مراثي الحيوان في العصر العبّاسيّ

لقد اصطحب العربيّ الحيوانات الأليفة على أنواعها في مغامرة حياته المحفوفة بالمخاطر والصّعاب، فكانت وسيلته النّاجعة في التّنقّل والتّرحال ونقل الأغراض، بل كانت رفيقته في الصّيد واللّهو وتزجية الأوقات... ولمكانتها البارزة في حياته، حرص العلماء العرب على تصنيف المؤلَّفات الَّتي تكشف عن أنواعها وأحوالها وطبائعها، وتهتمّ بمشيتها، وسكناتها، وألوانها، ووصف أجسامها بدقّة، يدلّ على ذلك كتاب «الحيوان» للجاحظ، و«حياة الحيوان الكبرى» للدّميريّ، و«جرّ الذّيل في علم الخيل» للسّيوطيّ.
إلى جانب الاهتمام الموضوعيّ بالتّأليف المرتبط بالحيوان، اهتمّ الشّعراء بالجانب الوجدانيّ، وتحديدًا بالجانب الحزين الشّجيّ المرتبط برثاء حيواناتهم الأليفة. ويظهر، من المصادر الأدبيَّة، أنَّ هذا الغرض قد استوفى تشكّله في العصر العبّاسيّ ضمن قصائد مستقلّة، وإن كنّا نجد أبياتًا مفردةً أو مقطوعاتٍ قصيرةً مبثوثة في بطون بعض المصادر لشعراء مجهولين سبقوا تلك الحقبة. ومع ذلك نقرأ للشّاعر الجاهليّ السّليك بن السّلكة قصيدةً يرثي فيها فرسَهُ النّحّام، وقد مات وارتفعت قوائمه وظهرت بواطن حوافره، فيقول:
كَـــأَنَّ قَوائِــمَ النَّحّـــامِ لَمّا
تَحَمَّلَ صُحْبَتي أُصُلًا مَحـــارُ
عَلى قَرَماءَ عالِيَةٌ شَواهُ
كَـــأَنَّ بَيــــــاضَ غُرَّتِـــهِ خِمـارُ
وَما يُدْريكَ ما فَقْري إِلَيْهِ
إِذا ما القَوْمُ وَلَّوا أَوْ أَغاروا
إنَّه يشبّه حوافر فرسه بالمحار، وغرّته بالخمار، ويعبّر عن شديد افتقاده إيّاه في غمرة الحروب والمغازي.
وفي العصر العبّاسيّ، بات رثاء الحيوان غرضًا قائمًا بذاته، فيطالعنا أبو نواس برثائه كلبًا عزيزًا عليه كان يرافقه في رحلات الصّيد، ولكن غدرت به حيّةٌ رقشاء فقتلته، فأخذ يُعبّر عن فجيعته به، وهو الّذي كان يُغنيه في الصّيد عن استخدام العقبان، ويُغنيه عن القصّابين والخدم لما يوفّره من صيدٍ وفيرٍ:
يا بُؤْسَ كَلْبــي سَيِّدِ الكِــلابِ
قَدْ كانَ أَغْناني مِنَ العُقابِ
وَكانَ قَدْ أَجْزى عَنِ القَصّابِ
وَعَـنْ شِراءِ الجَلَبِ الجَـلّابِ
ولذلك استحقّ منه البكاء الغزير الصّادق، وكيف لا يبكيه وهو يفتقده في صيد الظّباء والذّئاب:
يا عَيْنُ جودي لي عَلى حَلّابِ
مَنْ لِلظِّباءِ العُفْرِ وَالذِّئابِ؟!
