شِعريةُ العمقِ الفكري وجاذبيةُ الجمال الشِّعري رُؤية في شعر أدونيس ومجالاتِ إبداعاته

شِعريةُ العمقِ الفكري وجاذبيةُ الجمال الشِّعري رُؤية في شعر أدونيس ومجالاتِ إبداعاته

  يُشكل الشاعر العربي الكبير أدونيس حالة فريدة في مسارات الشعر العربي من جهة وفي مسارات الفكر العربي أيضًا على اختلافات رؤاه وتعددية المقاربات التي أنجزت حوله من جهة أخرى. وهو إلى هذا، يعتبر أحد كبار الشعراء والمفكرين في العالم أجمع. جمع بين كتابة الشعر ونقده، وبين التفكير في التراث العربي ومحاولة استنطاقه، وبين تبني الأفق الحداثي الكوني مع مناقشته سواء على مستوى الرؤية التي تحكمه أو على مُستوى تمظهراته الثقافية في مختلف تجلياتها الفكرية والسياسية، الاجتماعية والفردية.

 

ونظرًا لمكانته العالمية الكبيرة في ميدان الشعر والفكر والثقافة، فقد تمت عملية دعوته أستاذًا أكاديميًا زائرًا إلى العديد من الجامعات ومراكز البحث، سواء في فرنسا، حيث يقيم بشكل دائم، أو في سويسرا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو في ألمانيا وغيرها من باقي بلدان العالم. كما أنه قد استطاع أن ينال كثيرًا من الجوائز العالمية وأن يحظى بألقاب التكريم الكبيرة، وقد حظيت أعماله سواء الإبداعية منها أو الفكرية بالترجمة إلى العديد من لغات العالم وفي مقدمتها اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية واللغة الألمانية واللغة الإسبانية وغيرها من باقي اللغات العالمية. وقد نشر الشاعر أدونيس العديد من الدواوين الشعرية والكتب الفكرية التي خلفت وراءها الكثير من الإعجاب، كما أثارت أيضًا العديد من المناقشات، نذكر من بينها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي: «قصائد أولى» و«أغاني مهيار الدمشقي» و«كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» و«مفرد بصيغة الجمع» و«أول الجسد، آخر البحر» و«وراق يبيع كتب النجوم» و«المطابقات والأوائل»، وهو الديوان الشعري الذي سنتوقف عنده في هذه الدراسة. 

1- بنية العنوان وانفتاحية الدلالة
يتكون عنوانُ هذا الديوان الشعري «المطابقات والأوائل» من كلمتين تنتمي كل واحدة منهما إلى حقل معجمي ودلالي يختلف عن الآخر. فكلمة «المطابقات» تُحيل إلى عملية الجمع بين شيئين على حذو واحد، أو هي الجمع بين الضدين في كلام واحد، كما هو الشأن في الجمع بين الليل والنهار، وبين السواد والبياض وما إلى ذلك، أو قد تعني أيضًا المشابهة الكلية بحيث يمكن القول بأن هذا الشيء يطابق هذا الشيء في كل شيء. وهو ما تُشير إليه جملة «نسخة مطابقة للأصل». وهو ما يجعل من المطابقة تُحيل كذلك إلى التشابه الشديد، بل إلى التشابه الكامل بين الذوات أو بين الأشياء. أما بالنسبة لكلمة «الأوائل»، فهي تُشير إلى البدايات، بداية كل شيء، وهما معًا، ترتبطان بواو العطف، وهو أمر يجعل منهما يتكاملان في بناء وتشييد عوالم هذا الديوان الشعري، على اعتبار أنهما معًا تُشكلان بينة العنوان، وتفتحان أبوابه على تأويلات مختلفة ومتعددة، على حدّ ما ذهب إليه الباحث الفرنسي جيرار جنيت في دراساته للعتبات النصية، وفي مقدمتها عتبة العنوان. 
إنّ الشاعر العربي الكبير أدونيس يعرف كيف يختار عناوين كتبه لاسيما الدواوين الشعرية منها، جاعلاً منها مرايا رمزية عاكسة لما يُريد التعبير عنه من خلال وبواسطة الشعر. وهو في كل هذا يبقى كما هي عادته شاعرًا كبيرًا في أفقه الشعري الكوني وفي تجليات رُؤاه الإنسانية العميقة.
من هُنا فالشاعر أدونيس يعرف تمام المعرفة كل أغوار الشعر سواء العربي منه أو الغربي، وهو في هذا الأمر، يحفر عميقًا في أرضه ويرمي ببذوره الشعرية فيه كي تنبث أزهارًا حقيقية تمتد من أقصى حدوده إلى أبعد مما يمكن الوصول إليه مما يجعلُ منه شاعرًا مُفردًا لكن بصيغة الجمع.

