أثر السيدة الجميلة في قصص نجيب محفوظ

أثر السيدة الجميلة في قصص نجيب محفوظ

«الحقيقة أن المرأة في حياتي وفي أدبي شيء واحد... لعبت المرأة في حياتي دورًا كبيرًا، إن لم يكن مثل السياسة فهو يفوقها...».
 ـ نجيب محفوظ

تلعب المرأة - بأدوارها المتعددة وصورها المتباينة وشراكتها للرجل أو وقوفها في الجانب الآخر من الحياة كند ومنافس وغيرهما من الأقنعة التي تمارس بها وجودها - دورًا مهمًا وبارزًا في كتابات نجيب محفوظ القصصية من خلال إبداعاته التي تمثل فيها نماذج دالة ومؤثرة، لطرح علاقات تفاعل كل نموذج منها مع النص ومع الواقع الموازي، ودورها المؤثر في دفع حركة النص ودراميته، شأنها كشأن باقي الشخوص، من خلال رؤية العمل ذاته - المطروح - وأيضًا من خلال تطور بنية القصة القصيرة في مسيرة كاتبنا العظيم، بالقدر الذي لعبته نماذج المرأة الروائية في رواياته العظيمة، وما أثارته من إشكاليات ومعالجات ومعادلات موضوعية ورموز من خلال تعدد واختلاف صورها في روايات مثل: «خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، وصولًا إلى «الثلاثية» بما تحمله من أنماط نسائية تكاد تنسلخ عن الأنماط السابقة التي عانقها إبداعه من خلال رواياته التاريخية «كفاح طيبة»، و«رادوبيس»، و«عبث الأقدار»، وتتماس معها في نقاط أخرى، وغيرها من مرحلته الواقعية الاجتماعية، وما بعدها من محطات مهمة روائيًا، تبعًا للنقلات الفنية والتعبيرية ومراحله المتتالية مع الإبداع ولوجًا إلى معانقة المفاهيم النفسية والفلسفية والميتافيزيقية في روايات عديدة مثل: «الطريق» و«الشحاذ» و«السمان والخريف»، و«ميرامار»، و«ثرثرة فوق النيل»، وصولًا إلى رواياته الأخيرة المؤصلة والمسجلة للحركة الاجتماعية والسياسية في مصر، والتي توازت فيها كلها خطوط إبداعاته المتفردة في الرواية مع القصة القصيرة. 
إلا أن التعامل مع نماذج المرأة في قصصه، قد تطور تطورًا ملموسًا كمفهوم واقعي/ تأسيسي لإبداعه بشكل عام، يقوم على أساس من المفهوم النفسي والفلسفي والرمزي، وفي بعض الأحيان العقيدي، بعلاقات شخوص النص الفاعلة/ الأبطال مع كل نموذج من نماذجها في النصوص التي اختلفت معايير تناولها لرؤاها، باختلاف كل مرحلة من المراحل التي يعبر عنها أدب نجيب محفوظ بصورة عامة، وكتوجه يشمل إبداع كل مرحلة على حدة؛ لتطفو بإلحاح هذه النماذج الجديدة لتجليات صورة المرأة؛ فالمرأة هنا لا يكفى وضعها على خريطة الإبداع القصصي لكاتبنا، كأي شخص من الشخوص، أو أي رمز من الرموز الفاعلة في بناء النسيج القصصي، وتأطيره بهذه الأفكار المغايرة؛ فهي هنا تتجلى لتجسد صورًا ورموزًا وأقنعة للحياة، في تلوناتها وتضاداتها وتفاعلاتها المثيرة، كصورة المرأة المنحرفة (نص «العرى والغضب» ـ مجموعة «الجريمة» 1973م) أو صورة المرأة صارخة الجمال، صعبة المنال (نص «في أثر السيدة الجملية» - مجموعة «التنظيم السري» - 1984م)، أو صورة التوحد الرمزي بين الرجل والمرأة (الأرض)، وشراكتهما (نص «الرجل والأرض» - مجموعة «الفجر الكاذب» - 1989م) وغيرها، كمنهل تنهل منه الحياة رموزها وتضفي عليه سحرها ورونقها، كما تنطبع على المرأة سمات الحياة؛ فالمرأة هي التي حوت أسرار الكون منذ بدء الخليقة، فكانت حواء التي كُتب لها أن تكون سر الحياة بما تحويه، وبما تمتلكه من رحم تستولد به الحياة وتستمر، ولتكون رمزًا لها من المهد إلى اللحد، وكما يقول عنها نجيب محفوظ في أحد حواراته: 
«الحقيقة أن المرأة في حياتي وفي أدبي شيء واحد... لعبت المرأة في حياتي دورًا كبيرًا، إن لم يكن مثل السياسة فهو يفوقها...».
وقد تعددت تلك الصور لتصنع بانوراما للوجود، والتعانق مع رمزية الوجود وفلسفته والطروحات الفنية والواقعية التي تتفاعل معها كيمياء الكتابة القصصية لتصنع هذه الإثارة الجدلية عميقة الفكر والتوجه لإشكالية مهمة من إشكاليات الوجود، ومن ثم التعاطي مع نماذجها الدالة والمؤثرة والتي تقيم بعلاقتها بالكون المزيد من الاشتباك وفلسفة التعاطي مع الحالة الإنسانية السديمية، والواضحة على حد السواء، ومحاولة تأويلها وتحقيق شرطية معادلات وجودها الفاعل مع أو ضد... في معالجات درامية ترصد التوترات الانفعالية لتلك العلاقات المتبادلة بينها وبين الرجل، أو المنفردة بقياد الحالة المستأثرة بجل الوصف والسرد، ومن ثم الانفتاح على طاقات التأويل والتفسير.

