لماذا انكسر التناظر؟

لماذا انكسر التناظر؟

كان التناظر في نظر اليونانيين القدامى يعني الجمال.. ولكن الطبيعة نفسها لا تعترف بهذا التناظر وتكسره في كل أشكالها.

بالرغم مما شهده القرن العشرون من نجاح في قوانين التناظر Symmetry نتيجة تطوّر العلوم، وبالرغم من رسوخ فكرة التناظر في أعماق الفكر البشري - حيث استخدمتها كل الفنون - فإنها لم تفرض نفسها إلا بعد مرور وقت طويل. هذا إذا استثنينا بعض البوادر الخاطفة عند أفلاطون وكبلر ونيوتن الذي أدرك دور التناظر عندما بيّن أن قانون كبلر الثاني الخاص بحركة الكواكب (قانون المساحات) ناجم عن كون التثاقل قوة ذات تناظر كروي. أما اليوم، وفيما يحقق مفهوم التناظر الانتصار تلو الآخر في كشف أعمق الأسرار، فإن أفكاره لاتزال بعيدة كل البعد عن العامة من الناس.

تعني كلمة التناظر Symmetry باليونانية (المقياس نفسه)، وقد عرف معظمنا التناظر من خلال الأشكال الهندسية والفن والطبيعة. فنراه في سعف النخيل وواجهات قصر الحمراء في غرناطة وفي مبنى البارثنون باليونان وفي صورة الموناليزا ورائعة بوتشللي (ميلاد فينوس) وفي رقص الفالس وفي قاعدة لحن الجواب الثماني المستخدم في الموسيقى الغربية منذ أيام باخ. كما نجده في أصداف البحر وثمرات شجر الأرز ونغمات البيانو المدوزن جيداً.

أما الهندسة، فتعلّمنا أن المثلث ينطبق على نفسه إذا دار حول نقطة الوسط فيه بزاوية 180 أو 240 أو .360 أما المربع فينطبق على نفسه بعد تدويره حول مركزه بإحدى مضاعفات 90 في حين تكون الدائرة صامدة إزاء أي دوران حول مركزها، ولذلك فهي أسمى تناظرياً، لكن لماذا كان تناظر الدائرة أسمى من تناظر المربع مثلاً?.. يكمن الجواب في أن المربع شكل ذو بنية أغنى من الدائرة التي إذا قورنت بالمربع تظهر غير ذات سمات، ونستطيع تخريب تناظرها الدوراني إذا جعلناها مفلطحة قليلاً أو وضعنا فيها نقطة تدل على دورانها.

ومن هنا نستنتج أن الجمل ذات السمات القليلة تكون أسمى تناظرياً، ولعل الفضاء الخالي هو أكثر نماذج الأشياء عديمة السمات شهرة، فعندما تكون في فضاء لانهائي الاتساع ومتماثل الأرجاء، وتدير رأسك بأي اتجاه، لن تلحظ فيه تغيّراً، ويكون الزمان متناظراً في هذا العالم عديم السمات، لأن أي لحظة زمنية في هذا العالم الخالي الذي لا يحدث فيه شيء، لا تختلف في شيء عن أي لحظة أخرى، أي أنه إذا لم يحدث شيء في عالم خال، فلا مجال للتمييز فيه بين اتجاه الماضي واتجاه المستقبل.

لكن العالم يعج بالكواكب والمجرات والكائنات الحية بمن فيهم أنا وأنت، وعلى ما يبدو فإن معظم الأشياء المخلوقة في الكون لا تنطبق على خيالاتها المرآتية، فالإنسان غير متناظر تشريحياً إذ يتوضع قلبه جهة اليسار وكبده جهة اليمين، كما أن عدد الناس (الضبط) (مؤنثها ضبطاء ومذكرها الأضبط: وهو الذي يستخدم كلتا يديه بمهارة واحدة) قليل، وهذه ظاهرة تجدها لدى كل الشعوب وفي كل العصور ولا ترتبط بعرق ولا ثقافة، فلماذا لم تكن المقادير متساوية عند الولادة?

كما تتحلزن قوقعة حلزون الولك المتألق Lightning welk نحو جهة اليسار دون اليمين، وفي حين يلتف نبات اللبلاب يميناً في تسلقه تلتف صريمة الجدي يساراً، وتتحلزن البكتريا المدعوة باسيلوس سبتيليس Bacillus Subtilis مشكلة مستعمرات تتحلزن يمينياً، فهل تميّز هذه جميعاً الاتجاهات بين اليمين واليسار تماماً كالإنسان أم أن هنالك سبباً آخر?

