عذوبة الشاعرية وروعة الخيال!! دراسة أدبية في ديوان «غناء الماء... حكايات شعرية» للأديب مهند العاقوص

هناك سؤال قديم لا يزال يطرح نفسه، ما هو الأسبق لعقل ووجدان الطفل: الشعر أم القصة؟ وهناك آراء كثيرة لبعض النقاد والباحثين تؤكد على أن القصة هي الأقرب إلى الطفل، لكن أرى وعدد من الباحثين أن الشعر هو الأسبق من القصة إلى وجدان الطفل، فحينما يولد الطفل، وهو في مرحلة المهد تغني له أمه أغاني «المناغاة» و«الهدهدة»، مثل: «نام نام وأدبح لك جوزين حمام»، ولما يكبر قليلًا ويستطيع أن يخطو أولى خطواته، تغني له: «تاتا خطي العتبة... تاتا حبة حبة»، ولما تكبر البنت وتريد أمها أن تلاعبها، تغني لها: «لاعبيني وألاعبك... وأكسر صوابعك»... إلخ. هذه الأغاني الفلكلورية التي تنتمي إلى الشعر الخالص بإيقاعه وأوزانه العروضية، والطفل يولد مزودًا بالموسيقا والإيقاع فتراه يتمايل من تلقاء ذاته مع النغم والموسيقا، «يقول كثير من علماء الجمال وفلاسفة الإبداع بأن الطفل يولد مزودًا بحاسة سادسة يدرك بها ما في الأعمال الفنية من سحر وجمال... ويستجيب إليها... ويتوقف نمو الحاسة على مدى رعايتها وإرهافها للتذوق».
«لقد أدرك الشعراء – منذ كان الشعر - تأثير هذا اللون من الأدب على الأطفال... فالشعر يكاد يترجم حركات الطفل التلقائية... ولغته الأولى وأجهزة وعيه وشعوره... يستجيب له استجابات ممتعة حميمية».
وهذا لا يعني التقليل من قيمة القصة، التي هي من أحب الفنون والآداب للطفل، ولكن في مرحلة تالية لمرحلة المهد، فقد أردنا في هذه التقدمة أن نعيد للشعر حقه المهدر، بعدم إقبال الأسر على شراء دواوين الشعر لأطفالهم بزعم أن القصة أهم... وفي هذا السياق يأتي ديوان «غناء الماء... حكايات شعرية» للشاعر السوري مهند العاقوص، الصادر عن دار «نور المعارف» ليثبت بأن الشعر فن رفيع لا غنى عنه لأولادنا الصغار، فهو يرقق المشاعر، ويحرك الخيال والوجدان، ويطرب الآذان، ويمتع الطفل. والحكاية الشعرية، أو الشعر الحكائي - إن جاز لنا أن نسميه - هو أقرب أنواع الشعر إلى الطفل، فهو يتوفر فيه عنصرا الموسيقا (الإيقاع) والحكاية، وحينما يستمع الطفل إلى الحكاية الشعرية يأخذه الفضول لتكملة الحكاية لنهايتها.
يقع الديوان في اثنتي عشر قصيدة أو حكاية شعرية، تتنوع بين القصائد العمودية والتفعيلية، كتبها بلغة فصيحة وبسيطة وعذبة.
جمال اللغة
من عتبة الديوان الأولى، وهى العنوان «غناء الماء»، يحيلنا مباشرة إلى جمال اللغة، رغم بساطتها، فهي جملة مكوَّنة من مبتدأ وخبر، ولكنها صورة شعرية رائعة، علاوة على الجناس الناقص الذي أحدث موسيقا عذبة لا تقل عن الموسيقا المنبعثة من غناء الماء، فالماء حين ينسكب من المنحدرات يحدث خريرًا منتظمًا يشبه الغناء، وصوت سقوط المطر، أو جريان الماء في الجداول والأنهار بحرية وطلاقة، فهو أيضًا يغني.
حب العمل
في قصيدة «عندما جاع الدب» وهي قصيدة تحرض على حب العمل، وتنبذ الكسل، فقد تعلم الدب الصغير الكسول، من نشاط النملة الأصغر والأدق منه حجمًا لكنها تحب العمل والحركة الدؤوب... تقول القصيدة:
قال نملٌ قد هلك
خاملٌ يرضى الكسل!
كيف يأتيك السمك
دون جد أو عمل
راقب الدب الكسول
نملة بين السنابل
نال درسًا كيف يغدو
ناجحًا شهمًا وفاضل
صار مثل النمل يسعى
صابرًا نحو القمم
ليس بالأحلام نرقى
إنما الدنيا همم
هنا أراد الشاعر أن يعلم الطفل قيمة حميدة، وهي «حب العمل» ونبذ الكسل، وفي أحيان كثيرة يتعلم الكسول من الأصغر منه سنًا، وكما يدعو ديننا الحنيف إلى حب العمل، وكما يقال «إن العمل عبادة».
