صرخة النور الهوية التراثية في أفلام شادي عبدالسلام رؤية تحليلية أنثروبولوجية لفيلم «المومياء»

«يا من تذهب سوف تعود... يامن تنام سوف تصحو... يا من تمضي سوف تبعث... لك الخشوع يا رب الضياء، أنت يا من تسكن في قلب البيت الكبير... يا أمير الليل والظلام... جئت لك روحًا طاهرة فهب لي، فما أتكلم به عندك وأسرع لي بقلبي يوم تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام... أعطني اسمي في البيت الكبير وأعد في الذاكرة اسمي يوم أن تحصى السنين». مقولة من بردية كتاب الموتى استهل بها شادي عبدالسلام مقدمة فيلم «المومياء» للتعبير عن قضية الهوية الموغلة بالقدم منذ بداية الحضارة المصرية القديمة.
وفي مقولة «كل التاريخ هو تاريخ فكر» روبرت جورج كولنج:
«إن بناء الإنسان هو بناء للعالم، وإن الاسم هو الهوية، وهو الذي ما فعلته الأم لمعاقبة ابنها الذي حطَّم تقاليد العائلة؛ بأنه تعس وملعون، ولا تعرف له اسمًا»؛ وفي الجملة داخل الفيلم في أول مشهد هو تلخيص لفكرة الفيلم كله «أعطني اسمي في البيت الكبير وأعد في الذاكرة اسمي يوم أن تحصى السنين»، فبدون اسمك وهويتك فأنت بلا هوية بلا ذاكرة أو وجود.
المخرج شادي عبدالسلام من مواليد الإسكندرية 15 مارس 1930م، وتوفي في 8 أكتوبر 1986م؛ درس التاريخ والفلسفة والدراما والمسرح بإنجلترا، ودرس العمارة بالفنون الجميلة بالزمالك 1957م. عمل بالسينما مع صلاح أبو سيف كمساعد مخرج لفيلم «الفتوة»، وكانت مهمته بسيطة كمدون لوقت دقائق اللقطات، ثم عمل مع حلمي حليم في فيلم «حكاية حب» ثم مساعد مخرج مع روزوليني، الذي رشحه أن يكون مخرجًا وألح عليه بعد أن ترك شادي عبدالسلام بصمته كمصمم ديكور على الأفلام التي شارك فيها، ومنها: «وا إسلاماه»، «ألمظ وعبده الحامولي»، «الخطايا»، «رابعة العدوية»، «السمان والخريف»، و«أضواء المدينة»، كما صمَّم الديكورات والملابس للفيلم التاريخي الكبير «الناصر صلاح الدين» من إخراج يوسف شاهين، ومهندس الديكور والملابس واللقطات لفيلم «كليوباترا» العالمي بكل تفاصيله ليحصد الجوائز العالمية بمشاهده المبهرة لحظة بلحظة. ثم وصل فيلم «المومياء» حاصد الجوائز خارج مصر، واعتبر من أهم 100 فيلم في تاريخ السينما العالمية من رابطة النقاد الدولية في فيينا، كما احتل المرتبة الأولى في استطلاع الأفلام الأجنبية الذي أُجري في فرنسا عام 1994م الذي صوَّر حالة الذهول والخذلان المعرفي للمجتمع المصري آنذاك، ثم مجموعة أفلام وثائقية كالأهرام وما قبله وجيوش الشمس والفلاح الفصيح.
ثم مأساة تمويل البيت الكبير التي أوقفت فيلم «أخناتون» لمدة عشر سنوات يحاول أن يجد له تمويلاً مصريًا، لأنه مقتنع أن الأفلام المصرية تمولها الدولة.
