التعددية الثقافية ثراء التنوع

في هذا العالم الواسع تتعدد الأعراق والجنسيات، وتتعدد الثقافات أيضًا، وتنشأ أي ثقافة في ظل وجود مجموعة عرقية متجانسة، تجمعها مصالح متشابهة أو تكمل بعضها بعضًا، هذه هي الثقافة المتنوعة، ولكن التعددية الثقافية هي المجموعة التي تحتوي أكثر من ثقافة متنوعة، ولكنهم يعيشون معًا في منطقة من العالم في سلام ودون صراع، ويتعزَّز هذا الأمر في ظل القبول بالوجود المتجاور، ويمكن للمجتمع أن يصبح ثريًّا بسبب الحفاظ على هذا التنوع وتشجيعه.
ويمكن أن تنشأ سلطة واحدة تضمُّ أطراف هذه الثقافات، مثلما حدث في كندا، التي تضمُّ كندا الفرنسية وكندا الإنجليزية، ومثل المملكة المتحدة التي تضمُّ إنجلترا واسكتلندا وويلز، أو يتم عن طريق الهجرة كما حدث في أمريكا، ولكن تلك مجتمعات قويَّة في بلاد متقدمة، بينما هناك العديد من المجتمعات قليلة العدد وشبه المعزولة وفي حاجة للحماية.
الثقافة نتاجٌ فكريٌّ يقوم به بعض الأفراد ذوي المواهب الخاصة، كتَّاب وشعراء وفنانون ونحَّاتون ومصممو مبان وأزياء، أي إنها نتاج أفراد، وتنوع بعدد البشر الذين يساهمون فيها، وبعدد الجماعات والمجتمعات، لذا فالتنوع هو ضرورة إنسانية ومطلب اجتماعي، ويتطلب الأمر الاعتراف بهذا التنوع وفي حقه في الوجود والتعبير، وتجريم من يُصادر أي ثقافة على المستوى الأخلاقي والقانوني، لأن الإنتاج الثقافي هنا يعدُّ نوعًا من التراث يحفظ لهذه الجماعة هويتها.
كائن مثقف
ويؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن الإنسان كائن مثقف حتى لو لم يكن يعرف معنى الثقافة، وقبل أن يعرف سبب الاختلاف بين طبيعة الأفراد، لأن لديه حالة فطريَّة من الوعي، تجعله يدرك ماذا يختار ومتى يُقبل على الأخطار وكيف يتفاداها، وكيف ينظم الظروف من حوله بحيث تضمن له البقاء، وهو دون أن يعي يؤسس لثقافة ما أو لتقاليد سوف يتبعها أولاده من بعده، وإن كانت الحاجة قد دفعت الإنسان إلى إيجاد ثقافته وتنوعها، فإنه كذلك كان يفعل ذلك مدفوعًا نتيجة حبه للتملُّك، فحب التملُّك هو غريزة أخرى، دفعته إلى أن ينوع في ثقافته وفق احتياجاته، فعندما صنع الإنسان أدواته الأولى، هدته غريزته ألا يُسلمها لغيره، لأنه سيحتاج إليها مرة أخرى، تمامًا كما يحتفظ بقوته، فهو لا يريد أن يسيطر عليه شخصٌ آخر، وهذا ما تطور عبر حقب التاريخ التالية إلى ما يعرف اليوم بالملكية الفكرية.
التعدديَّة أسلوب عصري
اختارت منظمة اليونسكو يوم 21 مايو من كل عام ليكون يومًا للتنوع الثقافي من أجل التنمية وتعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة، وقد نشر الدكتور جيمس فيرون قائمة تضم 120 من البلدان القائمة على تنوع الأعراق واللغات، وأخيرًا أصبح لدينا قائمة بالبلدان التي تمارس أنشطة ثقافية مختلفة عن النمط السائد، وتعدُّ هذه خطوة أولية لقياس التنوع الثقافي بشكل كمي، وقد حاول الخبراء تقدير هذا التنوع من خلال عدد اللغات المتداولة في منطقة ما واعتبروها مقياسًا، ففي التسعينيات من القرن الماضي كان العالم يمرُّ بحالة من التدهور الثقافي، ورصد الباحثون كيف أن هناك لغةً محليةً تختفي كل أسبوعين وتخرج عن التداول؟ وقدَّر الخبراء أنه إذا استمر هذا المعدل فسوف تختفي كل اللغات المحلية التي لم تكن مستخدمة على نطاق واسع، خاصة أن الزيادة السكانيّة التي يشهدها العالم لا تبقي على أي مناطق معزولة.
