يوسف الغرباوي والبحثُ عن سنَد جديد لذاكرة مُترحِّلة

تنتمي التجربة الصباغية للفنان التشكيلي المغربي يوسف الغرباوي، المقيم بكندا، إلى التعبير التجريدي الذي انخرط فيه عدد غير قليل من التشكيليين المغاربة. إذ تأتي لغته التشكيلية محملة بالعديد من العلامات والرموز التي غالبا ما تحيل إلى مخزون بصري غني بالمقومات والعناصر والأشكال العلاماتية المكونة لحقل الفنون البصرية بشكل عام.
اعتمد الغرباوي في واحدة من مراحله التشكيلية الأولى بشكل كلي، ضمن سياقات التجريد، «المظروف L’enveloppe» كشكل هندسي متغير، مع نبتة الصُّبار المهيمنة على فضاء اللوحة في جل أعماله التي ضمَّها معرضه التشكيلي الموسوم بــ: «تَسامي Transcendance» (ربيع سنة 2003م بقاعة محمد الفاسي بالرباط). وهنا يكون الغرباوي، بقدر ما يقترح على جمهوره، من خلال هذا المعرض، إمكانية أخرى للنظر إلى تجربته. يعمل هذه المرة على تطعيم تجربته السابقة باقتراح تنويع آخر لأعمالها، وذلك من خلال الاشتغال على سَنَد Support جديد يهيئه الفنان بنفسه من مواد وأشياء مستعمَلة كالخيوط وأوراق الجرائد ومواد أخرى قابلة للاستعمال الفني.
وإذا كان العديد من التشكيليين قد دأبوا على الإعلان عن مراحل جديدة في تجاربهم الفنية من خلال بعض معارضهم الجديدة، فـيوسف الغرباوي لا يعلن من خلال معرض «تَسامي Transcendance» عن انتقال ما إلى مرحلة جديدة أو تغيير واضح في تفصيلات الرؤية والأدوات، بقدر ما يدفع عناصر تجربته التشكيلية إلى المزيد من التكثيف اللوني والتركيز العلاماتي واختزال العناصر التعبيرية في اللوحة إلى بؤرة محددة، قد تكون موضوعًا وعنصرًا تشكيليًا Motif أو حُجة Prétexte أو انعكاسات لشَكْل هندسي ما على فضاء اللوحة أو شكل مزهرية أو إنبيقا: يستعيده الفنان من مساحة العين ورؤيتها المتاحة أو من جيوب الذاكرة المؤثَّثة بالأُصُص والحَبق المتدلي من شرفات الطفولة.
يجْنَح الغرباوي في الكثير من أعمال معارضه ومراحله الفنية الأولى إلى الاشتغال على المادة كسند، والسند كمادة، ثم إن حاجته إلى استعمال سند جديد (غير الورق العادي والقماشة)، ولجوئه من خلال هذا التحول الفني والتقني بالذات إلى جعل أعماله الجديدة أصغر حجمًا بكثير مما عرفه معرض (ربيع 2003م بقاعة محمد الفاسي بالرباط): هذه الأعمال التي أنجزها الفنان بتقشف واضح في المادة الصباغية، ووضعها مثل مخطوطات مُزيَّنة ببعض الأشكال الهندسية البسيطة وببعض الكتابات والخربشات التلقائية، أو مثل قِطَع أثاث منزلية نفيسة داخل ما يشبه الصناديق الزجاجية الصغيرة Coffrets، قد تُعتبر بمنزلة إرهاص أولي لرؤية أكثر عمقًا لمرحلة تشكيلية قادمة؟ إنها تجربة البحث عن سنَد جديد لذاكرة ملونة ومُترحِّلة.
نبتة الصبّار كعنصر تشكيلي مركزي يؤسس لتجريدية نباتية خالصة
أما مشاركة الفنان يوسف الغـرباوي في المعرض الجماعي الأول: (Médiums Mixtes 1) الذي أقيم بمدينة مونتريال Montréal الكندية خلال صيف 2005م، فيتميز بأسلوبين أو بصيغتين فنيتين متميزتين:
أ- يقوم الغرباوي، من جهة، في هذه التجربة الفنية بصناعة الورق أو السند التشكيلي الذي يشتغل عليه بنفسه، وذلك انطلاقًا من مزج بقايا العديد من المواد والأشياء المُهمَلة والمستعمَلة كمادة الكرتون، وورق الجرائد، والخيوط، واللدائن، وصفائح بعض المعادن، والمواد الليّنة ببعضها وعجنها بمواد لاصقة.
