رواية «مَجِسّي» للكاتب حجّاج أدول «الميتا - سرد» العجائبي التجريبيّ

 رواية «مَجِسّي» للكاتب حجّاج أدول «الميتا - سرد» العجائبي التجريبيّ

«العجائبيّ خطابٌ يعمدُ إلى استعمال مفرداتٍ، وعباراتٍ دالة على التحوّل والمسخِ، تزيينًا وتصحيحًا» - (د. أحمد فرح - البنية السرديّة في النصّ العجائبي/ ص27).
 رواية «مَجِسّي» وهي من نوع «الميتا - سرد» خلاصة أسطورة، نضجت وشاعت، واختلطت بذرات الأرض العسيرة التضاريس، وبإنسانها الشقي في مواجهة قسوة الطبيعة، وتخطتِ الواقعَ والخيالَ، وبإيقاعٍ سرديّ مُتقنٍ ما بعدَ الخيال. والنصّ العجائبيّ - الفانتازي نادرٌ في سردنا العربيّ، رغمَ ما لهُ من جذورٍ عميقةٍ في تراثنا العربي، ومثله قصص وروايات الخيال العلمي.

 

ورواية «مَجِسّي» للكاتب المصري النوبيّ الكبير حجّاج أدول، تطرقُ أبوابَ السردِ العجائبيّ بقوة، طرقاتِ تفرّدٍ، وهي تحيلُ قارئها، في عاصفة دهشةٍ وجذبٍ، لرؤية فيلمٍ سينمائي من أفلام الرعب المرهقة والشائقة معًا... خلاصة حكاية بليغة، تناسلت حكاياتٍ، اعتمدت المجاز والحُلم والخيال والواقع، وهي حكاية «قرية البركة» البسيطة التضاريس والمعقدة المناخ، واضطراب إيقاع الوجود والحياة فوق أرضها، القرية التي يستأذب زعيمها فيها، ولابدّ أن تطلق لهُ في ليلةٍ واحدةٍ، ليلة اكتمال القمر، واحدًا من أبنائها، أو واحدة من بناتها، فقط ليثأر لولدهِ الحقيقي والوهمي الذي يتهمُ أهل القرية في قتلهِ:
«المطاردة بشعة لا تعرفُ الرحمة، العشرة ينطلقونَ معَ انطلاقِ ضرب الطبول التي تعلنُ بدءِ اللعبة المفروضة عليهم، يندفعُ كلٌّ منهم، منفردًا لاتجاهٍ يختارهُ» (ص9).
في سردٍ مُتقنٍ باذخٍ في الدهشة: «يعتمدُ لغة تتخطى الواقع إلى المُتخيّل، لتكتبَ سردًا يترددُ بين عوالم الحقيقةِ والمجاز» - بتعبير د.أحمد فرح أيضًا.
والسردُ في أسلوبٍ عجائبي فانتازي، مثير للخوف والفزع والحذر، تجسّدُه كلماتٌ منتقاة، وهي تتبارى لتجسيد الحدث، وكأنها لحظتها تكتبُ نفسها بنفسِها، وهي تكتشفُ، والسردُ بمجموعهِ استكشاف، والساردُ - الناص مستكشفُ للوجود، بهيئة فنان يصوّرُ لقطة سينمائية بارعة الجذب والدهشة، مصدرُ الجمال في النصّ السرديّ:
«المطاردة بشعة، لا تعرفُ الرحمة، المسوخ الذئبية الثلاثة تجمعُ ما بينَ الأنسي والذئبي، وعواؤها يجمعُ ما بينَ العواء الذئبي، وصراخ وشخير الإنسي» (ص9). 
ومهما يحاولُ العشرةُ المختارون والمنطلقون في استخدام كلّ الحيل والمراوغة والتخفي، لكي ينقذوا أنفسَهم من المستذئبين الثلاثة، لا محالة من سقوط أحدهم، ويكونُ الفريسة، وتحت أنياب المستذئبين طالبًا الرحمة،... وهيهات!! فهو الصيد البريّ الأمثل، وقد بدا في صورةِ سلخ شاةٍ، حيث يتدلى جذعه ورأسه إلى الأسفل، فيصبح وجبة سهلة ماتعة للذئاب والكلاب، بعدَ أن يسمح المسخ الذئبي العجوز الزعيم بذلك:
«عاااووو... عاااووو...
