الشِّعْرُ وَالذَّاكِرَةُ

«الذاكرة هي الفكر ذاتُه، من حيث هو يحيا ويدوم» (برغسون)
لا غرو في أنّ الشعر ممتدّ في اللاشعور الفردي والجمعي، باعتباره خزّانًا لذاكرة الأمم، وحضارتهم ووجودهم، ويحبل بالرموز والعلامات والأساطير، ومن ثمّ فالشعر والذاكرة يشكّلان جسدًا واحدًا، مادام الشعر روح الذاكرة، وهذه الأخيرة زاد الشعر الذي به يؤسس وجوده الرمزي. الأمر الذي يجعل تناول الصلة الرابطة بينهما؛ انطلاقًا من رؤية تفاعلية لا تفصل بينهما، لكونهما العمود الفقري لتشكّل الهوية وتحقّق الكينونة بشقيها المادي والمعنوي، أمرًا يتسم بالالتباس والتحفيز لمقارعة هذه الإشكالية. مما يطرح العديد من التساؤلات التي قد تضيء جوهر هذه الرابطة. وتكشف عن التواشج العميق بينهما.
لهذا نثير الأسئلة الآتية: ما الذي يجمع الشعر والذاكرة؟ وكيف يمكن أن نفكّ معادلة الشعر والنثر؟
1- الذاكرة والشعر:
ثمة علاقة وشيجة بين الذاكرة والشعر، فالأولى باعتبارها جمّاع الحاضر والمغيّب، وهي بيت الذات والوجود، وبدونها لا تستقيم كينونة الإنسان، ولعل هذا ما جعل الشعوب والحضارات، في القِدَم والآن، تعطي لهذا أهمية جديرة بالتأمل العميق والمتروّي، لإدراك قيمة الذاكرة الكنف الحاضن للمشترك بين الناس، فهي مستودع الزمن الماضي، بعبارة أن الماضي كائن موجود بشكل ما، ومتجسد عبر الآثار والصروح، العمران والحكاية كتراث شفوي يزخر بعبور الإنسان، وكذلك الماضي موجود في النقوش والمنحوتات والرسومات الخالدة في الكهوف والغيران، ومن ثمّ فالأمم الباقية الممتدة هي المالكة لذاكرة جمعية تحافظ عليها وتصونها عبر التعبير عنها، بوساطة الأجناس الأدبية، ومنها الشعر الذي عُدّ ذاكرة الإنسانية. فبوساطته انفتحنا على أشعار هوميروس وعاشرنا آلهة اليونان وأساطير المجتمعات الغابرة، إضافة إلى قدرة هذا النمط التعبيري على حماية الذات من الاندثار، إذ أرّخ كيانها باللغة والمتخيّل، وعلى الوقوف على تاريخ العرب في زمن الجاهلية وكذا العصور القادمة، فبالذاكرة نبني المنسي والمهمل، وما وقوف الشاعر الجاهلي على الطلل؛ إلا دليل على الرغبة في بناء المنسي عبْر اللغة والخيال والمتخيّل الجمعي والفردي، فالأثر الجلي كامن في هذا المزج بين صورة البيت المنهار وصورة المرأة، التي تزرع فيه الحيوية والحركية والحياة، بل هي منبع الإشراق والبهاء والجلال، وبرحيلها تفقد الذات وجودها، ومن ثمّ كينونتها. هذا الوضع يدفعه إلى التعبير عن هذا الفقدان بالبكاء، الذي يثوي دلالة التطهير من هذا الإحساس باللاجدوى مادام الآخر/ المرأة دخل باب الغياب، ويكون حضوره حقيقة ومجازًا.