العالم يكتشف نفسه
لقد كشف التطور في وسائل الاتصال عن وجود مجتمعات عديدة في مختلف أنحاء العالم، كلها تختلف عن بعضها البعض، في اللغة وطريقة الملابس والتقاليد في الحياة والزواج وأشياء أخرى كثيرة، ويؤثر انتشار وسائل الإعلام وسرعة تدفق المعلومات في تطور المجتمعات المتأخرة والمنعزلة عن بقية العالم، لأنها تنقل لهم صور الواقع الآخر بكل ما فيه من تفاصيل دقيقة، خاصة في تطور الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، وهو ما يعزِّز من عملية عقد المقارنات والبحث عن البدائل الأفضل، وهو الشغل الشاغل للأجيال الجديدة التي تقبل بطبيعتها على الحياة والرغبة في التغيير.
ويؤكد الخبراء أن هذا التنوع الثقافي شبيهٌ بالتنوع البيولوجي الذي يعتقد العلماء أنه أساس الحياة، وهو الذي حافظ على الجنس البشري طوال السنوات الماضية.
الإسلام والتنوع الثقافي
تقول الآيتان الكريمتان 118 و119 من سورة هود: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. هكذا يقول القرآن وهو دستور الثقافة الإسلامية، فعندما استقرَّ الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة بعد هجرته، حرص أن يجمع كل الطوائف الذين يعيشون فيها، المهاجرين والأنصار واليهود، وحتى الذين مازالوا يعبدون الأصنام، ووقَّع معهم عهدًا أن يعيشوا جميعًا في سلام، وتعدُّ هذه أول وثيقة اجتماعية في الإسلام، وقد نصَّت على أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، ولكن في وقت الحرب عليهم أن يدافعوا معًا عن المدينة، وتنفق كل طائفة على أتباعها، وظلَّ هذا الاتفاق قائمًا حتى أخلَّ به اليهود، وانضموا الى أحزاب قريش فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإجلائهم عن المدينة.
وظلت هذه المبادئ سارية حتى بعد أن قامت الدولة الإسلامية واتسعت حدودها، وقد أسهم غير المسلمين في الحياة بالمجتمع، وكان من نتائج ذلك تكوين الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب، وكانت في جملتها خلاصة لعبقريات الشعوب التي انضوت تحت حكم الإسلام، وعملت على الرقي بالمجتمع، سواء اقتنعت وآمنت به أو ظلت على عقيدتها الأصلية، وتعد نظرة الإسلام للتعددية بشكل عام هي الحل الأمثل لمشكلة الصراع الديني في العالم، وللتعايش السلمي بين الأديان المختلفة، كما أنها خير دليل على سماحة الإسلام واعترافه بأن الاختلاف طبيعة كونية. وهو ما لم يلتفتْ إليه الفرعون أخناتون (أمنحتب الرابع) عندما دعا إلى ديانة التوحيد بعدما اعتلى عرش مصر وحكمها لمدة سبعة عشر عامًا خلال الفترة 1353 – 1336 ق.م تقريبًا، في عهد الأسرة الفرعونية الثامنة عشر، فثارَ في وجهه كهنة آمون فحطَّم معابدهم ودور عباداتهم، ودخلت البلاد في حرب أشبه بالحرب الأهلية، قومٌ يتبعون أخناتون وإلهه الواحد الأحد، وقومٌ يتبعون كهنة معبد آمون الذي كان يعدُّ أقوى الآلهة المصرية القديمة في ذلك الوقت، مع بعض الآلهة أو الرموز التعبدية الأخرى على امتداد الوجهين القبلي والبحري. وأبَى إخناتون أن يعترف بالتعددية الثقافية والدينية - في مصر- في ذلك الوقت، وهجر العاصمة طيبة (الأقصر الآن) وابتنى لنفسه مدينة جديدة عرفت باسم أخيتاتون، موقعها الآن تل العمارنة في صعيد مصر بالقرب من محافظة المنيا. وكان هناك في شبه عزلة عن المجتمع المصري الذي كان يمور بالغليان.
ورأى بعض المؤرخين أن أخناتون لو اعترف بالتعددية الثقافية والدينية التي كانت قائمة في المجتمع المصري وقتها، وتعامل معها بأسلوب هادئ وحكيم سياسيًّا، لكان الآخرون اعترفوا أيضًا بأفكاره، وربما اتجهوا إلى التعرف على الإله الواحد الأحد، وأُنقذت البلاد من الاضطرابات التي اجتاحتها عددًا من السنوات إلى أن ساد الهدوء مرة أخرى في عصر القائد العسكري حورمحب الذي يعد آخر حكَّام الأسرة الثامنة عشر، والذي حكم مصر ثلاثين عامًا خلال الفترة 1338 - 1308 ق.م.
الأقليات في العالم العربي
منذ أقدم العصور تحظى المجتمعات العربية بكثير من التنوع الثقافي، وربما يكون هذا هو الأصل، فمنطقة الشرق الأوسط عمومًا منطقة التقاء حضارات متداخلة ومتراكمة، ومنطقة ثقافات متحوّلة ومتغيرة وديانات متنافسة، كما أن ذلك الموقع الجغرافي ملتقى للطرق بين أهم الحضارات القديمة، وهو طريق لعبور الكثير من الهجرات والجيوش على امتداد التاريخ.
