العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة

تظل العودة إلى فترة «عصر النهضة» ملهمة لقراءة الماضي واستشراف المستقبل، وذلك حتى لا تتجمد مساعي التحديث على محاولاتٍ سبقَ الوصولُ إلى نتائجها بالمقدمات ذاتها، ومن هنا يأتي تثمين كتاب «العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة» للدكتور عزت عبدالرحيم قرني، عن سلسلة عالم المعرفة الرصينة، يناير 2024م. وعلى الرغم من اتساع رقعة المجددين وتزايد عددهم وتعدد الأصوات الإصلاحية بين عبدالله النديم والكواكبي وقاسم أمين ولطفي السيد، فالكتاب يركز على أربعة، هم: الطهطاوي وخير الدين التونسي وأديب إسحاق والأفغاني. ويضعنا الكتاب أمام مشكلات جابهها هؤلاء الرواد لنرى أنها هي ذاتها التي يواجهها مجتمع اليوم، ليكون السؤال: هل تقدمنا حقًا على نقطة وصولهم؟ أم أننا ندور في محلنا؟
ظهر رفاعة الطهطاوي (1801م - 1873م) مع مطلع القرن العشرين، وبينما كانت قوات فرنسا تغادر مصر، صحيح أن حياة رفاعة الشخصية لم تكن تعبيرًا مثاليًا عن أفكاره، ورغم ما تعانيه أفكار الطهطاوي من قلة التنسيق والدوران في التراث القديم فإنه كان رائدًا وفاتحًا لعالم جديد من الفكر السياسي والاجتماعي. ويقدم الطهطاوي المعاني المتواترة تقديمًا تدريجيًا نوعًا من تقريب المفهوم بين الشرق والغرب، وهو ما يتقارب مع تعليقه، بإعجاب وإكبار واضحين، على مواد الدستور الفرنسي في سياق كان محمد علي هو المالك الوحيد للأراضي والممول الوحيد للصناعات والتاجر الوحيد.
وعند الطهطاوي فالحرية هي «العدل والإنصاف» مؤثرًا التعبير الإسلامي، بعيدًا عن ظلال الحرية التي تأتي مقابل «الرق»، فالحرية عند الطهطاوي تلخص مهمة حفظ النفس والمال والعرض بوصفها من جوهر مقاصد الشريعة وآلية تطوير المجتمع وباعث التمدن وسبب حرية التعبير وحرية النشر. فتؤدي الحرية إلى اختيار نوع من الحياة فلا يتصور تعارض الدين الإسلامي وجوهر الحرية التي تعني الحق في الكرامة والإنسانية وفي المساواة، بما هي صفات بشرية، فالإكراه منبوذ حتى في الدين؛ إذ ينتج نفاقًا غير مرغوب والحرية تفتح باب الاجتهاد في تغيير ما فهمه السابقون في باب «المباح» شديد الاتساع، والحرية ملازمة لديه لمبدأ المساواة سواء في الحقوق أم الواجبات، بحيث تستوعب أخوة العبودية حسب تعبيره اختلافات شتى، وهي التي تنظم الاختصاصات بين السلطات الثلاث التقليدية التشريعية والقضائية والتنفيذية، فيركز الطهطاوي على الجانب الاجتماعي في الحرية ربما متأثرًا بمفهوم العقد الاجتماعي، كما يغمز طريقة «الاحتكار» الشائعة في تلك الفترة، متأثرًا بمقولة «دعه يعمل ودع التجارة تمر».
ويلتفت المؤلف إلى قلة الاستشهادات الدينية عند الطهطاوي في كتابه تخليص البريز في تلخيص باريز، ونكوصه عن ذلك مع المؤلفات التالية فربما أنه لم يجد أثرًا مرجوًا للمناقشة بعيدًا عن تأثير النصوص الدينية، وفي مجال التعليم وتوزيع مراحله نراه يلح على ضرورة «تعميم» المعارف الأولية واقتصار التعليم الثانوي على الطبقة الوسطى، ويؤكد الطهطاوي مرارًا أن هذه المظاهر عادية لديهم، لا تحتاج جهدًا لسبرها، وتشخص أمام الناظر بسهولة، وقد استطاع لمسها بينما يقوم بتأليف كتاب هو من باب أدب الرحلات في المقام الأول.