2- الشعر والنثر العلاقة الملتبسة:
إن للشعر والنثر وشيجة عميقة منذ الأزل، فالوجود في بدايته كان إيقاعًا شعريًا؛ تخلقه الكائنات عبْر بث الحياة في الطبيعة الحية والجامدة، فالأصوات والحركات الساكنة والمتحركة كانت كافية لتحويل الوجود إلى نغم هائل بنوتات مهموسة لا تدركها إلا آذان الغارقين في متابعة حفيف هذه الكائنات بالإنصات الرهيف لذبذبات إيقاع الحياة؛ ومجهورة حيث العواصف والرياح والبروق وسقوط الأمطار، ونقيق الضفادع وهديل الحمام، وعواء الذئاب وصهيل الخيول، وخرير المياه وثغاء الأغنام، ومواء القطط وشقشقة العصافير تجعل الوجود أكثر حركية من خلال الإيقاعات الموسيقية التي تحدثها.
ومع تمدد الجغرافيات الكونية بدأ الشعر يخفت صوته فاسحًا المجال للنثر كي يرسم خرائط جديدة في الكتابة والإيقاع، فتغيرت الذائقة وانزاح الشعر عن الوزن لخلق إيقاع يتصادى مع النثر، وغدا بملامح منثورة يبدع وجوده نظرًا لما جرى من تقويض لوزن العالم والإنسان، فجاء الشعر مسربلاً بالنثر، وهذا الأخير يتنفس شعرًا، ليصبحا كيانًا واحدًا مع بعض التميز الذي يسري على الشعر دون النثر. إن الزواج الحاصل بين الشعر والنثر قائم الذات ويشكل هوية الجنسين الإبداعيين، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة قراءتهما في ظل هذه العلاقة، فإن عدنا إلى الشعر العمودي نلمس فيه هذه الدمغة النثرية في الكثير من القصائد، والتي تتحول في الكثير من الأحيان إلى نظم مما يفقد خصيصة الوزن عليها، ويدخلها باب النظم في درجة الصفر، والعكس نجده في النثر، إذ بفعل النسج المحبوك والاتكاء على المحسنات البديعية يمنح النثر طاقة إيقاعية هائلة.
3- النثر: الأثر والظلال:
والنثر، في صلبه، لا يعطي الأولوية لباطن الألفاظ وإنّما شغله الشاغل توظيف اللغة في مستواها الدلالي القريب، ويتعامل مع اللفظ تعاملاً ينحو صوب الظاهر، مما يطرح سؤالاً مرتبطًا بقدرة النثر على أن يحمل في طيّاته بعدًا إيقاعيًا لا وزنيًا، وهذا السؤال يقودنا إلى التأمل في الصياغة النثرية التي قد تشحن اللغة بطاقة الإيقاع.
من هنا يمكننا الحديث عن التوظيف الجمالي والتركيبي للألفاظ من حيث كل المسوّغات التعبيرية التي تحقق ذاك البعد الإيقاعي، والنص القرآني - باعتباره نصًا لغويًا - مجال خصب لمثل ما أشرنا إليه، فهو حمّال للإيقاع بتجلياته المختلفة، حيث نجد نصوصًا مترعة بهذا الملمح الإيقاعي المنثور، وبجماليات النسج التعبيري الذي يخرق الكثير من المواضعات النحوية، الشيء الذي حيّر وأربك ذائقة كلام العرب، ولعل هذا الخرق - المزج بين النثر والشعر (من حيث كثرة الانزياحات) - ما يسمح لنا التأكيد على التداخل الحاصل بين الجنسين، ويفضي إلى حقيقة أن التمييز بينهما يبقى في حكم النسبي لا اليقيني. في المقابل نجد الشعر يبتعد كل البعد عن النثر اعتمادًا على الكيفية التي يتعامل بها النثر مع اللغة، ذلك أنه (الشعر) لا يرتهن إلى اللغة الطبيعية، بل إلى اللغة المارقة عن المألوف إلى لغة اللامألوف، أي اللغة التي تجترح أسلوبها النابع من تكسير بنية الجملة، ببناء أساليب مخالفة للعرف النحوي المبسَّط إلى عرف تركيبي يحدث الدهشة ويخلق المفاجئ والمغري لذوي الذائقة المحنّطة.