يرفعُ المسخ الذئبي العجوزُ يديه عاليًا، تتوقف رقصة القتال الاحتفالية، تسكن النساء، ويهدأ الأطفال» – ص 10.
يقولُ «جوزيف كونراد»: «يجبُ أن تكونَ حرية الخيال أغلى ما يعتزّ بهِ الروائي من ممتلكات».
والروائي - السارد يجسّدُ، وكأنهُ في لحظة حُلم، مشهدًا عجائبيًا، بعدَ البشاعة، حينَ يقومُ العجوز المستذئب، وفق طقسٍ ذئبي متوحشٍ، وهو ينقضُ على الفريسة، مالئًا فمه الذئبي الأنياب بدماء الفريسة، مقتطعًا أمعاءها، بمخالبهِ النحاسية، إيذانًا ببدءِ الوليمة الذئبية على ضرب الطبول، وموسيقا الرعب، أشهى وأطعl. ولمْ يبق أمامَ القرية المغدورة التي فقدت أحد أبنائها إلا أن تشتمَ رغمًا عنها دخان ورائحة الشواء، وتسمع أصوات الذئاب والكلاب، وهي تتغذى على جثة ولدهم، وليسَ لديهم من وسيلة إقناع النفس إلا الحزن وذرف الدموع، والدعاء من أجل الانتقام:
«يتأوّهُ الضحية والذئبُ العجوز ينحني ليركع على ركبتيه، الضحية يغمضُ عينيه، واليد اليمنى للذئب العجوز ترتفع، وتهوي ضاربة بمخالبها في أسفل صدره ليشقه، وتهبط لنهاية البطن، وهي تمزق في اللحم الطريّ» (ص13).
الروائي حجّاج أدول، لا يبدو مستكشفًا وحسب، بلْ هو كاتب، ومصوّر، ورسام في آنٍ، والرواية في أسلوبها التشكيلي الراقي مصدر جذب ودهشة، والسردُ في إيحائه التعبيري الجمالي بليغ ومثير، والساردُ يرسمُ ويشكّلُ في إثارة تشبهُ الملح في الرواية - بتعبير إتالو كالفينو... خليط بديع من الصور، وهو يحاولُ المزج بتشبيهات جاذبة، صورة لمجتمع الغابة من أفيال، وزرافات، وكلاب، وذئاب، مجتمع لهُ حقوقه ونواميسه خلال المتخيّل - شرط السرد... إلى جانب المجتمع القروي الأنسي، متمثلًا بصائدي الوحوش والثعابين والأبقار، باختلاف لهجاتهم، وألوانهم، ودياناتهم، وطرق حياتهم، وظهور المرأة الأسطورية في العيش، ودورها في الزواج والسلطة والحكم.
المرأة المقدّسة «دودو» العظيمة وقدْ أصبحت رمزًا، تُقامُ لهُ النصب والتماثيل، وتقرع الطبول، لها طقوس المقدّس. و«دودو» الأم - الحصن، لها شأنها في القرية، وقدْ سنّت قانونًا، ليكون في الحاكم والزعيم من ذرية المرأة - دودو، ليسَ هذا فقط، إنما انتساب الفرد لأمّهِ وليسَ لأبيه:
«صارت دودو الممثل للأسلاف العظام، والأمّ العظيمة التي أنجبت القرية معنويًا، هذا لتستمر قيمة المرأة قائمة، ولضمان أنّ الحاكم من ذرية دودو العظيمة، وضمان الانتساب الحقيقي للأمّ وليسَ للأب» (ص22).
ولأنَّ في الرواية «لا تستطيع الشخصيات أنْ تفعلَ شيئًا إلاّ أنْ تحيّا» - كما يقولُ د.هـ. لورانس.