تم تصوير مشاهد الفيلم بين مصر والمغرب، وقدم الفيلم الطويل «المومياء: يوم أن تحصى السنين» عام 1969م، وتم عرضه عام 1975م، ويعتبر هذا الفيلم من أهم الأفلام العربية في تاريخ السينما، وقد استحق شادي عبدالسلام بفضل «المومياء» أن يكون واحدًا من أبرز مخرجي العالم. تاريخ الطرح: 1970م (مصر).
تحليل فيلم المومياء
الإخراج والسيناريو: شادي عبدالسلام. الموسيقى من تأليف: ماريو ناشيمبيني. التصوير السينمائي: عبدالعزيز فهمي. الإنتاج: شادي عبدالسلام، روبرتو روسيليني.
فيلم «المومياء» إخراج قصة وسيناريو: شادي عبدالسلام، وحوار: شادي عبدالسلام، علاء الديب، إنتاج وتوزيع: المؤسسة المصرية العامة للسينما، مونتاج: كمال أبو العلا، موسيقى تصويرية: ماريو ناشيمبيني. مدير التصوير: عبدالعزيز فهمي.
بلغت تكاليف إنتاج فيلم المومياء 1969م مبلغ 90 ألف جنيه، وهو مبلغ مبالغ فيه في ذلك الوقت حيث كانت تكاليف أي فيلم لا تتعدى 30 ألف جنيه مصري. حصل الفيلم على المرتبة الأولى ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما العربية حسب استفتاء لنقاد السينمائيين والمثقفين الذي قام به مهرجان دبي السينمائي الدولي في 2013م في الدورة العاشرة للمهرجان.
القصة توضح تصور نسيج البناء الاجتماعي للقبيلة، وهو مجموعة من الأنساق وهي النسق الاقتصادي والنسق القرابي والنسق الثقافي، والنسق السياسي وهو القبيلة؛ قبيلة الحربات في صعيد مصر تعيش على بيع محتويات المقابر الفرعونية القديمة لتاجر آثار وهو أيوب، وصراع الأجيال داخل القبيلة أن الأبناء يرفضون تجارة أبيهم المتوفي. يقتل أحدهم لأنه حمل سر الدفينة ومكانها وكان معترضًا على التجارة ووصفهم أنهم يأكلون من جثث الموتى، ليرد العم: «إنهم مجرد حجارة وأخشاب ولا نعرف لهم اسمًا... أو آباء أو أبناء...»، وهي إشارة إلى أنهم بلا هوية وبلا وجود. وتتوالى الأحداث بدخول بعثة الآثار التي حملت خبيئة الدير البحري إلى متحف القاهرة.
رسم الشخصيات في أفلام شادي عبدالسلام
تبدأ اللقطات بلقطة مجلس علماء الآثار الذين يتداولون صورة بردية غير موجودة بالمتحف المصري لها أي ذكر للأسرات حتى الأسرة الـ21 ونيس، وفي قراءة أخرى (يونس) رمز الخروج من ظلمات بطن الحوت، وهو شاب منغلق متردد مذهول مندهش من قبيلة الحربات ابن الشيخ سليم، عاش في منطقة تراثية بحتة، بين التراث والحضارة المصرية القديمة، ولا يعرف عنها شيئًا أو قيمتها الحقيقية. ليظهره شادي عبدالسلام فجأة يشعر بالضآلة بين شموخ ملوك الحضارة المصرية القديمة ليذهب إلى الأفندية، وهي بعثة التنقيب ويرشدهم على مكان خبيئة الدير البحري ليتم خروج الخبيئة بالكامل مغطَّاة بأغطية بيضاء وحولهم المشهد الجنائزي لأهل القبيلة، ثم رسم شادي عبدالسلام شخصية ونيس ببراعة وهي حالة المجتمع في ذلك الوقت.