وفي هذا السياق، وحتى وإن كان الاختلاف بين الشعر والنثر واضحًا، فإنهما يظلان في وشيجة متداخلة يستحيل الفصل بينهما، فلا نظم ولا نثر، ففي النظم نثر وفي النثر نظم، وتلك حقيقة أشار إليها الكثيرون من البلاغيين والنقاد. من هذا المنطلق يمكن القول إن ما يبدع من نصوص شعرية لا تخلو من هذه السمة الإيقاعية، حتى ولو ادّعت لنفسها قدرتها على تجاوز الإيقاع إلى ما هو جمالي فني، من حيث المبنى والمعنى، إذ نهجت نهج إعطاء الأهمية للجانب التصويري، وتقويض بنية الجملة الشعرية من حيث الانفتاح على لغة اليومي والحياة، ولا نتحدث عن النصوص التي تفتقد للماء الشعري، بوساطة شحن اليومي بطاقة لغة خارجة عن الأعراف الأسلوبية وخارقة لها.
ويبقى الشعر والنثر كنمطين تعبيريين يشكلان ذاكرة الإنسانية، فهما على الأقل يحفظان أثر الإنسان على هذه البسيطة الممتدة في آفاق بعيدة، وعبوره المخلد باللغة كوسيلة لقول هذا العبور والأثر. فلولاهما لن تستطيع البشرية كتابة الحضور قبل الغياب. والنصوص الدينية، من إنجيل وتوراة وقرآن، مرآة للغة في أجلّ تجلياتها، ذلك أنها عبّرت عن أحداث ماضية في حكم الزوال، لكنها أحيتها عبْر الكتابة بمسحات شعرية ونثرية، ومن المستحيل تجاوز هذه العلاقة المتينة بين الكتابة والذاكرة، فالأولى تجسيد الثانية بواسطة اللغة التي تحوّلها إلى كيان مشيّد بالخيال والمتخيّل كمشترك بينهما، ولاغرابة في الأمر فإن الذاكرة مستودع للوقائع والتجارب التي يمرّ منها الإنسان، وهذه التجليات تعجن باللغة لتغدو كتابة تحتفي بالذاكرة، وتجعلها أكثر حضورًا واستمرارية. أليست الكتابة لها القدرة على إظهار الذاكرة بلبوسات تعبيرية تؤرخ للعبور، للحضور، للأثر والظلال، بعيدا عن الآني والعابر، عن السطحي والمبتذل، قريبًا من الدائم والعميق، من الجوهري والمنافي للظاهر، من الأبدي والممتد في الفكر الإنساني، والكاشف عن المدهش والغريب، عن الفاتن والجليل. وبالتالي لابد من القول إن الكتابة حاضنة الذاكرة، التي تمثّل عاملاً من عوامل تحفيز الكتابة على المغامرة والسير نحو المناطق التي لم يتمّ كشفها واكتشافها، والحفر عميقًا في طبقاته العميقة.
على سبيل البداية:
لاشك أن الذاكرة هي الأخرى تمثل الطاقة التي تشحن الكتابة بالحياة والتوهج، من خلال بذر بذور التداعي الذي يعدّ وسيلة لاستنطاق الكتابة، ومجابهة النقصان، ومقاومة النسيان، إنهما معًا وجهان لعملة واحدة، عملة الرغبة في اقتحام المسكوت والمحرّم، الكشف عن الظاهر في تجاور للباطن، والحفر في المناطق المعتمة من الذاكرة لإضاءتها عبر الكتابة، والبحث الدائم عمّا يجعل الذات في ارتباط بالواقع بطرقٍ تعبيرية لا تكرّره بقدر ما تقوم بعملية تكريره لتشكيله في صور إبداعية تضفي عليه طابعًا جماليًا وفنيًا، وتمنحه الاستمرارية في الذاكرة الإنسانية.
هكذا يمكننا التأكيد على الوشيجة المتينة، التي تصل بين الكتابة والذاكرة، فهما معا يُجسّران بعضهما البعض ويلتحمان، فالذاكرة تشكل الزاد الحقيقي لكل كتابة تروم قول المغيّب والمنسي، الظاهر والمخفي، وتحافظ على بصمة الإنسان في الوجود، فلا كتابة بدون ذاكرة، ولا ذاكرة بدون كتابة ■