يصبحُ لأسرة الزعيم نسل الأمّ - دودو من المكانة والتميز والتفرّد، فقرروا أنْ يوسمَ كلّ فردٍ كيًّا، برسم ثمرة المانجو، ليكون الوسمُ الشاهدَ على أنهُ من أسرة المنتسب إلى الأمّ - دودو. وفي القرية تتعددُ الأجناس والديانات وطرق العبادة، والصلاة، كلّ يصلي لما يشتشير بهِ قلبه، حيث الصلاة محتلفة، والمعبود لا أحد، وإله في وقتٍ واحدٍ، وفق طقوس ديانة بلا ديانة، الكلّ في معتقده الديني يعودُ إلى الأمّ - الرمز دودو:
«ومع توالي مواسم الأمطار، اختلطت الديانات قديمها بحديثها، في بوتقةٍ غريبة، وانضمت إلى المعبدالبسيط الذي يحتوي شجرة المانجو، وتمثال الأمّ العظيمة دودو» (ص26).
في رواية «مَجِسّي» الشخصيات تخلقُ نفسها عند الكتابة، والساردُ والسرد في الكتابة - الحلم، وهو كاتب واقعي وخيالي وحالم، وفانتازي fantasia في آنٍ، وهو يجاهدُ ليتجاوز حدود النفس، وهو يرى القرية، ويعيش في وسطها، وهي تعيشُ وفق رؤاه، مشاكل وتحدياتٍ غير محسوبة، وبلا عدد، لا حصر لها، وعلى رأسها، أن الزعيم «هوليو» لا أخوات لهُ، ومن شروط الزعامة في القرية، أنّ ابن الأخت هو مَنْ يرث الزعامة، والحكم لابن الأنثى. و«أيسالو» ابنة الخالة شخصية إشكالية بفقهِ السرد، بدتْ وهي تختارُ زوجها بنفسها، وقد اختارت من لا اتفاق عليه، فهو شاب غامض وعابس، مريب في سلوكهِ الحياتي والمعيشي، والقلقُ الأكبر من نسلهِ الذي سيكون الزعيم القادم. ومطامع زوج «أيسالو» على رأسها زعامة القرية، في نوايا خبيثة، فقط لينفذ فكرة الانتقام من كلّ شخص ذي قيمةٍ في القرية. وقد أنجبَ ولده «فوستو» صورة أبيه، ولا يقل شرًّا وخبثًا عنه، والقرية ماضية في شعور فقدان الاقتناع بزعامة «فوستو»، وقد صارَ التفكير جديًا بتغيير نظام وراثة الزعامة.
وقلق القرية الأكبر من الوراثة والزعامة، هو ذلك العواء الذي أصبح عوائين في آنٍ، تصحبهما حوادث اختفاء الأطفال الرضع على يد وحوش لم يشعر بها أحد:
«لا يصدق أحدٌ أنَّ الوحوش تتسللُ بدون أن يشعر بها أحد، لتخطفَ الأطفال بكل هذهِ السهولة» (ص30).
«ماتَ الزعيم، ولم يستطع أبناؤه فعلَ شيء» - الرواية (ص 31).
يموتُ الزعيم المحبوب، والقرية في حزنها الشديد تحتَ سياط مؤامرة، وراءها «فوستو» الوريث الجديد، وأبوه والعصابة التي جاءت إلى القرية، ولا يعرف عنها أهل القرية، كيف جاءت، وكيف تكونت ودخلت، حالة فوضى السلطة، و«فوستو» الوريث للزعامة الشرعي المكروه يحكم. والقرية حالة خطرة من الفتنة والفوضى واندفاع إلى المجهول، نزاعات، وصراعات بلا حدود، والطامة الكبرى أن «فوستو» وأباه من السحرة الأشرار، وإليهما يرجع العواءان اللذان يتصاعدان كلّ ليلة استكمال القمر، وحيث اتضحت الأمور أكثر لأهل القرية، فإن الوريث الشرعي، وأباه ليسا من الأشرار وحسب، بل من آكلي لحوم الأطفال، وهما وراء اختفاء الأطفال الرضع في القرية.
والوريث الشرعي المكروه «فوستو» سلطة عنف، وقتل، ومجازر، تطال أنصار الزعيم القديم، ومن السهل معرفتهم، لوجود الوسم الذي يتميزون بهِ عن غيرهم:
«قتل جميع أفراد أسرة الزعيم السابق، طعنات الحراب، والسكاكين، وانطلاقات السهام عادية ومسمومة، مجزرة متوحشة، تسيل فيها الدماء» - (ص32).