العري والغضب
فتبدو العلاقة بين المرأة والحياة على نحو من التشابك والإلغاز والضبابية المفرطة التي قد تفرضها أحداث نص «العري والغضب» الذي يشتغل على تيمة المرأة المنطوية على دهاء ومكر تغلفهما الرقة والوداعة والإيحاء بالسكينة المفرطة، لبيان مدى تداخل وتشابك المشاعر الإنسانية مع ما يفرضه الواقع المحبط/ الظاهر من سمات تحمل معنيي الافتتنان بالحياة والمتاهة في ملغزاتها العصية على الفهم، على نحو ما يقول في مفتتحه السردي الذي يعطي مفاتيح وامضة تجسد الحالة وتلعب عليها، دفعًا نحو حالة أخرى مغايرة من حالات تجليات تلك الحياة/ المرأة. 
«ناعمة مستكينة، مهذبة غارقة في الطمأنينة، ملهمة لأحلام البيت السعيد، تنتشر كالشذى في أعماقه فتشكل بضعفها المنساب طاقة مسيطرة بعون الإغراء والرغبات الدفينة. وكانت بمجلسها أمامه في الترام صورة مجسدة لأمنية عذبة غامضة، منعشة للروح، مبدعة للألفة الحميمة، فقال لنفسه إن هذا هو ما أبحث عنه».
بهذا الوصف الدال/ الرامز، الذي يمزج محفوظ بينه وبين أغوار النفس التائقة المشتبكة بحلم المعانقة ودروب البحث التي أجهدت بطل النص، طارحًا إشكالية الأمل المطلق، المراود لحياة مستقرة تمثل الوجه الأول من وجهي النص/ الرجل هذه المساحة المتألقة من الأمل في لقاء الحياة تتويجًا لرحلة البحث التي ربما كانت مرفأ جديرًا بالتهام الشجون وإذابته، وتحويل الحياة إلى نعيم مستقر. 
ما يدفع للولوج في دائرة التأثير بالإيهام التي يلعب عليها النص من خلال سلوك الشخصية الباحثة عن مرفأ لأمانها، ومن ثم وقوعها في حيز هذا الفخ المنصوب (المستنقع)، ومن ثم تأويله إلى ماهية التعانق مع مفردات الحياة التي تتمثل في تلك السمات والمفردات والتفاصيل التي يطرحها من أجل إبراز سمات تلك الحياة/ الرمز ومفردات التعامل معها، وحيث تأتي هنا تبادلية العلاقة بين الصياد والفريسة كصراع دائم على الحياة وفعالياتها... وكما تبدو من خلال سيرورة الحدث المقصودة معالم التحول وتبادل الأدوار.
   