ثمَّ ينتقل إلى سرد حادثة موته، فقد غدرت به حيّة رقشاء، لدغته من عرقوبه بنابها السّامّ وأفلتت هاربةً من غير أن ترعى حقّه، ليقع صريعًا وينتفخ كجرابٍ منفوخٍ:
فَبَيْنَما نَحْنُ بِهِ في الغــــابِ
إِذْ بَرَزَتْ كــــالِحَــةُ الأَنْيــابِ
رَقْشاءُ جَرْداءُ مِــنَ الثِّيــابِ
كَــــــأَنَّما تُبْصِــــرُ مِـنْ نِقـابِ
فَعَـــــلِقَتْ عُـرْقـــــوبَهُ بِنــــــابِ
لَمْ تَرْعَ لي حَقًّا وَلَمْ تُحـابِ
فَخَرَّ وَانْصاعَتْ بِلا ارْتِيابِ
كَـــأَنَّما تَنْفُـــــخُ فـــي جِــــرابِ
ولكنَّ الشّاعر أبى إلّا أن يثأر منها ويُعاقبها بأشدّ العذاب، فيتوعّدها:
لا أُبْتُ إِنْ أُبْتِ بِلا عِقابِ
حَتَى تَذوقي أَوْجَعَ العَذابِ
وهذا الشّاعر القاسم بن يوسف اشتهر بذلك الفنّ حتّى صار فيه عَلَمًا يتقدّم جميعَ معاصريه حسب قول المرزبانيّ: «هو أرثى النّاس للبهائم».
ففي مرثيّته لطائر القُمْريّ تتجلّى أصدق معاني الألم والحزن، فيتذكّره صديقًا وخليلًا قبل أن يُعاجله الرّدى بسهمٍ أرداه طيّ رمسٍ موحشٍ حبيس الأكفان:
كـــانَ المُطَــــوَّقُ خِدْنًا
مِنْ أَكْـــرَمِ الأَخْــدانِ
وَصــــــــاحِبًا وَخَـــــليــلًا
مِنْ خالِصِ الخِلّانِ
فَغــــــالَهُ حــــادِثٌ مِــــنْ
حَــــــوادِثِ الأَزْمـــانِ
أَمْسى المُطَوَّقُ رَمْسًا
دَريجَـــــةَ الأَكْفـــــــانِ
مُسْتَــوْطِـــــنًا دارَ قَفْـــرٍ
مِنْ عامِرِ الأَوْطانِ
وإزاء ذلك الفقدان، ما كان لقلب الشّاعر إلّا أن تجتاحه لواعج الجوى والحسرة ألمًا، وما كان لعينيه إلّا أن تستسلما لبكاء مرٍّ بدموعٍ سجامٍ:
فَالقَلْــــبُ فيــــهِ كُلومٌ
مِنْ لاعِجِ الأَحْزانِ
وَفي الحَشا لاذِعاتٌ
كَمِشْعَـــلِ النّيـــرانِ
وَالمُقْلَتــــــانِ سُجــومٌ
دَمْعـــاهُمـــا تَكِفـانِ
ويختتم الشّاعر مرثيّته باستبعاد أن يكون هناك ما يداني طائره الفقيد، أو أن يكون له ثانٍ، ويدعو له محتسبًا، فكلّ شيء ما خلا الله فانٍ:
هَيْهاتَ ما لَكَ ثاني
مُقارِبٌ أَوْ مُدانـي
فَاذْهَبْ حَميدًا فَقيدًا
فَما خَلا اللهُ فاني
ولمّا كان للخيل مكانة فريدة في حياة العربيّ، فإنَّ لفقدها وقعها الأعمق في نفسه، وما يُظهِر ذلكَ بائيَّةُ الشّاعر محمّد بن عبدالملك الزّيّات الَّذي يرثي فرسه الّذي كان مكينًا عنده، ولكنَّ المعتصم العبّاسيّ أخذه منه بعدما زيَّنه في نفسه أحدُ الوشاة. فيفتتح قصيدته بتصوير رزيّته وجزعه وحزنه على فرسه الأحمّ الأشهب مستبعدًا القدرة على التّجلّد والعزاء وقد ودّعه إلى غير رجعةٍ:
قالوا: جَزِعْتَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مُصيبَةً
جَلَّتْ رَزِيَّتُها وَضاقَ المَذْهَبُ
كَيْفَ العَـــزاءُ وَقَـــدْ مَضى لِسَبيلِهِ
عَنّا، فَوَدَّعَنــا الأَحَـمُّ الأَشْهَبُ
ثمّ يعمد إلى تصوير يوم فراقه، وسلبه منه، ما جعل نفسه موزّعةً مشتّتةً:
للهِ يَــوْمَ غَدَوْتَ فيهِ ظاعِنًا
وَسُلِبْتُ قُرْبَكَ، أَيَّ عِلْقٍ أُسَلَّبُ
نَفْسي مُقَسَّمَةٌ أَقامَ فَريقُها