الرواية خلاصة متخيّل جاذب، والسارد textor أراد بالخيال إنتاجي ابتكاري، بما لهُ من صفةٍ جهنمية - برؤى السرياليين، وهو بحسب - كولريدج: «القوة الحيوية في كلّ إدراكٍ إنساني»!
«زاندو» ابنة الزعيم القديم، وعلى أجنحة الخيال السردي، تستطيع الفرار إلى مكانٍ لم يستطيعوا أو يتمكنوا من العثور عليها، وهي الناجية بأعجوبة من سيوف ورماح وكمائن الوريث الشرعي الشرير... تصبح في «قرية الموز» وتتخذُ لها اسمًا «روكا»، وهي تلدُ ابنها الوحيد في هذه القرية التي وجدت فيها الأمان، وتزوجت من أحد رجالها، لتحمي نفسها وولدها.
ويأتي «بُرهما» ولدها من أبيه القتيل على يد الشرير «فوستو»، وقد أصرّت انتماءً للقرية، ونسل أبيها، ورغبة في الثأر حينَ يحينُ وقته، أن يوسمَ «بُرهما» بوسم القرية، ودفعت به مع زوجها الذي أحبّها، أن يتعلم فنون القتال، ليكون فارسَ المستقبل، وهو مَنْ يثأر لأبيه ولجدهِ، ولأبناء القرية المنكوبة:
«إنَّ ناس القرية صارت تعلم بيوم تعود زاندو، وقدْ شبّ مَنْ كان في بطنها، سواء كانَ ذكرًا أو أنثى، فقدْ قرروا أن يملكوه حكم القرية، بدلًا من فوستو وأبيه، وشرهما المستطير» - ص34.
«فوستو» و«أبوهُ» الشريران من عبدة إلهِ الكراهية، وهو بتعريف «إنطونيو تابكو»: «إله الكراهية كلبٌ أصفر صغير، لهُ مظهرٌ هزيلٌ، ومعبدهُ يقومُ على جزيرةٍ صغيرةٍ، قمعية الشكل، للوصول إليها، يلزمُ السفرَ لعدة أيام، وكثيرًا من الليالي»...!!
وهما دعاة الشرّ والكراهية في القرية، والشر وكراهية الإنسان والقسوة في السردِ «يتحكمُ بها التعبير الجمالي» – بتعبير توماس مان... ولدى السارد والروائي الكبير حجّاج أدول، قد عُرِضت بمقدرة كبيرة، ومهارةٍ فائقة.
و«فوستو» و«أبوه» الساحران الشريران، والمسخان الذئبيان، هما مَن أسّسا لمعبدالكراهية المظلم والمهجور... وبعد هروب «زاندو» وفي حدسٍ لا يكذبُ، إنها ستعود حاملة راية الإصرار والصمود، وأنها ستثأر لأبيها وزوجها، وأنّ ابنها سيكون الوريث الشرعي للزعامة في القرية، ونساء القرية حالمات بعودة «زاندو» ولابدّ من أنّ ولدها سيأتي ويثأر، ويكون زعيم القرية الشرعي.
ومعَ ولادة «بُرهما» ابن «زاندو - روكا»، تنجبُ زوجة الشرير «فوستو» ابنها «مَجِسّي»، الشبيه لجدهِ وأبيه الساحر وأصل الشر: 
«كُلما شبّ مَجِسّي أكثر، يزدادٌ الشبه بينه وبين جدّهِ - آاوو، المكروه من الناس، أكثر من كرههم لأبيه فوستو» (ص35).
و«مَجِسي» في الرواية الناطقُ الرسمي عن سلطةِ الشرّ والكراهية، نسلُ جدّهِ وأبيه، وقد أدركا ما للصبيّ من ذكاء ودهاء ومكرٍ، وقد حرصَ أبوهُ أن يعلمهُ فنون القتال، ويحذرهُ من مستقبلٍ ليسَ آمنًا.
و«بٌرهما» ابن «زاندو» هو الآخرُ صورة طبق الأصل لجدّهِ، وأمّهُ تراهُ الجدير بأن يصبح الوريث والزعيم الشرعي القادم للقرية. ويشبُ الولدان النقيضان «مَجِسي» و«بُرهما» ليكونا عدوين لدودين لبعضهما، ووراء كلٍّ منهما دوافعهُ وأسبابهُ، وهناك في القرية مَن ينتظرُ صراعًا دمويًا، ومعركة حامية الوطيس بين الولدين حفيد الزعيم المغدور، والشرير «مَجسي»:
«ومن هنا، ومن قبل أن يتلاقيا بالفعل، بدأت معركتهما الشخصية الثأرية العريقة، ذات الخلفية الدموية القديمة... جولة قتال دموي يستكملها الأحفاد» (ص35).