2 - أدونيس وعُمق الكون الشعري 
يفتتح الشاعر أدونيس ديوانه الشعري «المطابقات والأوائل» بقصيدته الشعرية الشهيرة «قصيدة ثمود»، وهي إشارة منه إلى هذه القبيلة العربية المعروفة، والتي اتخذها هنا، قناعًا لبعض المجتمعات التي يمكن أن تكون شبيهة بها في صفة من الصفات، لاسيما وأنها كانت قبيلة كبيرة وذائعة الصيت، ولم تستمع إلى ما جاء به النبي صالح إليها، بُغية أن تبتعد عن الظلمات وتلج إلى عالم النور، بل أبعد من ذلك، فقد عقر أبناؤها ناقته التي كانت هي آيته إليهم. وقد استحضرها أيضًا الشاعر العربي القديم أبو الطيب المتنبي في شعره، وجعل منها هو الآخر رمزًا لكل القبائل العربية التي كان يرى أنها تمثلها والتي كانت تعيش في عصره. وهي من أشهر قصائده الشعرية التي جرّت عليه المتاعب. 
أما بالنسبة للشاعر أدونيس فهو يبدأ قصيدته الشعرية هاته بقوله «رجع القول إلى أحوال ثمود»، وهو ما يشير إلى أن حديثة هذا قد جاء بعد أحاديث عديدة سابقة عنها، وهو حين يعود للحديث عنها، فذلك يكون من أجل أن يقول فيها شيئًا جديدًا، ربما من خلالها يقدم صورة رمزية لها، تجعلها تظل حاضرة في وجدان المتلقي وتدفع به إلى التفكير فيها وفي مختلف أحوالها. ومن ثمة التفكير أيضًا في كينونته انطلاقًا من ذلك، وفيما يُحيط به من عوالم تشغل الحياة في كليتها وتتجاوز بالتالي حدود الذاتية بغية الوصول إلى آفاق الكونية. 
بعد ذلك، يلج الشاعر أدونيس إلى عالم قبيلة ثمود، فهو عالم مليء بالتوتر وبالجراح، عالم ضبابي، يتم فيه البحث عن إمكانية بزوغ ضوء آت من بعيد، آت من شمس غير مرئية. من هنا، يظل الأمل حاضرًا، ذلك أن الورد يدل على هذه الأرض، كما أن «الفجر الصاعد في درجات الشمس يدل عليها، وشفافية الحزن المرسوم على قسمات الناس، تدل عليها» بالرغم من أن الشاعر لم يستطع أن يتعرف عليها، على الأقل، في بداية تواجده فيها، هو الطالع من «أغوار لا يذكرها» على حد تعبيره الشعري العميق. طبعا الشاعر أدونيس هنا، لا يتكلم عن نفسه باعتباره شاعرًا خارجيًا عن عوالم نصه الشعري هذا، وإنما يتكلم في هذا النص الشعري باعتباره صوتًا فاعلاً ومنفعلاً داخل عوالم هذا النص الشعري وباعتباره راويًا وبطلاً في الآن نفسه. 
إنّ الشاعر هنا، وهو يتقمص دور الراوي والبطل، يعترف بأنه حين ولج إلى هذه الأرض، أرض ثمود، لم يعرف على حد تعبيره، «كيف يعمر من أشلاء الآخر بيتًا، كيف يُجاهر أن الدمية حُبلى بالأطفال، وأن الدفلى تمْر»، وهو في كل هذا، كأي إنسان راءٍ مليء رغم كل الآلام، بأمل وهاج ينبعث في داخله، ويدفع به نحو آفاق جديدة. إن الشاعر هنا، رغم هذا الجرح الذي يكبر داخله، هذا الجرح الذي يكبر بين العالم والكلمات، يغامر بالمكوث في أرض ثمود، واصفًا أحوالها وتحولاتها. 
إن الشاعر يصف كل الدمار الذي حلّ بهذه الأرض، ولكنه يصر على التشبث بالأمل، ويبقى من «أجل لغات أخرى، ومن أجل أزمنة أخرى» لابد أن تأتي ولابد أن يشع النور فيها. هكذا يُخاطب هذه الأرض موجها النداء إليها على الشكل التالي: «أعطيني زندك، يا هذي الأرض المسبية/ وارميني في موج الأسرار/ ولكن دون حجاب/ كي يرقمنا / ويصورنا/ ويوشينا/ ويشي بمدانا/ ويشي بخطانا/ نساج أو نمام/ كي نستوشي جري الريح/ استوصينا/ خبرا بنبات ينمو». 
