الأبناء وتغير الزمان

الأبناء وتغير الزمان

يُضفي تغيّرُ الزمان وتقلّبُ الأحوال حيرةً وارتباكًا ظاهريْن على مسألة تربية الأبناء تربيةً نمطية ـ وَفق ما هو مرجو دينيًا وقوميًا ــ ومحاولة التأثير على أفكارهم وتوجيههم الوجهة التي يرغب فيها أولياؤهم ومربوهم؛ ولعلّ أوضح مثال على ذلك ما نعايشه في هذه المرحلة الزمنية التي تتسم بتنافذ واسع وتجاور غير مسبوق بين العقائد والمذاهب والأفكار والأذواق والفلسفات التي يتبناها عددٌ كبير أو قليلٌ من أبناء هذه الإنسانية، نتيجة التواصل السريع الذي أتاحته وسائل وأدوات تقنيات الاتصال والنشر، الأمر الذي جعل القائمين على شؤون التربية والتوجيه بدءًا بالوالديْن وأفراد الأسرة والمعلمين والمرشدين، يُطلقون صيحات التحذير المعتّقة أو الممهورة بقدر هائل من مشاعر الخوف والشفقة على مصير الأجيال الناشئة الجديدة.
وقد عبّر أحد هؤلاء المتوجّسين المشفقين على هذه الأجيال تعبيرًا عميقًا مترعًا بالدلالات التي يكتنزها هذا الشعور المضطرب فقال: «قبل أن أتزوج كان لديّ ستّ نظريات في تربية الأبناء، أما حاليًا فلديّ ستة أطفال، وليس لديّ نظريات في توجيههم»، وهي إشارة ذكية تكاد تلخص صعوبات التربية في عالم يعجّ بتدفّق الأفكار والآراء والصور والتوجّهات المتناقضة.
وإذا كان هذا التوجّس والتخوّف من تغيّر الزمان وتقلب الأحوال مبررًا من الناحية الشعورية، فإننا لا نجد له ما يُعضده أو يبرره من الناحية الإبستمولوجية، ويُعزى السبب في ذلك إلى مسألة جوهرية يدركها جيدًا علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، تتمثل في اللون الذي يغلب على العصر الذي نعايشه ونتفاعل معه ومع معطياته المعرفية والعلمية وغيرها؛ فمنذ أقدم عصور التاريخ كانت هذه المسألة مطروحة، كما نجدها مثلًا في هذا القول «لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، وهو قول منسوب لسقراط كما هو منسوب لتلميذه أفلاطون، وفي الثقافة العربية والإسلامية نجد هذا القول أو ما يشبهه في الصياغة والمضمون منسوبًا إلى الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
إنّ ما ينبغي تقريره في هذا السياق تطلعًا إلى تخفيف وطأة القلق، يتمثل في ضرورة غرس الثوابت التي لا صلة لها بتغيّرات الزمان، أما الأعراف والتقاليد والأذواق، فلا يُنظر إليها كما يُنظر إلى الثوابت سواء ثوابت الدين والاعتقاد أو ثوابت الأخلاق والسلوك. فإذا التزمنا هذه القاعدة في معاملة الأبناء فلا خوف عليهم من تغيّرات الزمان ومن تقلبات الأحوال. أي إنّ السرّ كله يكمن في حسن تربيتهم والوفاء بحاجاتهم. 
قال معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس: ماذا تقول في الولد؟ فقال: يا أمير المؤمنين: ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كلّ جليلة، فإنْ طلبوا فأعطهم، وإنْ غضبوا فأرضهم، يمنحوكَ ودّهم ويحبّوك جهودهم (العيال لابن أبي الدنيا ص152)... وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء:
    أبناؤكم بطباعكم تتطبّعُ 
        أنتم لهم في ذي الحياة المرجعُ
    إنّ الأُبوّةَ والأُمومةَ منهلٌ  
        منه الطفولةُ فكرُها يتشبّعُ ■