إعمال العقل والخيال
وفي الحكاية الشعرية «الفراشة المضيئة» وهي نوع من الفراشات كبيرة الحجم، بل هي من أكبر الفراشات في العالم، حيث تصدر أجنحتها ومضات مضيئة عند الطيران بين الأشجار، والقصيدة حوارية بين الطفل «سامر» وبين «الفراشة»، فقد دخل «سامر» إلى البستان ليلعب فوجد الفراشات تطير، والزهور الحمر تشرب من الغدير، وأعجبه منظر العشب الأخضر، وكأنه يركض ويركب قطارًا من أثير، وفجأة جاءه ضوء مذهب أغمض على إثره عينيه، وقال من؟ قالت له الفراشة: سنلعب، لعبة اللغز المثير، وقالت له: إن فسرت لغزي (أحجيتي)، سأمنحك تاج مملكتي، وأجنحة ملونة ومضيئة كأجنحتي.
وبالفعل ألقت عليه الفراشة لغزًا، ولأن «سامر» ذكي استطاع أن يحل اللغز، فمنحته تاج مملكتها، وأجنحة كأجنحتها، وقالت له: طر في السماء، وراح «سامر» يطير، ولكنه اكتشف أنه كان في حلم مثير وجميل، نائم في حضن أمه فوق السرير.
هذه (القصيدة/ الحكاية) تدعو الطفل إلى التفكير والتأمل، والاستمتاع بجمال الطبيعة ومفرداتها، مثل الشجر والورد، والأزهار، والفراشات، والعشب الأخضر... إلخ. جاء اللغز على لسان الفراشة رغم غموضه الظاهرى، فإنه يحتاج إلى التفكير قليلًا كي نهتدي إلى الإجابة الصحيحة، تقول الفراشة:
أنا ساق بلا ساقِ
ودمعي ملء أحداقي
أنا البحر أنا الساقي
وسري طي أعماقي
تمص الكف أعناقي
فأبكي فوق أوراقي
فمن أنا؟
وفيه دعوة إلى التفكير وإعمال العقل والخيال..
«فكر سامر قليلًا ثم أجاب»:
حل اللغز «قلم» ساحر
فهو بيدي كنزٌ فاخر
أرسم بحرًا، أكتب شعرًا
أحلم أبدًا بغدٍ زاهر
ومن ثم يتضح قيمة «القلم» لنرسخه لدى الطفل، فهو مثل الساحر نستطيع به أن نرسم بحرًا وأن نكتب شعرًا، ونحلم معه بغد زاهر، لأن القلم هو «رمز» للنجاح في مسيرة العلم، وبه تتحقق الأحلام.
قالت الفراشة:
أنت يا سامر ذكي
هاك تاج الأذكياء
خذ جناحي يا فطين
طر وكن ابن السماء
وجاء ختام القصيدة رائعًا، وقد وفق الشاعر فيه تمام التوفيق، حينما يقول:
كنت في أحضان أمي
نائمًا فوق السرير
حين ضمتني إليها
خلتني طيرًا يطير
فحين ضمته أمه تخيل نفسه طيرًا يطير، وكأن حضن الأم الذي نشعر فيه بالحنان والأمان، معادل للحرية والطيران في السماء.
ثم اختتم بقوله:
أنت يا أمي الفراشة
حولك النور يسير
أنت في قلبي مليكة
وأنا صيرت الأمير
فشبه الشاعر الأم بالفراشة المضيئة، التي تشع من حولها وميضًا ونورًا لتنير الطريق لابنها، وتعتبر الفراشة رمزًا للجمال والحرية، ورؤية الفراشة في المنام تحمل دلالات إيجابية متعددة، منها: تحقيق الأمنيات وفتح أبواب جديدة، ورزق وفير... فالأم في قلب «سامر» هي المليكة، وهو بها الأمير... قصيدة عذبة ورقيقة برقة الفراشة، تحمل ملامح الأوبريت القصير، والقائم على الحوارية، مليئة بالتشبيهات والصور الشعرية البسيطة، والقوافي المتشابهة التي تحدث موسيقى رائعة، تجذب أذن الطفل وتطربه.
أهمية العلم والقراءة
وفي قصيدة (عندما بحث القندس*) يعلي الشاعر من قيمة العلم والقراءة، ويوجه الأطفال بشكل غير مباشر لقيمة القراءة والثقافة في حل المشكلات التي يتعرض لها الإنسان في بيئته التي يعيش فيها.
«فالقندس» هنا معادل للإنسان المثقف، التي جعلته ثقافته مميزًا وحكيمًا، وهنا تلجأ حيوانات الغابة إلى «القندس» في حل مشكلة جفاف النهر...
قال قندس لا تفروا!!
بيتنا لا لا يعاف!
قندس جد السؤال
عن حلول المشكلات
دار في دنيا الخيال
صاح إن الحل آت
وراح يبحث عن الحل في بطون الكتب، مرات كثيرة أخفق، ولكنه لم ييأس في الوصول إلى الحل، بل واصل جهده حتى وجد حلًا للمشكلة، فصفقت له أيدي الحضور إعجابًا وتقديرًا لجهده وعلمه، فقد أنقذهم بفكره من الجفاف...