ومن مثالب كتابنا إصراره على الرؤيا الرأسية لكل كتاب على حدة، ففصل لمناهج الألباب يأتي بعد «تخليص الإبريز» ولو كانت الرؤيا أفقية ممتدة، وفي كتابه مناهج الألباب المصرية إلى مباهج العلوم العصرية يرسم صورة المستقبل كما يراه بعد وعي الحاضر وأزماته، والحرية التي يظن الطهطاوي إمكان الانتقال إليها مرتبطة بالدستور، وضمان الحرية الشخصية حسب تعبيره... وحديثه عن الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية الاعتقاد وحرية الرأي وسط تيار من حرية «الفرد» الإنسان، واستقلاله.
لا يخفي المؤلف تحيزه القومي لرفاعة الطهطاوي دون غيره، ولا يواري دوافعه القومية تجاه رفاعة الطهطاوي، وهو ما يبدو في تخصيص نصف الكتاب تقريبًا لدراسة دور رفاعة الطهطاوي، ليس فقط لأنه يعتبره المؤسس الأول، ولكن لتحزب المؤلف صوب ابن وطنه.
ولم يستهجن محمد علي كتابات الطهطاوي بل أمر بطبع تخليص الإبريز في تلخيص باريز ونشره في الدواوين والمدارس، وأمر بترجمته إلى التركية، حتى صدرت طبعتان متواليتان 1834م، 1849م. وربما زاد من تأثير الكتاب وانتشاره ما كان من تلاميذ الطهطاوي في مجال الترجمة أو غيرها، ومنهم الأعلام كالشيخ محمد عبده الذي قضى شهورًا يتردد على مكتبة رفاعة الطهطاوي الشخصية.
غياب المضمون
وفي الجزء المخصص لخير الدين التونسي بدا المؤلف شديد الاحتفاء بكتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» (صدر سنة 1867م)، وبمقدمة الكتاب على وجه أدق، ونظر له بوصفه النقيض من الطهطاوي أو الجزء الآخر من نظرته؛ حيث يعاني قلة غياب المضمون الاجتماعي في كتاباته، ويركز على ازدهار العمران، أي المجتمع أو النشاط الاقتصادي الظاهر من زاوية مصلحة العثمانيين، والمهم هو صلاح الحاكم. إنه وزير يفكر بصوت عال، وليس رجل الشعب كما كان الطهطاوي، وقضيته الأساسية في البحث عن قوة الدولة وتقدم الأمم، وكيف أنه مرتبط - تمامًا - بالنظم السياسية الأوربية، وكيف نقلدها في العمران والحرية والقوانين.
وتشغله أيضًا أسباب قوة الغرب ويلخصها في «تنظيماته» بعيدًا عن ديانته أو إمكانياته، فإذا أردنا مقاومة هيمنتهم وجب علينا اتباع مثل تنظيماتهم السياسية، داعيًا إلى مراعاة الحقوق بين الدولة والرعية أو الحرية العامة. ويوضح أن ما ننقله عنهم له أصول لدينا، ومن ذلك «المجالس»؛ فهي تعادل «أهل الحل والعقد».
ويعتمد خير الدين التونسي بشكل أساسي على برهان العقل وتأكيد المنطق بما يبدو معه الإشارة إلى الأصول الدينية لما ينقله نوعًا من تمرير ما يرده كمحاولته تقريب مفهوم الحرية الشخصية بوصفها قائمة على حفظ الإنسان في نفسه وعرضه وماله، أو رهانه على كون كمال الحرية مؤسسًا على العدل فيضفر العلاقة بينهما، ويعتمد بشكل أساسي على برهان العقل وتأكيد المنطق بما يبدو معه الإشارة إلى الأصول الدينية لما ينقله نوعًا من مجاراة الوعي الشعبي أكثر من اعتماد مطلق عليها.
مع إيمانه بفكرة التدرج في تطبيق المعايير الجديدة ونقلها بصورتها الغربية، ومجاهرة بالتحفظ إزاء الحرية السياسية وفاء لكونه واحدًا من رجال الدولة العثمانية؛ فهو الوزير المتنور إلا في هذه النقطة، فتبنى وجهة نظر الحاكم لا المحكومين.
اعتبارات دينية
وفي الفصل الخاص بأديب إسحاق (1856م - 1885م) تراه يلمح إلى حدّت من تقدير موقفه، وترفع عن الالتفات إلى الاتهامات التي طالته بمحاولة التربح من العمل بمصر.