وَمَضـــى لِطَيَّتِــــهِ فَــريـقٌ يُجْنِبُ
بعدها يعود إلى استرجاع صورته حين كان يمتطيه فيشعر بالكبرياء والعظمة والجلالة، حتّى كأنَّه كوكبٌ يسبح في الفضاء وتحته السّراج كغمامةٍ، وهو ما كان كافيًا للصدّيق ليلتمس تلك المهابة، وللعدوّ ليوغر صدره حنقًا وحسدًا:
وَكَأنَّ سَرْجَكَ إِذا عَلاكَ غَمامَةٌ
وَكَأَنَّما فَوْقَ الغَمامَةِ كَوْكَبُ
وَرَأى عَلَيَّ بِكَ الصَّديقُ جَلالَةً
وَغَدا العَدُوُّ وَصَـدْرُهُ يَتَلَهَّـــبُ
ثمّ لا يتردّد في الدّعاء على نفسه بالهلاك إن هو نسيه، ومع ذلك لا ينفكّ يذعن لليأس من عودته، فيطرق خائبًا متحسّرا بكلّ صدقٍ ووفاءٍ:
أَنْســـــــاكَ؟ لا زالَــــــتْ إِذًا مَنْسِيَّـــةً
نَفْسي، وَلا بَرِحَتْ بِمِثْلِكَ تُنْكَـــبُ
أَضْمَرْتُ مِنْكَ اليَأَسَ حينَ رَأَيْتَني
وَقِوى حِبالي مِنْ حِبالِكَ تَقْضَّبُ
وَرَجَعْتُ حينَ رَجَعْتُ مِنْكَ بِحَسْرَةٍ
للهِ مـــــا فَعَــــلَ الأَحَــــمُّ الأَشْيَـــــبُ
ولعلّ مرثيّة الهرّ للشّاعر المعروف بابن العلّاف الضّرير تبقى أشهر مراثي الحيوان في الدّيوان العربيّ نظرًا إلى شهرتها وكثرة روايتها، وإلى اهتمام القرّاء بها قديمًا وحديثًا. يفتتحها الشّاعر بمناجاة هرّه الَّذي كان يحبّه ويأنس به، وينزله بمنزلة الولد، ولا عجب في تعلّقه به وهو الَّذي كان عدّته في دفع أذى الأفاعي والجرذان عن بيته:
يـــا هِــــرُّ فـــــارَقْتَنا وَلَمْ تَعُـدِ
وَكُنْـــتَ مِنّا بِمَنْـــزِلِ الوَلَــــدِ
وَكَيْفَ نَنْفَكُّ عَنْ هَواكَ وَقَدْ
كُنْتَ لَنـــا عُــــدَّةً مِنَ العُـدَدِ
تَمْنَعُ عَنّـــا الأَذى وَتَحْـرِسُنا
بِالغَيْبِ مِنْ حَيَّةٍ وَمِنْ جُرْدِ
ثمّ يشرع في ذكر حادثة قتله، فيبيّن خوفه عليه حين كان يتسلّل إلى برج الحمام لدى الجيران، فيلتهم أفراخها، ولكنَّ هؤلاء كادوه وتمكنّوا من الإمساك به، فانتقموا منه شرّ انتقامٍ بشنقه:
وَكــــانَ قَلْبــــــي عَلَيْــــــكَ مُرْتَعِــدًا
وَأَنْتَ تَنْســــابُ غَيْــــرَ مُرْتَعِـدِ
تَدْخُـــــــلُ بُــــــرْجَ الحَمـــــامِ مُتَّئِــدًا
وَتُخْـــــرِجُ الفَـــــرْخَ غَيْرَ مُتَّئِـدِ
وَتَطْرَحُ الرّيشَ في الطَّريقِ لَهُمْ
وَتَبْلَـــــعُ اللَّحْـــمَ بَلْـــــعَ مُـزْدَرِدِ
صادوكَ غَيْــظًا عَلَيْــكَ وَانْتَقَمــوا
مِنْكَ وَزادوا وَمَنْ يَصِدْ يُصَدِ
والقصيدة طويلة يُصوّر فيها الشّاعر بصدقٍ حزنَهُ وأساه على هرّه، ولكنَّ ثمَّة مَنْ أدرجها في سياق الرّثاء الرّمزيّ زاعمًا أنَّه رثى بها عبدالله بن المعتزّ الَّذي قتله المقتدر، ولكنَّه خشي على نفسه من الجهر برثائه، فتوسّل إلى ذلك برثاء الهرّ، يقول الثّعالبيّ: «ورّى بها عن ابن المعتزّ، فقضى وطرًا من حيث لم تلزمه حجَّة». بالمقابل، رفض آخرون، من المتقدمّين والمعاصرين، ذلك المنحى الرّمزيّ، وحصروها برثاء الهرّ فيقول الصّفديّ: «وأنا شديد التَّعجّب ممّن يزعم أنَّ هذه القصيدة رثى بها غير هرٍّ».