الضوء والعتمة واللون في فيلم المومياء
هو بطل الصورة ويحمل دلالات مختلفة، فيبدأ الفيلم باجتماع ماسبيرو ومكان يسوده العتمة إلا من ضوء ثريا تتوسط منضدة الاجتماعات، ولأول مرة تتحوَّل القاهرة بسطوتها التاريخية إلى مجرد هامش للقصة، ويصبح التنوير والضوء مسلطًا على قبيلة الحربات بكل تفاصيلها، مركز الفكرة ومركز القصة بالكامل في سرد رؤية المخرج شادي عبدالسلام، فعندما بدأ في السرد البري ظهرت القبيلة كتلا بشرية ترتدي الأسود، تنساب من ممر ضيق في المشهد الجنائزي الذي تحولت فيه شواهد القبور باللون الأبيض إلى مركز التنوير والضوء في الصورة بهيئة تمثال أبي الهول.
شكل المجتمع الذي صوَّره شادي عبدالسلام خلفيات الجبل الصامت الذي يحتضن بيوت القرية الخالية من الحياة، فقط يسيطر الجمود والصمت؛ وخروج الأهالي بين الجبل بممره الضيق يظهر حالة الجهل والجمود والتخلف في مشهد تشييع الجنازة؛ واختار شادي عبدالسلام ألوان الأسود والأبيض لكثير من شخصيات الفيلم الرئيسية، حتى مشهد العلماء أيضًا اختار لهم الملابس السوداء والإضاءة الجانبية للاجتماع، ماعدا ذلك الغرباء، البعثة الأثرية، والغريب الذي ظهر بملابس اللون الأبيض فهو الشخص الغريب المجهول دلالة الفطرة ليسأل عن تلك الحضارة الشامخة، ولا يعرف كيف استطاع هذا المجتمع من قبيلة الحربات أن يعيش في عالم الحضارة ويجهلها بل ويفرط فيها بالبيع للدخلاء.
نسق مجتمع الصعيد الاقتصادي يوضح أنه فقير يعوم على بحر أرض الذهب، منكسر بين شموخ الحضارة، متردد صامت جاهل بأهمية هويته الثقافية والتراثية وقيمة الحضارة من حوله، فهو يأكل من كنوز أجساد مومياواتها ويبيعها بقلب ودم بارد؛ ويظهر في قطع كتان المومياء وتحطيم رقبتها لاغتصاب القلادة التي حملت شكل عين حورس الحامية للمقبرة، لترجع المشاهد إلى أول لقطات الفيلم وهو التمثال ذو العين المطموسة والتي نشرت اللعنة على قبيلة الحربات كلها. وظهور تلك اللعنة وسر الدفينة بالانقسام بين العائلة، الأم القاسية التي تبوح لابنها أنه ملعون وأنه تعس وتجرده من اسمه لمجرد رفضه المتاجرة بجثث الموتى، ثم مشهد الابن الذي رفض بيع القلادة، وهو يجري نحو البحر للهرب، وشكل المركب الذي ينتظره ليحمله لمغادرة القبيلة؛ يكشف لنا أنه مغادر الدنيا إلى العالم الآخر على مركب تحت الشمس ثم يُقتل ويُلقى في نهر النيل.
النيل ورمزية مراكب الشمس
النيل يحمل أيوب للبر ويغرق جثة الابن، ولكن أيوب لا يبتل فهو محمول على الأكتاف ليرمي ثمنًا بخسًا لقبيلة جائعة تنتظره كل شهر، ويأخذ القلادة.
نموذج المرأة في فيلم المومياء
صوَّر شادي عبدالسلام المرأة في تكوينات عديدة، تحمل دلالات متعددة وتصور حالتها. الأم الجالسة على المصطبة، وخلفها حائط، للوهلة الأولى يشعر المتلقي بقسوة الجبل وجدار المقبرة؛ ولونه وقسوته وشكلها يعطي انطباعًا بمكانتها الكبيرة الراسخة الناعية لزوجها الذي كان شريك حياتها، وتون صوتها الباكي، كأنها إيزيس، تشبه هيئة الهرم في شخص مهيب ومقدس، تواجه أعمام الأبناء الذين يتنبأون بقتلهم الابن وموافقتها على قرارهم، يظهر إخوة المتوفي على شمال الكادر، والأبناء موزعون: أحدهما ثابت لم يذكر اسمه منذ البداية، وهو القصد من تجهيله فهو لا يعرف ويقف يمين الكادر، والابن ونيس الذي ما زال يتحرك على السلم وهو رمز التردد والحيرة والقلق والشرود ويجلس عند أقدام معبد رمسيس.