وفي أفكاره تأثر كبير بأفكار النديم، ومنها تبني المعنى ذاته للحرية بما هي حق القيام بالواجبات؛ فهي حرية تقوم على الإحساس بالمسؤولية واتباع القوانين، وانتهائها عند حد ضرر الناس حفظًا لها من التآكل بفعل عدم وجود الحدود، والحرية الحق هي «وسط عدل» بين طرفين وأن لا يجبر المرء على ما لا توجبه القوانين، وهو ما ينعكس في تقديره للديمقراطية مؤثرًا لفظ الشورى.
ويبدو لدى أديب إسحاق حماسته المفرطة للعدل حين اتخذه شعارًا لجريدة «مصر» التي أنشأها، فقال: العدل لا يكون للحقيقة ضدًا، ولا يخفي تأثره برفاعة الطهطاوي، وبخاصة في تعريف المساواة، وما قامه من ارتباط شرطي بين الحقوق والواجبات. وعلى الرغم من اتهام أديب إسحاق بالكلام الحماسي دون وضع حلول واضحة فإن حديثه المنتظم حول التعليم الإلزامي، في هذه المرحلة المبكرة يشفع لنزعته الإصلاحية الواضحة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة.
وتظهر لدى أديب إسحاق فتنته الكبيرة بفرنسا ونظام التعليم فيها ودعوته إلى اتباعه وتدريس تاريخ فرنسا التي يراها نموذجًا للحرية ويدعو إلى الأخذ بها، والامتنان لدور فرنسا في إيقاظ العالم العربي متواتر لدى زعماء عصر النهضة حتى إن أديب إسحاق يعود كثيرًا لجان جاك روسو.
الهالة الكاذبة
وفي الختام - ولأسباب غير مفهومة - يأتي جمال الدين الأفغاني في نهاية الكتاب، وسريعًا يظهر موقفه المرتاب في الرجل من كل الجهات، وعلى قدر أساه للظلم والغمط الذي يعانيه أديب إسحاق تراه يتساءل عن أسباب الهالة الكاذبة تجاصه الأفغاني. ويعيب على الأفغاني نظرته الدائمة صوب الماضي الذي فقهه وأعاد النظر فيه بأفق منفتح، على العكس من تجاهله للحاضر أو المستقبل فلم يقدم مشروعًا ملائمًا أو بناء عمليًا أو تصورًا متسقًا وإنما نظرة سلفية تركز على العودة إلى التراث وتأمله وفهمه، والمشدود إلى الماضي كحالة الأفغاني لا يقول بالحرية الناجمة عن الإبداع أو الاختراع؛ إذ ارتبط لديه بالبدعة السيئة، فالماضي قد قال كل شيء، ولكنه -في الوقت ذاته - يحمل على التقليد الأعمى من دون حجة ولا برهان، وكان واحدًا ممن دعوا لفتح باب الاجتهاد مرة أخرى وإن اقتصر على فهم القديم. ومن ثم، فقد ظهرت معان سلبية للحرية يعادلها بسلوك الأوربيين مع ازدرائه للحرية الشخصية وتركيزه على الحرية القومية، وربما لهذا السبب فقد شاب الغموض موقفه من النظام النيابي، واعتمد الأفغاني الحل الأخلاقي لمشكلاتنا بما يعكس قصور تصوره، واعتماده المجالات الغيبية دون غيرها كما يرصد بعض تناقضاته بين «العروة الوثقى» و«الخاطرات» وتقليل من قيمة كتابه «الرد على الدهريين». فالحرية عنده تعني التحرر في السلوك كالأوربيين أو الشطط في الفكر كما جاءت في رده على الدهريين فالمعاني السلبية للحرية أكثر استدعاء من غيرها.
وثمة سلبية في رأيهم تجاه الأحزاب، وقلة اكتراث بدورها، وصعوبة في الرهان عليها، مع ضعف ثقتهم في رأي الجماهير والشعب، واعتماد - بنسب متفاوتة - على صلاح الوالي بوصفه تقدمة لصلاح الرعية.
ويحاول الكتاب أن يوازن جغرافيًا بين مصر وتونس وسورية ورابعهم الأفغاني كان سائحًا بين مختلف البلاد، ولكنه لم يفلح في إخفاء تحيزه القومي للطهطاوي، والخلل المنهجي في إصراره على الرؤيا الرأسية لكل شخص على حدة، وكل كتاب دون ربطه بغيره، ولكن الكتاب ظل مرجعًا أساسيًا لكل من يحاول تقويم فترة النهضة، ورصد تحولاتها الأساسية، أما كمال الموضوعية فذلك شأن آخر ■