وعلى منوال ابن العلّاف، يرثي الشّاعر أبو الحسن التّهاميّ قطًّا له مات غرقًا في بئرٍ، فيُصوّر ما أصابه من نوبة بكاء على إثر غيابه وما خلّفه فراقه من وحشة، ويسترجع ذكرياته معه حين كان يُبدّد ظلمة وحدته:
وَلَمّا طَـــواكَ البَيْنُ وَاجْتاحَـــكَ الرَّدى
بَكَيْنـــاكَ مــا لَمْ نَبْكِ قَطُّ عَلـى قِطِّ
لَقَدْ كُنْتَ أُنْسي في الفِراشِ لِوَحْدَتي
إِذا بَعُدَتْ ذاتُ الوُشاحَيْنِ وَالقُرْطِ
ولذلك يتمنّى لو كان حبسه في داره ليمنع عنه الموت غرقًا، ولكنَّه ما كان ليعلم بموعد منيّته:
وَلَوْ كُنْتُ أَدْري أَنَّ بِئْرًا يَغولُني
بِمَهْواكَ فيهِ لَاحْتَبَسْتُكَ بِالرَّبْطِ
ولأبي الفرج الأصفهانيّ قصيدة رثاءٍ شديدة الصّدق بحقّ ديكٍ غاله الدّهر فثوى، يبتدئها بمناجاة ذلك الدّيك معبّرًا عن لهفته الحارّة عليه، ويتمنّى لو كانت تلك اللّهفة تدفع المنيّة عنه، ويتذكّر خصاله وشمائله الّتي سرعان ما ذوت بعدما توهّجت:
لَهْفي عَلَيْكَ أَبا النَّذيـــرِ لَوَ انَّهُ
دَفَـــعَ المَنايـــا عَنْـكَ لَهْــفُ شَفيـقِ
وَعَلى شَمائِلِكَ اللَّواتي ما نَمَتْ
حَتّى ذَوَتْ مِنْ بَعْدِ حُسِنِ سُموقِ
ويبتدر من الشّاعر اعتبارٌ وحكمةٌ في ذلك الموقف؛ فلا نعم تدوم، وكلّ رزق إلى بوار، ومع ذلك لا يتمالك نفسه عن البكاء متى عاين مكانه خاليًا، وسمع صياح ديك الجيران، ليواصل أسفه وجزعه عليه أبدًا:
نِعَمٌ - لَعَمْرُكَ لَوْ تَدومُ - هَنيئَةٌ
هَــــلْ دامَ رِزْقٌ لِامْــرِئٍ مَرْزوقِ
أَبْكـــــي إِذا عــــايَنْتُ رَبْعَـكَ مُقْفِرًا
بِتَحَنُّــــــنٍ وَتَفَــجُّــــــعٍ وَشَهــيــــــقِ
وَيَزيدُنـــي جَـــزَعًا لِفَقْــدِك صادِحٌ
فـــــي مَنْــــزِلٍ دانٍ إِلَــيَّ لَصيـــقِ
فَتَأَسُّفــــي أَبَــــدًا عَلَيْـــــكَ مُواصِلٌ
بِسَوادِ لَيْـــلٍ أَوْ بَياضِ شُــــروقِ
وللطّاووس أيضًا نصيب من الرّثاء، فهذا الشّاعر أبو الفتح كشاجم يرثي طاووسًا بقصيدةٍ يفتتحها بمقدّمة يثبت فيها حتميّة الموت الّذي لا تغمض عينه عن الأحياء، لينتقل إلى التَّعبير عن الحزن والجوى لفقد هذا الطّائر الَّذي يشبه الرّوض المتحرّك بزركشة ألوانه وسحرها:
وَلِلْمَنـــايـــا عَيْـــــنٌ مُوَكَّلَةٌ
بِالحَــــيِّ لَــــمْ تَغْتَمِضْ وَلَــــمْ تَنَــمِ
وَأَيُّ عُذْرٍ لِمُقْلَةٍ بَعْدَ الطّـــــــــــــاوُوْسِ
عَنْها إِنْ لَمْ تَفِضْ بِدَمِ؟!