استلهام نماذج من الفن التشكيلي الحديث لمحمود مختار في ملابس وشخوص الفيلم
في جلسة ونيس تحت أقدام تمثال رمسيس بهيئة شكل تمثال «كاتمة الأسرار: لمحمود مختار»، وظهور السيدتين على الجبل وهي زينة الصامتة الجميلة ذات العيون الساحرة والغموض، التي تقاوم رياح الخماسين العاتية يذكرنا بتمثال مختار.
منظر السيدات في الجنازة أول الفيلم صمت والبعد والحزن المتناثر طوال الفيلم حتى مشهد النهاية كن على الطرف المشاهد وليس للمرأة مشاركة أو رأي.
شخصية مراد
وعبقرية الاسم لمراد «يحمل المرار والإرادة بذات الوقت» حال شخصيات ممتدة، فهو باب الشر ومفتاحه وكأنه الشيطان (الإله ست في أسطورة إزيس) الذي يقدم بنات عمه لخدمة الأفندية، ومحرضا ومتحركا بالفتنة بين المحاور كلها (القبيلة، العم، وأبناء عم ونيس - وونيس - والأفندية)، ويطلب أن يكون بديلاً لأيوب التاجر الذي يعيد مسيرته السيئة بوضع الفتنة بين جميع المحاور (ونيس. الأعمام. وأبناء العم. والطرف الآخر الأفندية).
التاجر أيوب
وبلقطة عبقرية في بنائها، فقد صور جبروت التاجر المحمول على أكتاف المراكبية من المركب إلى الشاطئ الجاف حتى لا تبتل ملابسه الفخمة، وهو يكشف قصة جزء من شخصيات الفيلم وهو مراد، تلميذه الذي يتعامل بمئة وجه، واسم أيوب التاجر يحمل أسطورة الصبر والقدرة والجبروت والصلابة، وهو جزء من تركيبة مجتمع الصعيد آنذاك، وهي شخصيات تتحدث عن الإنسان في كل زمان.
ملحوظة درامية
كان الفيلم مكتوبًا وقت النكسة 1967م وتم تنفيذه بعدها، وظهرت الحالة المعنوية للمجتمع المصري التي تتسرب إلى وجدان المتلقي بلا أي إشارة واضحة وصريحة؛ وهي من عبقرية الإخراج لشادي عبدالسلام؛ فإن كل لحظة وهمسة ولفتة وإضاءة ولون لها دلالة في كادرات فيلم «المومياء» الذي حضره وصممه على اسكتشات مرسومة بكل تفاصيلها الدقيقة بشكل عبقري.
دور المكتبات العامة في إحياء التراث الثقافي
مكتبة الإسكندرية قامت بحفظ تراث شادي عبدالسلام بشكل عبقري، فهو جزء مضيء بالتراث المصري الحديث، اكتشفت جميع أفلامه، وهو دور مهم للمكتبة العامة في إحياء التراث الثقافي للمجتمع ككل.
«حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، وكنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، وقد مررت بلحظات الضيق الشديدة لأنني لا أعمل». آخر ما قاله شادي عبدالسلام، والدليل أن بعد انتصار أكتوبر قرر شادي عبدالسلام تغيير سيناريو فيلمه الذي لم ينفذ هو فيلم «أخناتون» بوضع إشراقة الانتصار على الفيلم. واختتم بمقولة: «انهض فلن تفنى لقد نوديت باسمِك... لقد بعثت» ■