اللاتناظر في علم الحياة

بينما كان لويس باستور يفحص أحد أنواع حمض الطرطير في عام 1848م تحت المجهر، لاحظ أن هذا الملح يؤلف شكلين من البلورات، أحدهما صورة للآخر في مرآة مستوية، فما كان منه إلا أن فصل بالملقط بين النوعين وأذاب كل نوع على حدة في الماء وسلّط على كل من المحلولين حزمة ضوء ذي استقطاب (مستوى تواتر) معين. فلاحظ باستغراب كبير أن أحد المحلولين قد دور مستوى استقطاب الضوء باتجاه عقارب الساعة، في حين دور المحلول الآخر هذا المستوى بالاتجاه المعاكس. فعلم باستور أن قدرة هذين الشكلين المختلفين من بلورات ملح الطرطير على تدوير الاهتزازة الضوئية نفسها باتجاهين متعاكسين ناتجة عن أن جزيئات الملح نفسها تتخذ شكلين فراغيين متناظرين يميناً ويساراً، وقال إن بعضها ذو شكل (يميني) والآخر ذو شكل (يساري).

وفي عام 1857م، لاحظ أن نوعاً من الفطريات قد نما في محلول لا يؤثر مطلقاً في مستوى استقطاب الضوء، وبدل أن يسكب هذا المحلول الملوّث في البالوعة - كما كان من الممكن أن يفعل سواه - قام بفحصه بحزمة ضوء مستقطب، فتبين له أن هذا المحلول قد صار قادراً على تدوير مستوى استقطاب الحزمة الضوئية. فعلل هذه الظاهرة قائلاً إن المحلول كان غير فعّال ضوئياً لأنه كان يحوي مقدارين متساويين من الجزيئات اليمينية واليسارية، ثم تفاعلت الفطريات مع أحد النوعين، فصار المحلول غنياً بالنوع الآخر. لكن كيف ميّزت الفطريات بين شكلي الجزيئات اليميني واليساري? لقد وجد باستور أن جميع التفاعلات الكيميائية للكائنات الحية تميّز اليمين عن اليسار، وأن هذا التمييز هو سبب كل أشكال اللاتناظر في عالم المخلوقات بدءاً بالقلوب اليسارية، ومروراً بأشكال تعرش النبات وانتهاءً بالسلاسل الجزيئية للـDNA والـRNA في أعمق مستويات الخلية الحيّة. وقال إن هذا اللاتناظر في الطبيعة لا يقتصر على كيمياء الحياة فقط، بل إن (الحياة كما تتجلى لنا ناجمة عن اللاتناظر الكامن في عالمنا هذا). بعدها وأمام الأكاديمية الفرنسية، أعلن أحد أكثر أسرار الحياة غموضاً وفتنة: (إن العالم غير متناظر).

لكن لم كانت التفاعلات الكيميائية غير متناظرة? على ما يبدو، فإن السبب كامن في ذرّات هذا الكون، وسيكون علينا الآن الخوض في الذرة لمعرفة أسرار هذا اللاتناظر. الأمر الذي سيكشف لنا مفاجآت أكثر إدهاشاً.

تناظر القوى ونظرية كل شيء

رغم ما تبدو عليه أنواع القوى من تعدد وتنوّع، فإن العلماء يردونها اليوم إلى أربع قوى أساسية هي: القوى الكهرومغناطيسية والقوة الثقالية والقوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة. أما القوة الكهرومغنطيسية، فهي المسـئولة عن الكهرباء والضـوء وأمواج الراديو وعن بناء الذرات وعن كل التفاعلات في الطبيعة، وهي قوة مداها لانهائي وتدعى حاملاتها بالفوتونات وهي عديمة الكتلة.

القوة الثقالية هي المسئولة عن استقرارنا على سطح الأرض، ووجود الغلاف الجوي، وهي التي تلزم الكواكب على السير في مدارات محددة، والنجوم على التجمع في مجرات وهي أيضاً قوة لانهائية في مداها، وتدعى حاملاتها المتوقعة بالغرافيتونات (من Gravity أي الثقالة) وهي عديمة الكتلة أيضاً.