رُزِئْتُهُ رَوْضَــــةً تَـرِفُّ وَلَمْ
أَسْمَـــعْ بِرَوْضٍ يَسْعى عَلى قَدَمِ
ولمّا كان الرّدى يُحدق بنا ليخطف كلّ نفيسٍ، فلا عزاء بغير الصّبر والتَّجلّد:
وَلِلـــــرَّدى هِمَّــــةٌ يَغــولُ بِهـا
كُـــــلَّ نَفــــيسٍ وَكُــلَّ ذي هِمَمِ
ما أَحْسَنَ الصَّبْرَ في البَلاءِ
وَما أَجْمَلَهُ عِصْمَةً لِمُعْتَصِمِ
وإلى جانب الرّثاء الشّجيّ الحزين، ثمّة مرثيّات ساخرة قيلت بهدف التَّهكّم والتَّندّر، ومن ذلك رثاء ابن عنين لحمارٍ له مات بالموصل:
لَيْلٌ بِأَوَّلِ يَوْمِ الحَشْرِ مُتَّصِلُ
وَمُقْلَــــةٌ أَبَــــدًا إِنْسانُهـــا خَضِـلُ
وَهَــلْ أُلامُ وَقَــدْ لاقَيْتُ داهِيَةً
يَنْهَدُّ لَوْ حَمَلَتْها بَعْضَها الجُبُلُ
إذ بدأ قصيدته بتصوير محنة الفقد التّي جعلت ليله طويلًا، وعينه لا يجفّ دمعها، ثمَّ أبدى رفضه أن يُلام على مصابه الّذي تخرّ له الجبال. ولذلك يدعو له بالغيث يسقي ثراه على عادة العرب في الدّعاء للميت:
لا تَبْعُدَنْ تُرْبَةٌ ضَمَّتْ شَمائِلَهُ
وَلا عَدا جانِبَيْها العارِضُ الهَطِلُ
ثمَّ يعدّد شمائله النّادرة الَّتي تبعث على الضّحك والسّخريَّة وليس على الحزن والأسى؛ فحماره أسرع من الرّيح، ونهيقه يطرب كالألحان:
قَدْ كانَ إِنْ سابَقَتْهُ الرّيحُ غادرَها
كَــــأَنَّ أَخْمَصَهـــا بِالشَّوْكِ يَنْتَعِـلُ...
يُرَجِّــعُ النَّهَـــقَ مَقْــــرونًا وَيُطْرِبُني
لَحْنًا كَما يُطْرِبُ المَزْمومَ وَالرَّمَلُ
ويُضاعف من سخريته بأن يتمنّى أن لو كان يُفتدى بمالٍ، لمّا ضنّ عليه:
لَوْ كانَ يُفْدى بِمالٍ ما ضَنَنْتُ بِهِ
وَلَمْ تُصَنْ دونَهُ خَيْلٌ وَلا خَوَلُ
ولذلك لا غرابة في أن ضمَّ خليل مردم محقّق ديوان ابن عنين هذه القصيدة إلى باب السّخريَّة بدلًا من الرّثاء. عمومًا، لقد كانت البواعث متعدّدة لازدهار فنّ رثاء الحيوان في العصر العبّاسيّ، فبعضها مبعثه العواطف الإنسانيَّة النّبيلة المعبّرة عن صدقٍ خالصٍ، وبعضها مبعثه التّجاوب مع روح ذلك العصر من ميلٍ إلى الشّعر التّهكميّ، أو إلى الرّمز للإفلات من أيّ مسؤوليَّةٍ، أو إلى الرّغبّة في التَّفرّد بفنونٍ ومعانٍ جديدةٍ ■