بين الخيال والواقع
الرواية نافورة خيالٍ جامحٍ، ومعَ تجلي السارد، يتلاشى فيها الفارقُ بين الخيال والواقع، ببراعة سردٍ متقنٍ يقولُ الكثير، حيث يعودُ بنا الواقع - الخيال، ولكن بشكلٍ مسرحي درامي. هاهمُ الغرباء برعاية «فوستو» يسكنون القرية، بخطىً ونوايا مريبة وغامضة، ليسَ بينهم وبين أهل القرية نزاعات، ولكن المحيّر فيهم أخلاقهم الجديدة، والتصرفات الغريبة على نواميس القرية. والغرباء وزمرة - الرجل الكالح، قد أصبحوا ثقلًا على حياة أهل القرية، فوجودهم محض مشاكل، وعدوان، واستغلال، واستفزازات من دون نهاية، والرجل الكالح وراء السلاح المسحور:
«لن تنسى القرية ما حلّ بها، انتقل الغرباء من الألواح الملاصقة للقرية إلى المعسكر الذي بنوهُ، أصبح اقترابهم من القرية نادرًا» (ص38).
في رواية «مَجِسّي» الكتابة على طريقة التقطيع السينمائي، أداءً وإخراجًا، الإثارة أساس، وعلاقة السرد، وطيدة بفنون عدة، ولهُ سلطة احتواء، وعلى رأسها السينما والموسيقا.
«فوستو» ونهاية بشعة لشخصية شريرة، جزاء لتجبره، وعلى يدِ العصابة، السحرة التابعين للرجل - الكالح، ولمْ يبقَ لأبيه المسخ الذئبي «آاوو إلاّ بقايا رماد جمجمته، يضعها في صندوقٍ خشبيّ... والقرية وحرب مستعرة، بلا توقف، بينها وبين «آاوو» وعصابة الرجل الكالح، وقد وضح أمرهم، فهم ليسوا سوى خاطفين، ومن الممتهنين تجارة البشر، وما «آاوو» المسخ الذئبي إلا شريك قذر:
«فوجئت القرية ذات نهار بالغرباء يمرون من بعيدٍ آتين من الغابة، متجهين إلى المعسكر، وسطهم طابور أسرى، من رجال ونساء، عمود طويل من الخشب مربوطة فيه أعناق الأسرى، لا يسمح لأي منهم بإدارة رأسه، وأياديهم مربوطة خلف ظهورهم» (ص41).

في «مَجِسّي» المكانُ بطلًا!!
و«زاندو» ومَن معها من الهاربين إلى «قرية الموز» ولحظات «الغرام بالمكان» - كما يسمّيه ميلان كونديرا، عاصفة حنين وحبّ على غير العادة للمكان، وها هي فكرة التسلل والذهاب إلى «قرية البركة»، ووضع خطة الخلاص من الساحر الشرير «آاوو» وحفيده ومَن يتبعهم... بعد عاصفة الحنين، تبدأ مرحلة الانتقام من المسخ الذئبي، ومن يحالفه من الذين اغتصبوا القرية، وعاثوا فيها فسادًا وقهرًا وظلمًا، ولا بدّ من التواصل والتنسيق مع ما بقي من أهالي القرية المنكوبين الذين ينتظرون فجرًا جديدا، تغتسلُ القرية بنوره، ويوم التحرير والخلاص من حكم وسيطرة «آاوو»:
«وأنَّ القرية تنتظرُ البقية الباقية من حملة وسم المانجو الذين تمكنوا من الهرب، ليتخلصوا من الظلم الواقع عليهم» - ص44.