أما القوة النووية الشديدة، فهي المسئولة عن ترابط نوى الذرات ومداها قصير جداً 10-15 وتدعى حاملاتها بالغليونات (من Glue أي غراء) وكتلها كبيرة جداً (زهاء 100 كتلة بروتونية). القوة النووية الضعيفة هي المسئولة عن التفكك الإشـعاعي للنظائر المشعة وعن التفاعلات النووية في قلب الشمس، وهي قوة مداها قصير جداً 10-12 وتدعى حاملاتها بـ Z و W+ و W- وهي ذات كتل كبيرة جداً (تبلغ زهاء 80 كتلة بروتونية في حالة W و 90 كتلة بروتونـية في حالة Z).

لكن لماذا كانت القوتان الكهرومغناطيسية والثقالية لانهائيتين في مداهما وحاملاتهما عديمة الكتلة، في حين كانت القوتان النووية الشديدة والضعيفة ذات مدى قصير جداً وحاملاتهما ثقيلة جداً بالمقارنة مع كتل جميع الأجسام دون النووية المعروفة? وهل للكتلة علاقة بمدى القوة? وإذا كانت الكتلة هي التي تحدد مدى القوة، فما هي الآلية التي تحكم هذه العلاقة، وما هي القوانين الناظمة لها?

في عام 1959م، قدم محمد عبدالسلام من إمبيريال كوليج في لندن وستيفن وينبرغ من هارفارد بشكل مستقل نظـرية مفادها أن هذه القوى الأربع ما هي إلا بقايا قوة واحدة انكسر تناظرها منذ الأزمنة المبكّرة للكون، فاكتسبت خصائص متخالفة أتت تلقائياً. وفي عام 1962م نشر شلدون غلاشو من هارفارد ورقة اعتمدت على نظرية عبدالسلام - وينبرغ تنبأت بوجود الجسيمات الحاملة W و Z، لكن ذلك كله لم ينل تجاوباً مرضياً من الميدان العلمي، فثبطت هممهم وقال عبدالسلام: (إن تناظراً مكسوراً يكسر قلبك).

لكن سرعان ما تم اكتشاف هذه الجسيمات فعلاً في عام 1978م في مسرع ستانفورد الخطي، فنال الثلاثة جائزة نوبل عام 1979م عن هذه النظرية التي استطاعت توحيد القوتين الكهرومغنطيسية والنووية الضعيفة في قوة واحدة اسمها القوة الكهرضعيفة. ولايزال العلماء يبحثون عن نسخة توحد كل هذه القوى في قوة واحدة في نظرية أطلق عليها اسم نظرية كل شيء.

ويشرح محمد عبدالسلام هذا الانكسار التلقائي للتناظر من خلال مثال بسيط: تخيّل قبعة مكسيكية مطلية بلون متجانس، ولا يوجد على سطحها أي رسم أو إشارة، وأن على قمة هذه القبعة توجد كرة مطلية بلون واحد أيضاً وبلا إشارة أو رسم على سطحها. فإذا قمت بفتل هذه القبعة حول محورها العمودي، فإنك لن تلاحظ أنها قد دارت سواء أنظرت إليها جانبياً أم نظرت إليها من الأعلى، وهذا عائد إلى تناظرها الدائري. لكن هذا التناظر - كما يقول عبدالسلام - قلق لأن الكرة لن تظل ساكنة عند رأس القبعة إذا تركناها لشأنها، بل لابد أن تسقط تلقائياً نحو إحدى الجهات، وهذا المكان الذي ستستقر الكرة فيه اعتباطي ولا يشترط له أن يحوي أي ميزة عن سواه من المواضع المرشحة لسقوط الكرة إليها، فإذا شبّهنا القوة البدائية التي كانت متناظرة خـلال الأزمنة المبكّرة للكون بهذه القبعة قبل أن ينكسر تناظرها بسقوط، يمكننا القول إن تلك القـوة لم تكن مسـتقرة، فانكـسر تناظرها معطـياً للقـوتين الشـديدة والضعيفة كتلاً كبيرة على حسـاب القـوتين الباقيتين بشـكل تلقـائي لا يميز مجـموعة عن أخرى.

ويعرف العلماء الآن أن فهم أسرار اللاتناظر سيؤدي إلى فهم أعمق لأسرار هذا الكون قد يفوق في أهميته أكبر الثورات العلمية. ونحن نقول كما قال هرتز بخصوص تناظر معادلات ماكسويل الكهرومغنطيسية: (إن هذه المعادلات الرياضية تعلم أكثر مما نعلم، بل وأكثر مما يعلم مَن كتبوها).

 

مروان صبحي عريف

 
 




التناظر يظهر واضحا في الأعمدة والأقواس





لوحة الموناليزا





البارثنون اليوناني