بعد ليل ونهار
صفقت أيدى الحضور
شاهدوا خير ابتكار
إن بعد الليل نور!
قندس قد ساد سدًا
فاحتفى بالماء ماء
إنما الأبحاث أجدى
درب عز للسماء
هذه القصيدة لا تختلف عن سابقيها من قصائد الديوان من حيث اللغة العذبة المنتقاة، وجمال الصياغة، وسهولة التعبير بمفردات بسيطة لا تتعالى على قاموس الطفل، علاوة على أنها تعلم الطفل أهمية الحصول على المعلومات من بطون الكتب، وهذه دعوة غير مباشرة للقراءة في الكتب بعدما هجرها أطفالنا، لصالح الميديا الحديثة والتكنولوجيا، التي ربما أفسدت حياة الكثير منهم، لسوء تعاملهم مع هذه الميديا.
لي ملاحظة وحيدة على القصيدة وهي اختيار الشاعر لحيوان «القندس» وهو ليس معروفًا في بيئتنا العربية، بل هو يعيش في أمريكا الشمالية وأوربا، خاصة وأنه أيضًا من الحيوانات المضرة، فكان الأولى به أن يختار حيوانًا آخر ليس غريبًا عن البيئة، وليس مضرًا.
الحلم والأمل:
ولأن هذا الديوان متعدد الأغراض، فكل قصيدة تعبر عن جانب من جوانب الحياة، وتعلم الطفل شيئًا جديدًا، أو تساعده على فهم مفردات البيئة من حوله... ففي قصيدة (جدتي ربيبة) وهي من القصائد التفعيلية البسيطة والجميلة، وهى تتحدث عن نبات الحصرم «وهو العنب في أوله قبل أن ينضج ويصبح حلو المذاق»، فيشبهه الشاعر بالطفل الصغير الذي ينام في السرير ويشتاق إلى حضن أمه، ورغم أنه لا يزال «حصرمًا» إلا أن لديه أحلامًا كبيرة بأنه سيكون في المستقبل القريب - حينما ينضج في الحقل - حلو المذاق، ويصنع منه الشراب، والمربي، وغيرها من الأشياء الجميلة، ويصبح مفيدًا للصغار والكبار، وهنا دعوة للحلم والأمل في غد أفضل.. تقول القصيدة:
في حقلي الأحلام
سأصبح عنب
وثوبي الذهب
أو أرتدي الأحمر
فأصنع السكر
للطفلة الصغيرة
أسكب العصير
وأسكن الوعاء
مربي كالدواء
بلا أدنى شك، أن أدب الأطفال شعرًا ونثرًا من وظائفه بث بعض المعلومات، لتوعية الطفل وتأكيد معلوماته خاصة في المراحل العمرية الأولى، المهم أن تبث هذه المعلومات بفنية وفي قالب جمالي بعيدًا عن التقريرية التي قد تفسد جوهر الفن، دون أن نشعر الطفل بأننا نعلمه، خاصة في فن الشعر الذي يعتمد على الخيال بدرجة كبيرة، وهذا ما فعله الشاعر هنا بوعي من خلال قصائد الديوان.
الفرح والسعادة
تميز هذا الديوان للشاعر مهند العاقوص بجمال الصياغة، وعذوبة اللغة، وتعدد أغراضه الشعرية، وتقديم وجبة دسمة لكنها سهلة الهضم، ففي آخر قصيدة في الديوان (الليمور المسرور) وهو «القرد الراقص الذي يدخل البهجة والسعادة إلى قلوب حيوانات الغابة»، ولكن بعض الحيوانات سخرت منه ونادوه بأسماء غير اسمه مما أغضب هذا الليمور، فترك الغابة، واختفت البهجة والسعادة بغيابه، ولما نما إلى سمع الليمور أن الغابة تبكي، عاد كالريح إلى غابته وموطنه كي يمارس دوره في إسعاد الآخرين، وهي قصيدة رائعة، تنبذ «التنمر» والسخرية من الآخرين، وعالجها الشاعر بفنية فهو أشار ولم يفصح، وهذه سمة من سمات الفن الجيد... تقول القصيدة:
لست سعدانًا أو قرد
سخروا منه حتى هج
صار الغاب دون بهجة!
الغابة أم مقهورة
تبكي كالجرة المكسورة
ليمور كان في السيرك
يهدي الفرحة للأطفال
سمع صوت الغابة تبكي
عاد كالريح في الحال
كالطوق صار الأصحاب
حول الليمور المسرور
وتنفس صوت في الغاب
أنت الفرح ياليمور
● قندس: جنس حيوان مائي لبون من الفصيلة القندسية ورتبة القواضم. يعيش في أمريكا الشمالية وأوربا. عريض الرأس، قصير الخطم، صغير الأذنين. له ذنب طويل مفلطح. قدماه الخلفيتان كفيتان. لونه أحمر قاتم. مشهور بفروه، يتغذى بقشر الشجر والنباتات العشبية وهو من الحيوانات الضارة. يسكن جماعات في بيوت يبنيها من أغصان الأشجار والطين لها مداخل تحت الماء ■