ومؤامرة «آاوو» والرجل الكالح والعصابة تحاكُ لمعرفة مكان الموسومين، ومكان القرية التي تأويهم، للقضاء عليهم. أما «زاندو» وابنها فإنها وجبة أكل «آاوو» و«مَجِسي» في احتفالات اكتمال القمر:
«يتابعونهم ليعلموا أين هي القرية التي تأويهم، وعندها يكون الهجوم على القرية، بأتباع آاوو وعصابة الرقيق، يذبحون الموسومين بالمانجو، ويأسرون رجال وشباب وبنات القرية، ليكونوا بضاعة عبيد لهم» (ص45).
والقبيلتان في حربٍ ضروسٍ طاحنة، «قرية الموز» وآاوو ورجال عصابة الكالح، وهم يشبعون «قرية الموز» قتلًا وتنكيلًا وحرقًا، و«زاندو» وابنها في قبضة رجال «آاوو» المسخ الذئبي والعصابة. وأهالي من شباب «قرية الموز» يلحقون المغتصبين الذين أسروا أهلهم عبيدًا، للبيع، واشتباك وهجوم مضاد، لإنقاذ الأسرى من قريتهم... و«زاندو» ضحية هذا الاشتباك، ولكنّ الهدف الأسمى هو القضاء على «آاوو» الشرير الساحر:
«بُرهما يشتبكُ مع قاتل أمّه، وهي مرمية أرضًا، وذراعها خلف ظهرها موثقة، وجرحها ينزفُ، تصرخُ أمّهُ وهي تموت، لتعلمهُ ما تريد» (ص47).
والموتُ الذي ليسَ لهُ شكلٌ إلاّ شكل اللهب - كما يعبّرُ أندريه مور، يؤجّجُ نيران الصراع بين الحفيدين «بُرهما» و«مَجِسّي» لا محالة، وأهالي «قرية الموز»، والهدفُ الثأر، والقضاء على المسخ الذئبي وأتباعه، الذي اغتصب الزعامة في «قرية البركة». وفي الحرب الدائرة بين القبيلتن، كانت ثمرتها نهاية حياة الرجل الكالح... والمسخ الذئبي كلّ خوفه على حفيده «مَجِسي»... ونهاية بشعة للمسخ الذئبي «آاوو» جريحًا ومحروقًا، وكان مصيره، مصير ابنه «فوستو».
و«بُرهما» والبحث جارٍ على قدمٍ وساقٍ على غريمهِ الشرير «مَجِسي»، وهروبه في الاتجاه المجهول، هو ما أقلق «بُرهما»... أهو ذهب إلى الصحراء أم إلى الزراعات؟ ولابد من اللحاق بهِ، ومعرفة مكان اختفائه والقضاء عليه، بل القضاء على نسل «آاوو»:
«أولًا عليه القضاء على مَجِسي، وأن يستكمل انتقامه لمقتل جدّه هوليه، وأسرته، ومقتل أبيه، ثمّ مقتا أمّه، وزوج أمّه، ولمَن قُتلوا من قرية الموز» (ص57).
«فضل هو مَجِسي» في حماية «حسونة» وهو وجود مُريب، وشك من قبلِ الكثيرين في القرية ولا أحد استراحَ لهُ ولقدومه، غير محبوب، ومكروه حتى من الحيوانات، وهي تشم فيه رائحة نتنة، ورائحة دماء، وهو في شوقٍ لشكله المسخ الذئبي.
وكراهية «فضل - مَجِسي» المتخفي وراء اسمه الذي أطلقهُ عليه «حسونة» ووراء أفعاله الشكلية والمفتعلة، وقد توهمَ مُضيفه، وآخرون ذكاءه، وشطارته، وهي من باب التمثيل والمراوغة عليهم:
«الكلاب لا تُحبه، وهوَ لا يُحبها، بلْ كلّ الحيوانات لا تحبّه، ومَن يكرهُ من ناس القرية، وينادي بترحيله هو العجوز المتعاجب بنفسه سليم» (ص75).
و«فضل - مَجِسي» يرتكبُ الجرائم، جريمة تلو الأخرى، من دون أن يتركَ دليلًا، ومن أن يكتشفهُ أحدٌ، وهو لا يفرّق في فعله بين طفلٍ وشيخ، وهذه المرة كان صيدهُ الثمين، كارههُ الأمثل «العجوز سليم» الذي يضيقُ بوجوده في القرية، ويُحرّضُ على ترحيله، وليسَ هناك من تكهنات حول اختفاء «سليم العجوز»، إذ لا شيء يدلُ أو يبرهنُ على مكان اختفائه أبدًا، غير أن وجه «فضل»، وجه شؤم على القرية جميعها:
«جاء اسم (فضل) في المناقشات، لكن جاء على أنهُ وجه شؤم، لا أكثر ولا أقل» (ص81).
