في مديح التفاخر

ليس التفاخر بالنفس بالظاهرة الحديثة؛ بل له جذور تاريخية عميقة. ففي العصور القديمة، كان المحاربون يتباهون بانتصاراتهم وبراعتهم لتعزيز سمعتهم وترهيب المنافسين. وفي العديد من الثقافات، تضمنت رواية القصص والتقاليد الشفوية عناصر من التفاخر، حيث روى الأبطال مآثرهم لإلهام الآخرين وتعزيز مكانتهم داخل المجتمع. وعلى مر التاريخ، تبنى الأدب والفن أيضًا مفهوم التفاخر، فغالبًا ما تتفاخر الشخصيات في الحكايات الملحمية بقدراتها وإنجازاتها، مما يشكل نماذج أولية للبطولة والطموح. فمن أوديسيوس المتفاخر بقدرته على التغلب على الصعاب التي واجهته في رحلة عودته إلى الوطن في إلياذة هوميروس، إلى الشخصيات الأشهر في مسرحيات شكسبير، كان التفاخر وسيلة لتطوير الشخصية واستكشاف الذات.
لا يمكننا الحديث عن التفاخر دون الإشارة إلى الفخر في الشعر العربي الذي يمثل أحد أبرز أغراضه الأساسية، حيث يعبر الشعراء عن اعتزازهم بأنفسهم وبقبائلهم، ويستعرضون مآثرهم ومفاخرهم. فها هو عمرو بن كلثوم يعمد في قصيدة «المعلقة» إلى إجلال وتعظيم قومه، ويقول متباهيًا:
مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا
وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
وها هو حاتم الطائي ينظم شعراً ليفخر بالآباء، فيقول:
إذا مات منا سيد قام بعدهُ
نظير له، يغني غناه ويخلفُ
وإني لأَقْري الضَّيفَ ، قبلَ سؤالِهِ
وأطعن قدمًا، والأسنة ترعفُ
ولعل أشهر الأبيات الشعرية في التفاخر بالنفس على الإطلاق هي التي قالها المتنبي في قصيدة «وا حر قلباه ممن قلبه شبم»:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
التفاخر سمة غير مرغوبة اجتماعيًا
ولكن، على الرغم من ذلك، ففي مختلف الثقافات، ومن زاوية العلاقات الاجتماعية، يعتبر التفاخر بالنفس أمرًا بغيضًا ويعطي انطباعات سلبية عن الشخص المتفاخر أكثر من أي شيء آخر. ولا نحتاج بالضرورة إلى علم النفس الحديث لإثبات هذه النقطة، فمنذ القرن الثالث عشر اعتبر الشاعر الإيطالي الشهير دانتي أن مشاعر التفاخر هي إحدى الخطايا السبع المميتة، بينما أشار شكسبير قبل أكثر من أربعة قرون في مسرحية «كل شيء بخير إذا انتهى بخير»، إلى مساوئ التفاخر عندما صوّر المتباهين، على لسان بارولس، أحد شخصيات المسرحية، بـ«الحمير» الذين لا يدركون ولا يعقِلون، ويواصلون الثرثرة حول أنفسهم بشكل متبجح. وعلى نحو مماثل لاحظ عالم الرياضيات والفيلسوف بليز باسكال في القرن السابع عشر في كتابه «أفكار» أنه: «إذا كنت تريد أن يظن الناس بك خيرًا، فلا تتحدث عن نفسك خيرًا». وتأكيدًا على كل ذلك فقد وصف كتاب «ديبريت»، الكتاب البريطاني الأهم في الآداب الحميدة،ـ التفاخر بأنه «صفة طفولية»، ونصح بدلًا من ذلك «باللجوء إلى التقليل من شأن الذات قدر الإمكان».