وهنا يجب التوقف قليلاً عند التحوّل الكبير بعد توسع الدولة الإسلامية وخروجها من الجزيرة العربية إلى مناطق بعيدة خاصة، فوصلت إلى الصين شرقًا وإلى شبه الجزيرة الآيبيرية غربًا خلال فترة الدولة الأمويّة، كما لعبت الدولة العباسيّة التي جاءت بعدها في تشكيل نموذج مختلف للحكم الإسلامي لا يعتمد بصورة أساسية على العنصر العربي.
وبناء على تلك الطبيعة الجغرافية وبعض الأحداث التاريخية، تحظى المنطقة العربية بالكثير من القوميات والأعراق غير العربية، مثل الأكراد والبربر والأرمن والشركس والتركمان وغيرهم، وبعض تلك القوميات كانت موجودة في مناطقها وأقدم من الحضور العربي نفسه.
الحفاظ على التراث غير المادي للشعوب
ولعل ما تفعله منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) - منذ سنوات - بخصوص الحفاظ على التراث غير المادي للشعوب، هو خطوة مهمة ورائعة من شأنها الحفاظ على التنوع الثقافي للشعوب والدول، وحماية هويَّات ثقافية من الذوبان في هويَّات ثقافية أخرى، كي يظل لكل شعب ولكل دولة تراثها وتنوعها وتعددها الثقافي الخاص بها.
وتعد تلك الخطوة حائط صد لطوفان العولمة الذي يكتسح العالم، ويريد أن ينمّطه ويصبّه في قالب واحد، دون مراعاة للاختلافات والفوارق والتنوع والتباين الثقافي بين كل شعب وآخر، وكل منطقة وأخرى، وكل بلد وآخر. وليس هناك شك في أن الحفاظ على التراث الثقافي اللامادي يسهم في تحقيق التنمية المستدامة، ويحافظ على التنوع الثقافي لشعوب العالم، بل إنه يحافظ على هذا التنوع داخل الدولة الواحدة. فداخل الدولة الواحدة أيضًا توجد مناطق ومجتمعات وثقافات متباينة، وعلى سبيل المثال دولة مثل مصر أو المغرب أو سورية، بداخلها تنوع ثقافي، فمحافظة أسوان التي تقع بالقرب من الحدود السودانية المصرية، تختلف في ثقافتها ومعيشتها اليومية وعاداتها وتقاليدها وطريقة أفراحها وأحزانها عن محافظة أو مدينة مثل الإسكندرية التي تقع على حوض البحر الأبيض المتوسط، على سبيل المثال، ولكن يظلِّلُ هذا التباين ثقافة عامة تتسم بها الدولة المصرية في العموم.
التنوع والتعدد الثقافي في مجال الفنون والآداب
ويتجلى هذا التنوع والتعدد الثقافي في مجال الفنون والآداب سواء في البلد الواحد، أو حتى البلدان المتجاورة، ونعود إلى المِثَال المصري؛ فغناء أهل الصعيد وأهل النوبة المصرية التي أخرجت لنا فنانين من أمثال أحمد منيب ومحمد حمام ومحمد منير وغيرهم يتمتعون بلكْنة وإيقاعات خاصة، تختلف عن لكْنة وإيقاعات القاهرة وأهل الدلتا التي أنجبت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم.
وإذا خرجنا إلى النطاق العربي في مجال الآداب والفنون، سنجد أن الغناء الكويتي أو الغناء السعودي أو الإماراتي يختلف عنه في سورية ولبنان وفلسطين، يختلف عنه في مصر والسودان، يختلف عنه في دول المغرب العربي على سبيل المثال.
ويمتد هذا إلى الرسم والتشكيل أيضًا، انظر إلى لوحات سامي محمد وحميد خزعل وثريا البقصمي من الكويت، ولوحات محمود سعيد ومحمد ناجي وإنجي أفلاطون من مصر، وفائق حسن وجواد سليم ومحمد غني حكمت في العراق، على سبيل المثال، ستدرك الفارق والتنوع الثقافي المهم والملهم.
وسنجد هذا في مجال الروايات أيضًا داخل البلد الواحد، فروايات نجيب محفوظ على سبيل المثال تختلف عن روايات محمد عبدالحليم عبدالله، من حيث التنوع الثقافي البيئي بين المدينة والقرية، وهذه وتلك تختلف عن روايات كتَّاب النوبة المصريين من أمثال صاحب الشمندورة محمد خليل قاسم وإدريس علي وحسن نور، وروايات هؤلاء وهؤلاء تختلف عن روايات كتَّاب السعودية من أمثال حمزة بوقري وعبدالرحمن منيف وغازي القصيبي، على سبيل المثال.
هكذا يمنحنا التعدد الثقافي، أو التعددية الثقافية مساحات رائعة وواسعة من الإبداع والثراء والتنوع، وفي ذلك يقول الله تعالى في الآية 93 من سورة النحل: {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، ولكنه خلقنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، مصداقًا لقوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: {وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ} صدق الله العظيم ■