حسب «جورج باتاي» في «كتابة الشر» فإنَّ: «الحالة الآيروسية عنفٌ ناتجٌ عن الحياة، عن الطبيعة ذاتها، فهو عنفٌ يُرادُ بهِ التواصل في اتجاهٍ، والتدمير في اتجاهٍ آخر»!!
وهذا سيكولوجيًا الحالة التي وجدَ نفسه فيها «فضل» المسخ الذئبي، وهو فريسة غرائزه الآيروسية - الجنسية، نداءُ الجسد، وهو اختراع مقدّس - برؤى الفلاسفة، والصيد الجميل «عسيلة»، وهو الصيد الذي لا يبدو سهلًا أبدًا!
«كديس» شخصية ثانوية فاعلة، وقدْ جاء بها الساردُ متعمدًا وجودها، وإحياءها في السرد، فقط لتعملَ عملَ «المُقبّل» وفاتح الشهية للقراءة، وقد تدخّل فيها كثيرًا، وهو يضفي عليها حركات سينمائية وكاريكاتورية قولًا وفعلًا، و«كديس» في ذكاء يتلاعبُ بعواطف نساء القرية الجميلات، وليسَ لديه في إثارتهن واللعب في عواطفهن غير الفحش قولا وفعلًا وتمثيلا، وقد جاءت المفردات النابية والفاحشة، لتقنع في شخصيته، إيمانًا من السارد بأن الألفاظ الفاحشة والنابية: «تناسب عالم الأبطال، هي استكمال لجماليات النصّ» - بتعبير خوسيه ثيلا.
و«فضل - مَجِسي» ولحظات ظمأ وجوعٍ للحمٍ بشري، والبدرُ على وشك الاكتمال، وهو يقاومُ الشهوة، وفي لحظة اختبار نفسه، يعترفُ بأنهُ مسخٌ ذئبي، سليل جدّه «آاوو»، ولا يستطيع الحياة من دون أكل لحم بشر.
و«كديس» وبمصادفة يراقبُ فعل التحول الذئبي، بطقسهِ الجنوني، وأضوائه المرعبة، و«فضل» يتحولُ إلى مسخٍ ذئبي، و«كديس» يعيش أحداث فيلم رعب، فاقَ كل تقنيات سينما الرعب الأمريكية... وهو أمامَ ذئب وليسَ أمامَ بشرٍ، وجهًا لوجه، وليس بينهما جسر موصل إلا الخوف، بل خوفُ الخوف، و«كديس» الصيد الثمين، ولم تنفع معهُ كلّ توسلاته، واعترافه بعبطهِ، وأنه في عهدٍ لم يفشِ بسرّه، ويجاهر بذئبيته. اختفى «كديس» ولم يكن الأخير في حسابات المسخ الذئبي، فهناك «عسيلة» و«تركية»:
«لكن بقيَ لي واجبان، لن يفقد متعة قضائهما عسيلة وتركية» - ص97.

البطلُ سحر الحكي!
«بُرهما» - الإنسان، وهو عاداتهُ وأخلاقه - كما يقولُ ستندال، يبحث في كلّ قريةٍ عن «مَجِسي»، وهو يتخذُ اسمًا في كلّ قريةٍ، وهو من «فضل» في قرية الموز، إلى «كيمالي» في قرية أخرى، و«بُرهما» في إصرار جنوني للحاق به، وقتله، وتخليص القرية من أفعاله الذئبية.
و«مَجِسي» قبل الرحيل والهرب، ولقاء غريزي شهواني، و«عسيلة» ترياق الوحشة والسعادة، ومَن يرى فيها نفسه، ونداء الجسد موطن المعنى ومكان ولادته - برؤى الفلاسفة، و«عسيلة» المتيّمة، وعنف الرغبة، هي الصيد الأمثل، وأيقونة هذا اللقاء... وقد غدت في صراع الشهوة وصراع الحياة معًا، وهي تحت ماكنة جسد المسخ الذئبي، ونهاية مرعبة بشعة على يديهِ... والبحث جارٍ عن «عسيلة» وموتها أضحى لغز القرية، وهم يسعوُن لفكّ شيفرة هذا اللغز:
«اختفت مثل غيرها... لكنْ هذه المرة، قرروا لنْ يبات (فضل) في بيته، ذهبوا إلى بيته... ليسَ موجودًا» (ص102).