ما بين الإنجاز والتفاخر
وإنما، وفقًا لبحوث حديثة حول العلاقات الاجتماعية، فإن هذه الأفكار والنصائح السائدة عبر العصور قد لا تكون في محلها في كثير من الأحيان. صحيح أن التفاخر بالنفس بصوت عال أو بشكل متكرر هو أمر منفر، ولكن هناك من يشدد على ضرورة الفصل ما بين «الإنجاز» و«التفاخر»، وهنا يمكن الإشارة إلى النصيحة التي قدمها الفيلسوف الصينيّ القديم «لاوتزه»، حين قال «أنجز ولكن لا تتفاخر». كما يمكن الإشارة، أيضًا، إلى مفهوم arete «أريت» الذي تم الاحتفاء به في اليونان القديمة، والذي يعني التميز أو الفضيلة حيث تم تشجيع الأفراد على عرض إنجازاتهم، كون الإغريق كانوا قد أدركوا أن مشاركة إنجازات المرء يمكن أن تكون بمثابة مصدر إلهام للآخرين، وتعزز ثقافة التميز. فمما لا شك فيه أن هناك ما هو سلبي في إخفاء الإنجازات الشخصية، فضلاً عن أن التواضع الزائف غالبًا ما يكون أسوأ من الثناء على الذات بلا خجل. وفي كثير من الحالات، من الأفضل أن نتفاخر، ولكن الحيلة تكمن في معرفة كيفية القيام بذلك.
عام 2021م، وجدت دراسة نشرت نتائجها في «مجلة علم النفس الشخصي والاجتماعي»، أن حوالي 80 في المائة من الناس يقولون إنهم غالبًا ما يقللون من أهمية إنجازاتهم لتجنب الظهور بمظهر المتغطرسين ولعدم إثارة الحسد. ومع ذلك، فقد وجد الباحثون أن هذا التحفظ يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، خاصة عندما يعلم الآخرون الحقيقة حول إنجازات هؤلاء.
في إحدى التجارب، قام الباحثون بتجنيد 153 زوجًا من الأشخاص الذين يعرفون بعضهم البعض كأصدقاء أو زملاء أو كشركاء رومانسيين أو أفراد عائلة. في كل زوج، كان على أحد الأشخاص أن يدوّن حدثًا حصل معه جعله فخورًا بنفسه أو سعيدًا أو متحمسًا. تضمنت الاستجابات كل شيء من تحقيق أفضل وزن في رفع الأثقال إلى الانتشار الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي. ثم أعطى الباحثون هذه المعلومات للشخص الآخر في كل زوج. في نصف الحالات، قال الباحثون إن الشريك اختار تمرير المعلومات بطريقة إرادية؛ أما في الباقي، فقد زعموا (كذبًا) أن الشريك كان يرغب في أن تظل خاصة. على الرغم من أن هذا الاختلاف يبدو بسيطًا، لكنه غيّر من شعور الأشخاص تجاه نجاح شريكهم، فعندما علموا بأن أصدقاءهم أو شركاءهم كان يرغبون في إبقاء الخبر السار سرًا، عبروا عن شعورهم بالإهانة والاستياء والبعد النفسي عنهم.
وكدليل آخر على «عقوبة التواضع» هذه، كما أشار إليها الباحثون، فقد طلب فريق البحث من مئات الأشخاص أن يتخيلوا كيف سيتفاعلون مع مجموعة من السيناريوهات. على سبيل المثال، كيف سيشعرون إذا علموا من أمهاتهم أن أحد أشقائهم قد حصل للتو على علاوة كبيرة في عمله؟ من جهة أخرى، كيف سيشعرون إذا شاركهم أشقاؤهم الخبر السار بأنفسهم؟ في الحالة الأولى، أعرب المشاركون عن استيائهم من جهود أشقائهم المبذولة لإخفاء الحقيقة، ولم يشعروا بذلك أبدًا في الحالة الثانية. وقد ازداد هذا الشعور حسب مدى قرب الشخص المعني منهم، مما جعلهم يشعرون بقدر أكبر من الخيبة وجرح المشاعر.
التفاخر المتواضع
من جهة أخرى، من الواضح أن التفاخر المتواضع الذي يتعلق عادة بإخفاء التفاخر بالشكوى أو التواضع الزائف، يشكل مشكلة مماثلة. والتفاخر المتواضع هو مصطلح كان قد صاغه الكاتب الكوميدي الأمريكي «هاريس ويتلز»، بحيث يشير إلى «نوع معين من التفاخر الذي يسمح لصاحبه بالإعلان عن إنجازاته دون الشعور بالخزي والذنب اللذين عادة ما ينبغي أن يصاحبا مثل هذه الادعاءات».
