بالمرسَلة في اندماج وجدانيّ يحكم عليه متلقٍّ يحمل في طيّاته، إلى جانب حشرية الاكتشاف والبحث، مخزونًا من الثقافة والسلوك والفكر ودلالات الكلمة لثقافة شعب، فالنّص ينفتح - بفضل منتجه المتلقي - على فضاءات نصيّة تُحِيلُ إلى معانٍ عدّةٍ مستنبطةٍ من النصوص التي سكنت في عمل المبدع وذاكرة المتلقي.
فتضمين الموروث الشعبيّ في النّص الأدبي لفتةٌ بلاغيّة إبلاغيّة وإيحائيّة إزاء الأحداث الواقعيّة أو الحقيقة الراهنة، وهو تناصّ معرفيّ من ثوابت القصّ ودعائم الاعتراف بالأصول، وتجذير إعمار الأرض، ولا سيما أن تاريخ الرواية العمانيّة حديث النشأة يعود إلى السبعينيّات. 
«أم الدويس والقافر وأماكن أخرى انبعاث التجديد الزمكاني»، فخالد الكندي يعدّ واحدًا من الروائيين العمانيين المميّزين الذين وُفّقوا بقدرةٍ على تجسيد الثقافة والتراث العمانييْن بشكلٍ نافعٍ ماتعٍ في أعمالهم الأدبية. وليس أدلّ أكثر من استخدامه منطقة (أم الدويس) موضوعًا أساسيّا لمسرح الأحداث، ولتعزيز المشاهد الرومانسيّة أو الدراميّة في الروايات. كما يمكن أن تُظهر أم الدويس رمزيّة الهدوء والسلام والتجديد في السياقات الروحيّة أو الفلسفيّة، ولا يبعد عنها البعد السيميائيّ لقصّته (القافر)، وفي ذلك تضمين لافت في اتجاه الاستناد على الماضي ليضيء الحاضر.
 وينطوي التضمين عند الكندي على فائدة سرد الوقائع في نسج الحبكة في سرديّة الالتفات حول المسكوت عنه، الذي يعزّز مكانة المواقف السابقة في النّفوس ولا يمكن التصريح بها بشكلٍ علنيّ، لذا اعتمد الكاتب على الرمز الذي يقوم بالتلميح، ليحكي في سطوره الأحداث الجارية بشكلٍ أدبيٍ معزّز بالوجدانيّة، باستحضار العِبَر والخلاصات والأقوال والأمثال والمواقف (كالقشة التي ستقسم ظهر البعير) (القافر 19)، وقوله: «أيقول إنّه رجعَ بِخُفَّيْ حُنَيْن؟» (القافر 19) أو ما اصطلح على تسميته بالتناصّ. وهنا ترك المثَلَيْن المذكورين بِلِغَتِهما الفصيحةِ الأصل من غير لفظها بلهجته العمانيّة بل بلهجتها الفصيحة وطواعية ألفاظها ومعانيها. وهكذا كان خالد الكندي في تناصّ بين التراث الشعبي الحقيقي ومقروئِه الثقافي في اتجاهين: مقروء الكندي للتراث وتأويلاته، وإشارات التراث باتجاه الكندي ابن الجيل الجديد بالنسبة للسابقين.
التأويل فنّ الفهم
فاستراتيجيّة التأويل وتحليل الخطاب، هنا، لا يخرجان عن كونهما تحليلًا للنصوص من خلال رؤى الباحث، وهو التقاءٌ بين النّصّ ومَنْ يقوم بالتأويل، مستفيدًا في هذا من معارفه وخبراته بل واتجاهاته، لأنّ التأويل فنّ الفهم كما يقول «بول ريكور»، والمعنى لا يمكن اكتشافه إلاَّ من خلال فهم السياق الذي ظهرت فيه النصوص.  
«تحليل التراث تصوير حياة شعوب سابقة ولاحقة: لطرْقِ المعنى الباطن والمعنى الجديد الظاهر وتوضيح ملامح الهُويّة».
لا جرم في أنّ تأويل التراث الشعبيّ هو تفسير ذاتٍ جماعيّةٍ وإدراك رؤية الذات فيها، ووجود الخلفيّة الثقافيّة المحيطة بالنص، ليكوّن مسرحا كبيرًا يعيش أحداثه خيال قارئ النص ومتلقّيه من خلال تأثيره عليه، بغية توصيل الفكرة، وأمّا ما يُخفيه النصّ من تأويلٍ فهو يكْمنُ في باطن المعنى وملامح الرمز الذي يشير إلى القيم التي يحتويها التراث في ظلّ وجود ثقافة مجتمعيّة بارزة الوجود، فائقة الاهتمام، أو ما يسمّى ملامح الهوية.