نرى أن الشاعر هنا يتحول إلى راءٍ يُنادي الأرض المسبية، ويدعوها إلى النهوض، لأنّ هذا النهوض هو قدرها الأبدي، ولأنّ قدر الشاعر هو أن يدفع بها إلى هذا التحول الإيجابي. يأخذ الشاعر هنا دورًا رسوليًا بامتياز، دورًا تموزيًا يدفع بالأرض إلى العودة إلى الانبعاث من جديد. تقول الناقدة ريتا عوض في كتابها «أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث» عن الشاعر أدونيس، ما يلي «يُعدُّ أدونيس من الشعراء الرواد الذين لعبت الأسطورة دورًا كبيرًا في نتاجهم الشعري وكان لأسطورة الموت والانبعاث أهمية خاصة في شعره فقد عانى أدونيس قضية الموت في مستوياتها المختلفة: الفردي والقومي والإنساني» (ص 134).
إن الشاعر أدونيس وهو يبني هنا عالمًا شعريًا مليئًا بالتحولات، سواء على مستوى بناء الكون الشعري برمته، أو على مستوى عملية توظيف الاستعارات المتعددة والرموز المختلفة، أو حتى عملية اختيار الحروف والكلمات، والقدرة على توظيفهما داخل بنية قصيدته القوية هاته، فإنّه يكون بذلك، شاعرًا يحمل في ثنايا وجدانه رؤية كونية تتعدى المستوى الذاتي لتصل إلى المستوى الجمعي، وتتعدى المستوى المحلي لتصل إلى المستوى الكوني. هكذا، فإنّه قد استطاع عن طريق هذا الشعر أن يُحلق بالمتلقي بعيدًا في الأفق الحداثي المنفتح على كينونة الإنسان وعلى طموحاته وأحلامه، وأيضًا على جروحه العميقة وآلامه اللامُنتهية.
من هنا، تتحول صورة الشاعر نفسه من كونه حامل رسالة إلى كونه حامل رؤيا، وحامل راية الانبعاث في بعده الميتافيزيقي والجمالي أيضًا. وهو ما يدفع به إلى القول على هذه الطريقة الشعرية القوية والفاتنة في الآن نفسه، واصفًا ذاته وكأنه شخص آخر، فالأنا، كما يقول الشاعر الفرنسي الشهير أرتير رامبو، هي شخص آخر. 
يقول الشاعر أدونيس في هذا الصدد ما يلي: «هو ذا الشاعر - كان ينام غريبًا/ والفجر غزال/ جسد الأرض يُداعبه/ والشمس تخيط له/ ثوبًا قمحيًا/ - ماذا يفعل؟ - يلقي عن كتفيه النوم، ويمضي.../ هو ذا يمضي.../ ماذا؟ خانت عينيه الأشياءُ؟ رأى / قدم النورس ضفدعة؟ / ورأى الزهرة وجه عجوز؟ /ماذا يفعل؟ / - يرجو / وجه غزال آخر/ وجه الأرض يرافقه / والشمس تخيط له/ ثوبًا قمحيًا». 
نلاحظ في هذه العلاقة المتوترة بين الشاعر وبين هذه الأرض أن معاناته هي معاناة دائمة، فالشاعر هو دائمًا يحمل جمرة الرفض داخله، ويعانق وردة الأسئلة الكونية باستمرار. وهو في كل ذلك، يتجاوز محنته الذاتية بغية الوصول إلى تشريح المحنة الكونية، والغوص فيها حتى تتم عملية تجاوزها. وعملية التجاوز هاته يجب أن تكون جماعية لا فردية، يجب أن تكون شرقية وغربية في الآن نفسه، أو بمعنى آخر يجب أن تكون كونية وأن تتم بشكل شفاف يمنح الحرية للكل بأن يراها بعيونه، وحتى بوجدانه وهو الأساس، وهو ما يطمح الشاعر إلى الوصول إليه عن طريق الكلمات. يقول الشاعر هنا ما يلي: «أحمل بين يدي، وبين خطاي بذورًا / والكلمات هي الكلمات/ حمائم حينًا/ وصقور حينًا/ وخمائر حينًا/ ولهذا/ يتغير شعري كالأشياء/ ولهذا/ أسكن زوبعة الأشياء». وتبعًا لكل هذا، فإنّ أحزان الشاعر ليست أحزانًا فردية، وإنما هي أحزان في عمقها أحزان جماعية. يقول الشاعر مُعلنًا عن ذلك، ما يلي: «أحزاني ليست أحزاني/ هي جرح ينزف من تاريخ الإنسان/ هي أرض تدفع قربانًا/ للظلمات وللطغيان».