في أثر السيدة الجميلة
تتخذ المرأة في نص «في أثر السيدة الجميلة» هذا المنحى الرمزي الفلسفي، الذي يسعى إليه إبداع نجيب محفوظ في أغلب نصوصه وأعماله السردية، فبعد أن مر بنا نص «العري والغضب» بهذا النموذج من المرأة/ المستنقع، وبما تمثله من عنكبوتية غادرة، يجيء نص «السيدة الجميلة» بعكس ما جاء به النص الأول بحيث تتبادل الأدوار؛ ليحل الرجل ملاحقًا مداهنًا للمرأة التي لا تقع فريسة لملاحقاته ورغبته الفاتكة به، بل على العكس ترديه في مصارع عشقها، بلا نتيجة لشقائه الذي جبلته عليه مفاتنها وحالتها الاستثنائية من الجمال والقدرة؛ ليصير النموذج هو نموذج المرأة الجميلة القادرة، المتمتعة بحيوية تنقلها المشع في جنبات الحياة وفعالياتها مع احتفاظها بحق العطاء لمن تحب وتهوى كسمة من سمات الحياة ذاتها وممارساتها. 
ففي بداية النص، الذي يحركه ضمير المتكلم الحميمي، الواشي بمشاعر بطله، والكاشف لأغواره أولاً بأول، والراصد بدقة - في نفس الآن -  لتحركات المرأة الجميلة، وبيان أثرها عليه. كما تحركه الطبيعة الآسرة، والمعبرة لتشارك بطل النص في هذه الحمى الجميلة، كخلفية لسعيه/ لهاثه خلف روح الحياة التي تجسدت له في صورة المرأة الجميلة، من خلال هذه المشهدية الدالة:
«كنت قادمًا نحو المنعطف من ناحية، وهي قادمة من الناحية المقابلة... وبيننا أشعة الشمس المشرقة تحبو فوق الأرض الخضراء... ألقيت نظرة عابرة فشدت بقوة باهرة لتستقر فوق صفحة وجه ذات مواصفات خاصة لا جدوى من وصفها».  
لا تخفى هنا دلالات: «المنعطف»، «أشعة الشمس»، و«الأرض الخضراء»، والتي تعمل على إبراز نقاط مهمة في حياة هذا الرجل العاشق الذي يرى/ يحس بأنه متجه نحو منعطف من منعطفات حياته التي يرومها جميلة سعيدة متألقة من خلال مساحة من الأرض خضراء تنمو فيها أحلامه وتترعرع، وتظلله شمس أمانيه، التي تسطع فوق صفحة وجه الحياة... تلك الحالة المستمرة للرمز الذكوري الذي يتغيا أمانه واستقراره دومًا على سطح الوجود، والذي يلتمسه دائمًا في ذلك الرمز العميق الذي يمثله وجود المرأة بجدارة لتستمر به الحياة، مع مراحلها ومع الرغبة المتقدة المتجددة التي لا يصير لها معنى في غير وجود المرأة أو البحث عنها، وهو ما يشير إليه الناص ويتعانق مع فكرته، وهو ما يمتد ليرصده النص التالي/ النموذج، الذي ترتقي به الفكرة إلى مفاهيم أكثر رسوخًا وأقرب تأويلاً لواقع متغير ومتقلب.

العجوز والأرض... رمزية التوحد مع المرأة 
يلعب راوي نص «العجوز والأرض» (الذي ربما كان امتدادًا لتلك الرؤية الفلسفية الرمزية للواقع) الشاهد على أحداث النص الخارجية، دور المشارك في الحدث، والمتابع له من خلال مشهدية وصفية تجمع بين قطبي الحياة (الرجل والمرأة) في مرحلة عمرية متأخرة تحمل سماتهما معًا، على أرضيتهما المشتركة من خلال هذه البقعة الصغيرة من الأرض. والأرض ذاتها هنا التي يكرس لها النص بفكرته ودلالات تحققها، كرمز للمرأة أو معادل موضوعي لها تتجسد فيها سمات الإعمار والإثمار، كما تتمثل فيها سمات البوار والضياع، وأهمية التمسك بها كمحتوى لنبتة الوجود التي يمثلها الرجل فتحتويه فيها ويتوحدان: 
«الرجل عجوز يقارب الثمانين، طويل القامة مع احديداب خفيف، أبيض الشعر خفيفه، عتيق القسمات، يرتدي بدلة متهدلة من النيل السنجابي، والمرأة فوق الستين، انمحت من صفحة وجهها أمارات الأنوثة وحل الجفاف والخشونة. على الأرض بينهما انطرحت خيمة مطوية وتناثرت حلل نحاسية وآنية شاي وموقد غاز». 
فمن خلال المشهد الوصفي تتجلى عناصر تشي بخمول الحياة لدى العجوزين، والمختلطة برغبة في إقامة حياة جديدة، تبدأ بالخيمة المطوية - التي تشرع في البحث عن مكان يمهد لنصبها - ومفردات مما يلزمها من (حلل نحاسية، آنية لشاي، موقد غاز) بما يمهد لطقوس مصدر رزق وحياة يكفلها لهما سعيهما، برغبة في تغيير حالهما وإنشائه من عدم/ موت منتظر لينطلق الكاتب بنصه من (الخاص) إلى (العام) إلى (الكوني) بهذه الرؤية التي تسجل بأس ما آل إليه حال الحياة بعد العمران، وتبرز دلالة التحول من عملية الإحياء إلى عملية الإماتة مرة أخرى في علاقة جدلية جديدة، وليصير الرجل والمرأة رمزًا متوحدًا لمعاناة رمز البشرية الأكبر المتمثل في آدم وحواء، وعناقهما للحياة من خلال عمارة الأرض وتحويلها إلى فردوس أرضى، كان مفقودًا، أو منعدمًا، ثم وجد بكدهما ودأبهما وإصرارهما، ثم عاد مفقودًا إلى الأبد بفعل سلطة قانون الحياة، التي لا تترك شيئًا على حاله، وكصورة أخرى من صور العدمية التي تتجلى بها الحياة بعلاقة عكسية، للظهور على سطح إبداع قصصي لا يفقد سحره، مهما توالت الحقب الزمنية، ومهما تعاقبت تيارات الإبداع بصورة عامة ■