بعبارة أبسط، إنها طريقة لإخفاء التفاخر ببعض من التواضع. ولكن في الحقيقة «لا يوجد شيء أكثر خداعًا من مظهر التواضع. فهو غالبًا ما يكون مجرد إهمال للرأي، ويكون، أحيانًا أخرى، تفاخرًا غير مباشر»، هذا إذا ما أردنا الاقتباس من رواية الكاتبة البريطانية جين أوستن «كبرياء وتحامل». أما من الناحية العلمية فقد أظهرت أبحاث كانت قد قامت بها الدكتورة «أوفول سيزر»، الأستاذة المساعدة في كلية إدارة الأعمال بجامعة كورنيل الأمريكية، أن التفاخر المتواضع يجعل الناس أقل قربًا من الآخرين لأنهم يبدون غير صادقين. كما يميل هذا النوع من التفاخر إلى إرباك الرسالة التي قد يأمل شخص ما في نقلها. وبشكل مفصّل أكثر، تُظهِر أبحاث سيزر أن ادعاء مثل «أنا مرهق للغاية من انتخابي لمناصب قيادية» يمكن أن يجعل الشخص يبدو أقل كفاءة مما لو قال ببساطة «لقد انتخبت لمناصب قيادية». وفي الأساس، عندما يقدم شخص ما نفسه بطريقة تبدو مصطنعة أو مفتعلة، يؤدي ذلك إلى أخذ كل ما يقوله بحذر - بما في ذلك ادعاءاته بالنجاح. ويبدو التفاخر الذي لا يتصاحب مع أي اعتذار أو شكوى وكأنه تعبير حقيقي عن الفخر. وبطبيعة الحال، لا ينجح أي ادعاء من أي نوع إلا إذا كان مبنياً على الحقائق.
يرى البعض أن نفورنا من التفاخر غير الصادق له أصول تطورية. فمع ظهور التفاعل البشري، تعلم البشر أن يكونوا حذرين من أي شخص يبدو ميالًا إلى التلاعب بالآخرين لتحقيق مكاسب شخصية. وقد يفسر هذا أيضًا سبب كراهيتنا للثناء على الذات الذي ينطوي على مقارنة اجتماعية صريحة. فوفقًا لـ«فرضية الغطرسة»، عادة ما يكون للمتباهي نظرة سلبية للناس من حوله، ويكنّ لهم الاحتقار والازدراء وعدم الاحترام، ويحاول إثبات أنه أفضل من الجميع. وبالتالي فإن تفاخرنا يمكن أن يكون مقبولًا عمومًا طالما أننا لا نهين الآخرين لدعم أنفسنا. وإذا بدا الأمر وكأننا نحكم على الأشخاص المحيطين بنا بقسوة، فلن نجتذب سوى عدد قليل من المتعاونين. لذا، عندما نتفاخر بأدائنا الوظيفي، مثلًا، فمن الأفضل أن نقول «لدي سجل مبيعات ممتاز» بدلًا من «لدي سجل مبيعات أفضل كثيرًا من زملائي». وعند وصف نجاح قد حققناه لأشخاص لا نعرفهم حقًا، فمن الأفضل أيضًا أن نذكر بعض التحديات التي واجهتنا على طول الطريق. وفقًا لبحث نُشر في «مجلة علم النفس التجريبي» في عام 2019م، فإن هذه طريقة رائعة لتجميل أي مشاعر مريرة قد يشعر بها الآخرون تجاه صعودنا سلم النجاح.
كل هذا يعني أن هناك قواعد للتفاخر الفعال، إذ لطالما أننا نقول الحقيقة، ونتجنب التقليل من شأن الآخرين ونقر بالتحديات التي واجهتنا، لا بد أن نجد أن احتفالنا بأنفسنا لن يكون مجرد أمر قد يتسامح به الآخرون، بل سيكون مرحبًا به أيضًا.
يبدو أن مخاوفنا من أن نظهر بأننا متغطرسون بشكل بغيض إذا ما تفاخرنا بأنفسنا تنبع من الاستخفاف بالطبيعة البشرية. وما يثبته البحث مرارًا وتكرارًا هو أن الناس غالبًا ما يكونون أكثر لطفًا ودعمًا وتقبلًا مما نفترض. لذا بدلًا من الحديث باستمرار عن schadenfreude، وهو التعبير الألماني الذي يعني الاستمتاع بألم شخص آخر، ربما حان الوقت للاحتفال بـmitfreude، وهو التعبير الألماني الآخر الذي يعني السرور الذي نشعر به عند الاستمتاع بمتعة شخص آخر ■