في روايته «القافر»، يمكن لخالد الكندي أن يتحدّث عن الجغرافيا الثابتة والمتحرّكة معًا، بطرقٍ متعدّدةٍ لتعزيز السرد وتطوير الشخصيّات والأحداث، لتدور في جغرافيّات ثلاث جوهريّة:
-1 الجغرافيا الثابتة: يمكن للكاتب وصف المناظر الطبيعيّة والمعالم الثابتة في المنطقة، مثل الجبال والوديان والشواطئ والمدن القديمة. يمكن أن يُستخدم هذا الوصف لخلق جوٍّ من الواقعيّة وإعطاء القارئ إحساسًا بالمكان والزمان وقل الزمكان في القصّة، وبماذا يمثّل للقاصّ من كثرة ذكر أسماء الأسواق؟ 
لعلّ تفسير ذلك أنّ هذه الأسماء قد تعكس التفاصيل الدقيقة والواقعيّة التي يسعى القاصّ إلى إيجادها لتعزيز واقعيّة العالم الذي يصوّره في مجموعته القصصيّة. كما يمكن أن تعكس تينك الأسماء تنوّع المكان والثقافة التي يستكشفها، وتسليط الضوء على التفاعلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة داخل هذه الأسواق، بنقل تجارب السابقين وإغناء حياة اللاحقين في المجتمع السريع التجدّد.
 بشكل عام، يمكن أن تسهم تلك الكثرة في إثراء عالم القصّة وتوفير تفاصيل إضافيّة تساعد على بناء الجوّ السرديّ والأجواء الحيوية في القصّة، ونقل الماضي الغابر إلى الحاضر المعيش والتاريخ إلى المستقبل وإشراقات التجديد.

تفاصيل واقعيّة
ومردّ ذلك سيميائيًّا إلى إيجاد وسيلة لبعث جوٍّ   واقعيٍّ وتفاصيل واقعيّة لعالم القصّة. يمكن أن تترسّخ إضافة إلى عمق التجذّر وتفاصيل البيئة التي تتحرّك فيها الشخصيات، من أجل توفير لمحة عن الثقافة والتاريخ والاقتصاد المحلّيّ للمكان الذي يجري فيه الحدث. بالإضافة إلى ذلك، قد تعمل كثرة ذكر أسماء الأسواق على تعزيز الواقعية والتشويق للقارئ، حيث يمكن أن تكون هذه الأسواق مواقع للتفاعلات الاجتماعيّة والحوارات والمشاهد الحيويّة في العمل الأدبي، ولا سيما أسماء الأسواق الثابتة التي لم تتغيّر عبر العصور، وانعكاس ذلك على الأسواق التي تغيّرت مسمياتها.
كما يُستخدم شاطئ (شناص) للدلالة على البيئة الجغرافية الثابتة المعالم المتحركة التأثير، ذات الدور المهم في تطوير الشخصيّات والأحداث. فترى الكنديّ يُقدّم وصفًا دقيقًا لجمال الشاطئ وسحره، ويستخدمه خلفية للأحداث ولتعزيز المشاعر والمشاهد الرومانسية أو الدراميّة. بالإضافة إلى ذلك، استطاع أنْ يوظّفه في الرمز إلى الحنين إلى الماضي، وإلى الهدوء والسلام الداخليّ، وإلى الإثارة والمغامرة في بعض السياقات.
-2 الجغرافيا المتحرّكة: يمكن للكاتب أيضًا أن يصوّر تحرّكات الشخصيّات في الفضاء الجغرافي الواقعيّ والفضاء الروائيّ، وتفاعلها مع البيئة المتغيّرة. على سبيل المثال، يمكن أن تتنقّل الشخصيّات بين المدن والقرى والمناطق الطبيعيّة، ويمكن أن يواجهوا التحدّيّات والمغامرات أثناء رحلاتهم، وفي ذلك لباقة سرديّة لدى الكندي في صنع البيئة الجغرافيّة المتحرّكة.
ويعدّ ذكر المراجع الجغرافيّة بشخصياتها وفضاءاتها وطريقة التعامل الأساس المتين لإكمال المسير نحو التطوير ومواكبة الآتي الجديد ■