ب- يعمل الغرباوي هذه المرة على إنجاز تنويع آخر أو نقلة ملحوظة ومغامرة أخرى في نفس الوقت داخل بحثه أو مساره التشكيلي: هو المعروف كذلك في الساحة التشكيلية المغربية بتأمله الدؤوب لأدواته وتقنياته ورؤاه الفنية. مما جعله، وخصوصًا منذ مرحلته أو معرضه الفني Transcendance تسامي (2003م) على تطوير رؤية فنية واعدة، يطبعها نوع من الحضور العارم لنبتة الصبّار الملوَّنة، باعتبارها عنصرًا أو علامة تشكيلية وسيطة ومهيمنة على مساحة اللوحة.
تأتي صبّارة الغرباوي في أعمال هذا المعرض بلون أسود قاتم، وضمن تركيب فني يسمح بالاعتقاد في أن الفنان - وخصوصًا حين جنوحه هذه المرة نحو اعتماد طريقة أو أسلوب آخر في العرض، ضمن صيغة إبداعية وطريقة عرض تعتمد الفوتوغرافيا والتنصيبات: - ما زال يطمح إلى تخصيب فكرة اللوحة وموضوعتها بالنُّسغ النباتي، سواء من خلال دفع هذا العنصر التشكيلي، في الصياغة والتركيب، إلى طاقاته التعبيرية والجمالية القُصوى، أو من خلال جعل هذا التأمل التصويري نفسه يرقى أو يصل ربما، ضمن هاته التجربة، إلى التعبير عن الإحساس الفني الخالص، أو جعل عناصر هذه الخطوة (وفي أساسها عملية التركيب الفني لعناصر اللوحة) تَقْطع ليس فقط - على غرار ما كان يصبو إليه الفنان والرسام الروسي كازيمير ماليفيتش إبان المراحل الأولى لميلاد حركة التجريد الهندسي سنة 1913م - مع كل تمثيل للحقيقة والعيان الخارجي، بل مع كل فن يروم التعبير بشكل مباشر عن أحاسيس صاحبه في آخر المطاف.
إنها الخطوة/الإشارة التي يحاول الغرباوي ربما من خلالها أيضا التأسيس أو التأشير إلى تجريديته النباتية الخاصة به؟ لا سيما وأنه يصر على اعتبار تنقيله الأخير هذا لنبتة الصبّار من لون إلى آخر، من موضع إلى آخر، ومن أشكال توظيف وأساليب عرض إلى أخرى، ثم ما وصلت إليه رؤيته الفنية بخصوص التوظيف الفني لهذه النبتة كعنصر تشكيلي رئيس ومركزي في عمله الفني: هو بمنزلة الخطوة التي بوسع الفنان أن يمهد بها لمشروع بحث فني أكثر عمقًا وخُلاسية أيضًا. وخصوصًا حين اعتماد الفنان اللونين الأسود والأبيض حصرًا لبعض أعمال هذا المعرض، وإدخاله طريقة التنصيبات installations في العرض، حيث يضطر الفنان نفسه - ضمن نفس المعرض - إلى النظر أو الوقوف في لحظة تأمل أو سهو أمام إحدى لوحاته الملقاة على أرضية العرض، إذ تبدو نبتة الصبّار العملاقة بلونها الأسود الشفاف على البياض الكاسح للوحة مثل ظـــل حميم وشخصي للفنان.
معرضان جديدان للفنان يوسف الغرباوي بكندا
حين انتقاله للعيش بكندا، سيعمل الفنان التشكيلي يوسف الغرباوي على الحضور في معرضين تشكيليين مهمين بمدينة مونتريال الكندية خلال صيف سنة 2005م:
ـ الأول جماعي: تحت عنوان «ميديوم ميكست Médiums Mixtes 1»، نظمته دار الثقافة الكندية «ميزون نوف Maisonneuve» بمناسبة افتتاح صالة رواقها الفني وبرنامجها الفني لفصل الصيف. إذ عرف هذا المعرض - إضافة إلى مشاركة الفنان التشكيلي المغربي يوسف الغرباوي ـ حضور أعمال فنانين تشكيليين آخرين من كندا اختاروا تقديم تجاربهم لجمهور الفن ضمن رؤى وأدوات وتقنيات فنية متنوعة ومختلفة. من أمثال الفنانة دانييل شابلو التي تستعمل صدأ المعادن كمادة ملونة ومخضبة لأعمالها الصباغية. ودونيس سوربرونو الذي يعتمد تقنية الكولاج بواسطة مادة الجبس. أو فيتي الذي ينجز أعماله التشكيلية من خلال استعمال فني للأجزاء أو بقايا الرقائق الإلكترونية لأجهزة الحاسوب والحاسبات الآلية، وروبير تانغاي الذي ينجز أعماله الفنية انطلاقًا من فكرة «الكتاب ـ الشيء» Livre-objet ضمن الإمكانات الفنية والجمالية والتعبيرية التي تتيحها عملية التسفير أو تجليد الكتب وتحويلها إلى مادة تشكيلية قابلة للعرض، ثم أعمال سيلفي تيسيران النحتية.