هكذا يُشيّد الشاعر أدونيس عالمًا شعريًا عميقًا يؤسس به لأسطورة الموت والانبعاث، ويحلق به ومن خلاله مثل طائر فينيق حقيقي يتجدد باستمرار ويرمز بتجدده اللانهائي إلى استمرارية هذه الحياة وهي تُعلن عن وجودها في هذي الأرض التي تتعرض للموت، وتستطيع مع ذلك أن تتجاوزه بشكل كلي ودائم، وهو ما نراه يتحقق أيضًا في كل قصائد هذا الديوان الشعري العميق، وفي مقدمتها كل من قصيدة «البهلول» وقصيدة «بابل». 
يبدو الشاعر أدونيس في ديوانه الشعري هذا، وكأنه يسعى لخلق عالم جديد، عالم رمزي بالتأكيد، لكنه عالم مليء بالحياة، تلك الحياة المبحوث عنها باستمرار. إنّه يبحث عن طريق جديد لبناء تاريخ رمزي آخر، ويقدم للأرض في مفهومها الرمزي العميق، كتابًا كونيًا، هو كتاب الحياة بامتياز. كتاب لا يمكن أن تكتبه إلا لغة كونية تتجاوز الحدود، حدود الممكن/ العقل، لتصل إلى حدود المستحيل وأقاصي الجنون، ذلك الجنون الخلاق.
يعلنُ الشاعر أيضًا الحب على امرأة مجهولة، امرأة فاتنة، وذلك في قصيدته «قداس بلا قصد»، حيث يقول: «يا من سماها حبيبته/ وأنكِ عادة أهدابه/ بعد ذلك، وإلا ومهما يكن». الحبيبة هنا هي امرأة ولغة وأرض ورغبة جامحة في الوصال. من هنا، فالشاعر يتحول إلى «أفق يتزين بشهواتها». 
وبعد هذا، يسافر الشاعر بعيدًا في قصيدته «مراكش - فاس، والفضاء ينسج التآويل» إلى كل من مدينتي مراكش وفاس، مُستحضرًا من خلال هذا السفر الواقعي والشعري جمال هاتين المدينتين المغربيتين الجميلتين والعريقتين، ومقدمًا قراءة في التاريخ من خلال هذه الزيارة التي قام بها صحبة مجموعة من أصدقائه من الكتاب المغاربة المعروفين: عبداللطيف اللعبي وعبدالكبير الخطيبي ومحمد بنيس، وهو يقدم لهم التحية من مدينة أصيلة ومن مدينة طنجة أيضًا.  
أما في قصيدته «المطابقات» والتي تتكون من مجموعة من المقاطع الشعرية القصيرة، كل مقطع منها يحمل عنوانًا خاصًا، فهو يغوص في ثنايا الكتابة، وفي أوقات الشعراء ورؤاهم، وفي تحليل الأسماء ودلالاتها وفي مقاربة التجربة الشخصية وفي مسألة الجنون والتيه، وفي الاقتراب من عالم الأطفال وتصوراتهم وفي صداقة الأشياء وغير ذلك. 
 وفي قصيدته الكبرى الأخرى المعنونة بهذا العنوان الدال «الأوائل»، يقف الشاعر أدونيس عند أول الأشياء وأول الجسد وأول الشعر وما إلى ذلك، ومن خلال تساؤلات فلسفية عميقة يمنح لهذه الأشياء، التي يقترب منها، معنى مضاعفًا، أو ما يمكن أن نطلق عليه معنى المعاني، هذا المعنى الكلي الذي يبحث بدوره هو الآخر عن دلالة جديدة. وهو أمر يوحد ما بين الشعر والفكر بحيث يجعلهما يلتقيان في رحابه بشكل لا انفصام له.

على سبيل الختام 
هكذا يمضي الشاعر أدونيس في رحاب الشعر الكوني متسائلاً باحثًا عن كنه الأشياء، وذلك من خلال عملية تشييد لعوالم شعرية رمزية، تعتمد على طرح الأسئلة ولا تسعى لتقديم أجوبة حاسمة عليها أو حولها. فالشاعر يبني هنا عوالمه الرمزية هاته وذلك من خلال عملية بناء شعري عميق يعتمد على الاستعارات ويغوص في أعماقها، ويرتكز على الأساطير الكبرى محاولاً استنطاقها ومنحها تأويلاً جديدًا يصلها بالأفق الشعري الكوني في تعدديته وفي أبعاده الإنسانية العميقة ■