وبعد «عسيلة» التي فارقت الحياة، يأتي دور «تركية» الصيد الأخير قبل هروب المسخ الذئبي «فضل - مَجِسي»، وبعد أن نالَ منها، وأشبع غريزته، تركها بين الحياة والموت، وفي فمها أذنه بدمها، وقد تمكنت انتقامًا من قطعها. والقرية كلها، شبابها، وشيوخها، ونساؤها في بحثٍ عن الجاني والقاتل الهارب... و«حسونة» المذنب الأعظم في حمايتهِ والدفاع عنهُ، وقد وجدَ نفسه في موقفٍ محرجٍ، لا يحسدُ عليه، أمام أهل القرية.
و«بُرهما» يصرّ على ملاحقته، واكتشاف الاتجاه الذي سارَ عليه المسخ الذئبي، وضربات طبل «بٌرهما» هي صوت ضربات طبول «قرية البركة» سلالة «هوليه» والأمّ «دودو» العظيمة، وضربات الطبل تفزعُ «مَجِسي»، تطاردهُ وتملأهُ رُعبًا، وليس في ذهنه، وهو يراوغ مصيدة الموت، إلا أن يقتل «بُرهما»، وهو يكابرُ واثقًا من نفسه، وكأنهُ يصرخُ بألمٍ مع بطل «كارلوس فوينتس» في رائعته «الغرنغو العجوز»: «لسوف أدمركم جميعًا بسخريتي، لسوف أدفنكم جميعًا تحت قهقهتي المسموعة» (ص75).
و«مجِسي» و«بُرهما» واللقاء الأخير، وجهًا لوجه، وبراعة السارد وهو ينتزعُ من «مَجسِي» صفة «الذئبية»: «فالعجائبي - إذن - يحيا حياة ملؤها الخطر، وهوَ معرضٌ للتلاشي في كلّ لحظة»... ليقولَ الساردُ: إنّهُ «إنسان» قبل كل شيء، والإنسانُ ذئبٌ تجاه أخيه الإنسان أحيانًا! وهذه هي الحقيقة، ووفق فلسفة «إفلاطون» وعبر بلاغة محاوراته - فايدروس، وهو يرى: «أما الفنّ الحقيقي، فهو إذا لم يتضمن الحقيقة، لا يكون فنّا على الإطلاق» (ص26).
 والساردُ والكاتب حجّاج أدول فهو يقول أيضًا: «لقد حانَ الوقتُ لكيْ أقول الحقيقة، ولكن لا يُمكن أنْ أقولها إلاّ في عملٍ تخييلي» - وفق تعبير جان بول سارتر.
و«مَجِسي» بعدَ القبض عليه، يتوسلُ «بُرهما» ألاّ يموتُ حرقًا، ولكن بعد أن اكتشف كبار «قرية البركة» أنه ساحر ومشعوذ وشرير، قرّروا جميعًا موتهُ محروقًا: «إنهُ ساحرٌ، والحرقُ للساحرِ عدل» (ص122).
«مَجِسي» رواية أسطورية عجائبية، فانتازيا راقية، والشخصيات مختلفة، ومرسومة بشكلٍ جيدٍ، بصفاتها الخاصة، وقد ظهرت لنا في كلماتها وأفعالها، لحظات تجلٍّ سرديّ داخل بُنية روائية فائقة الجمال، وهذا مصدر الجذب والدهشة فيها.
«مَجِسي» الرواية «الميتا - سرد» تجريبية، حيث اللاشكل، و«الشكلُ في الفنّ دومًا أكثر من مُجرّد شكل» - كما يقولُ ميلان كونديرا.
والروائي حجّاج أدول، وجدَ نفسَهُ في لحظة تجلّ سرديّ حُلميّ، يكتبُ رواية خيالية فانتازية عجائبية ممتعة! ■