- أما المشاركة الثانية ليوسف الغرباوي في برنامج الأنشطة الفنية الصيفية لمدينة مونريال الكندية، فكانت من خلال معرضه الشعري ـ التشكيلي المشترك «مقاطع مخضبة» أو «شذرات مخضبة fragments pigmentés» مع الشاعر المغربي أحمد العناني، حيث أقيم هذا المعرض بالرواق الفني لمكتبة كلود مونيه بمونريال (2005م).
وكان هذا المشروع الفني ـ الذي يأتي ضمن طموح أو أفق أو رهان تحقيق حوار أو تقاطع تعبيري وجمالي ممكن وصعب، في نفس الوقت، بين الشعري والتشكيلي، قد بدأ تنفيذه في المغرب بشكل مشترك بين الفنان الغرباوي والشاعر العناني منذ سنين لعرضه وإصداره أيضا في كتاب. أي قبل أن ينتقل يوسف الغرباوي مع بداية سنة 2005م للعيش بمدينة مونتريال الكندية، ضمن فترة إيداع مؤقت، يتابع خلالها الغرباوي دراساته الجامعية العليا في تخصصات فنية عدة، على رأسها شعبة تاريخ الفن بجامعة الكيبيك الكندية بمونريال UQAM.
معرض «امتدادات»...أسئلة الترحال والهوية والسفر
في معرضه الأخير «امتدادات» (أبريل 2019م بغاليري «ريفاج Rivages» التابع لمؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج)، يحقق يوسف الغرباوي انتقالا فنيا آخر في تجربته الصباغية، وذلك من خلال بحثه الدؤوب في أسئلة الترحال والهوية والسفر، معتمدًا في ذلك على مفردات تشكيلية جديدة تدفع باللون والتقنية والأسلوب إلى تعبيرات فنية أكثر تقشفًا وأكثر صفاء من تجاربه ومعارضه السابقة. إذ يعمل الغرباوي هذه المرة على الغوص عميقًا في طبيعة اللون والخطوط والأشكال، ليجعلها مقتصدة في الكثافة والكتلة والحضور، لكن بليغة الدلالة على المستوى التعبيري والجمالي.
كما استطاع الغرباوي أن يزاوج في هذا المعرض بين البساطة والقوة في التعبير التشكيلي، من خلال تبادل ملحوظ في استعمال الألوان (الأسود والأبيض على الخصوص)، مضيفًا إلى البياض الشاسع للوحة بعض اللمسات الخفيفة من اللونين الأخضر والأزرق، إضافة إلى العديد من العناصر الأخرى، كالمؤثرات الضوئية، والعديد من الأشكال الهندسية والرموز المُحيلة إلى ثقافة الترحال، مثل خيام البدو الرُّحّل وغيرها من العناصر المشيرة إلى التنقل المستمر بين ثقافات وجغرافيات أخرى، وهو الشي الذي يعكس، بشكل او بآخر، التجربة الشخصية للفنان في سفره الدائم في ثقافة الأصل (المغرب) وبلد الإقامة والاستقرار (كندا).
وذلك ما أشار له الغرباوي تحديدًا في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء إلى أنه «يقدم من خلال هذا المعرض فصولا من محطات حياته منذ أن غادر المغرب مع بداية سنة 2005م، وهو ما يفسر اختلاف الأبعاد والتقنيات المستعملة في كل لوحة»، موضحًا أنه باعتباره فنانا مهاجرًا، يعتبر موضوع التنقل بالنسبة إليه موضوعًا اختياريًا ومألوفًا وواقعًا معيشًا في آخر المطاف ■