مساحة ود محمد أبوخضور

مساحة ود

طار الحمام

كنت ابتسم، لنادل "البوفيه" وأنا اجتاز البهو الطويل. كنت ابتسم، لحراس مبنى التلفزيون، وأنا أخرج لضجة الشارع. فبين يدي، ليلة جميلة، وورائي نهار طويل مكسور.

كان يقبع في المنزل، بعد أن رمى سنوات المسافات البعيدة وراء ظهره. وجرى الأمر، أسرع مما أتصور. كنت كل يوم، أحمله إلى مرفأ الماء أغسله، أختار له غياره الداخلي، وقميصا خارجيا، أمشط له شعره، ألقمه طعامه، لقمة، لقمة. أراقبه وهو يمضغ. وكثيراً ما تظل يدي ممدودة باللقمة إلى أن يشير إلى أنه اكتفى.

ودروب المدينة فارغة، والناس نيام. جاء الطبيب، وبعد لحظات، أحسستها ثقيلة، قال:
- "هو مشلول لا أمل!"
وجرى الأمر على يسر، أكثر مما توقعت.
عندما دخلت، إلى البيت، كان على ظهري، وكان لما يبقى من المساء مقدار يد. حملته إلى صدري، واخترت له سريرا مريحا. كان هشاً، خيل لي، أنه يكاد يتهشم بين يدي فترفقت به كثيرا.

صباحاً حملته إلى مرفأ الماء، غسلته. كان مثل ولد وديع. اخترت له غياراً جديداً، وقميصا خارجيا، مشطت له شعره. مسح بيده على ذقنه.. جلبت معجون الحلاقة، وآلة الحلاقة، وبنعومة العاشق حلقت له لحيته. عطرته، ابتسم، قبل أولادي الثلاثة، كان يهم بالنهوض من مقعده العريض.. اتكأ على مسندي المقعد.. حاول النهـوض لكنه لم يستطع. انسللت إلى حضن الصمت. وغسل وجهه تساؤل مدهوش. هبط جذعه واستكان. كنت أرى إليه، كيف يتقدم إلى عامه الثمانين. بين نظرة تطعن القلب ودمعة تطعن الروح. كان يستند إلى أسماه، مثلما يستند الإنسان على كتف صديق.

مساءً، عندما عدت من التلفزيون، نفضت على عتبة الباب، الأغاني والنكات، ومشاهد الأفلام ودخلت.. كان يداعب أطفالي بلعبة "هدا الحمام.. طار الحمام".

أطعمته بيدي، لقمة، لقمة. مددت له ساقين كغصنين طريين، ثم جلست بجانبه ساكنا جريحاً. داهمني إحساس قوي، بأنه ينطفئ رويداً رويداً.

نمت بجانبه، كان الليل صاخبا بالنجوم.. عند الفجر سمعت حشرجته، قمت كالممسوس .. حضنت رأسه.. كانت عيناه كمرفأ تحجبه غيوم المساء.. ارتعش ارتعاشة سنونو، وهمد بين يدي. وجرى الأمر بيسر وسهولة.

أحسست بالدفء يهرب من جسده، وهو بين يدي، وصوت بارد يهمس لي: مضى!

بحثت عن صوتي. كان مخنوقا.. وكلما فكرت، بأنه مضى، تصيبني الرعشة. كان السلام يشع من محياه، كان ضوء الفجر، يرتجف أمامي على زجاج النافذة. كان نور الشمس يتسلل بطيئا، وأنا احتضن الجسد النحيل، والندى الرطب المنداح من يدين تعتصران يدي.

أحسست بخوف مفاجئ. لمت نفسي، ولكنني سحبت يدي، من بين يديه الباردتين. صار الآن شيئاً بعيداً، تفصلني عنه الأبدية، صار شيئاً أخاف عليه النمل والذباب. قمت.. وفي المسافة، ما بين غرفته، ومرفأ الماء. الذي تعودت أن أغسله فيه كل يوم، مسحت دمعه.. دمعتين من صبر وحزن وكبرياء، واستدرت لمواجهة أطفالي والسؤال عن الـ... م... و... ت الذي يرقد في البيت، حالماً بأحفاد، يلعب معهم لعبة "هدا الحمام.. طار الحمام"!

 

محمد أبوخضور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات