الروائي المغربي أحمد المديني: الرواية عالم كامل يُبنى بهندسة وعتاد ثقيل وعمالة ماهرة

الروائي المغربي أحمد المديني:  الرواية عالم كامل يُبنى بهندسة وعتاد ثقيل وعمالة ماهرة

يشغل الروائي المغربي أحمد المديني موقعًا مهمًّا على خريطة الثقافة المغربية، واستطرادًا العربية، وهو موقع تضافرت في صنعه عوامل عدة، بدءًا من النشأة في بيئة ثقافية يُصغي فيها إلى حوارات الفقهاء ورجال المعرفة في البيت الوالدي، مرورًا بدراسته الأدب على أيدي شيوخ وأساتذة أجلاء في المغرب وتخرجه في كلية الآداب في نهاية الستينيات من القرن الماضي، ومتابعة دراساته العليا في فرنسا، ما شكّل نقلة نوعية في حياته الثقافية والمهنية، وانتهاءً بانفتاحه على الحضارة الغربية يغرف من مَعينها ما يضيفه إلى مخزونه التراثي العربي، ناهيك بالعمل في الصحافة والسياسة والتدريس الجامعي. وخلال هذه المراحل المتعاقبة، راكم المديني، طيلة نيّفٍ ونصف قرن، أكثر من سبعين مؤلفًا في الحقول المعرفية المختلفة، ما جعله جديرًا بالموقع الذي يشغل، وجعل من الضرورة بمكانٍ أن نجري معه هذا الحوار: 

 

● ولدت في أسرة ربُّها خرّيج جامعة القرويين. ولعلها من الأسر القليلة التي كانت تمتلك مكتبة للقراءة وراديو لسماع الأخبار وغراموفون للأسطوانات، وحضرت جلسات الوالد الثقافية مع أقرانه، في مرحلة مبكرة من العمر. كيف انعكست هذه النشأة على مسيرتك الأدبية الطويلة؟
 - التربية العائلية وبيئة الطفولة لها دائمًا أثر قوي في التنشئة الأولى وما يليها من أطوار الحياة. وقد أتيح لي أن أولد في بيت علم وتقوى وحب للحياة، أيضًا، بالبهجة والرضا. حرص والدي منذ ميعة الصبا على متابعة تعليمي مع إخوتي وواصل هذا الحرص في السنوات اللاحقة، وإن ترك لي الحرية لأدرس وأجتهد بإرادتي، لقد زرع الرّوح ونفخ فيها، وانتبهت لمن يعاشر ويزور بيتنا من فقهاء ورجال المعرفة من أهل مهنته في القضاء والدراسة بالقرويين، وكم جلست بينهم أسمعهم بعد قراءة الحزب والأذكار يحاجون بعضهم ويتناظرون في مسائل فقهية ونوازل شرعية واستشهادات شعرية والحجة بين أيديهم عند الخلاف، كتُب الوالد في خزانته، فإني - مثلاً - اطلعت على كتاب: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» للمقري وأنا طفل، وكذلك على أمهات كتب الفقه، ومختصر الشيخ خليل، وصغارًا حفظنا أطرافًا من ألفية ابن مالك والمعلقات، وفي البيت نسمع ترتيل القرآن وأغاني كوكب الشرق، الحق لا أعرف كيف تغلغل هذا في نفسي وكمَن إلى أجل، ماء جوفي تفجّر يومًا ينبوعًا بإذن ربّه، يؤتيِ العلم من يشاء.
● تنزع، منذ نعومة إصداراتك القصصية والروائية، نحو التجريب، وتخرج عن التقليد والمعيارية المتحكمة في التلقي، لا سيما في مجموعتك القصصية الأولى «العنف في الدماغ» 1971م، وفي روايتك الأولى «زمن بين الولادة والحلم» 1974م. فإلى أين أفضى بك هذا النزوع التجريبي المبكر؟
- يعيدني سؤالك إلى نصف قرن ونيف خلفي. تخرجت من كلية الآداب نهاية الستينيات، درست على أيدي شيوخ وأساتذة أجلاء مشارقة ومغاربة، أغلب المتون التراثية المسكوكة، وقليل حديث غذيته بفضولي وبحثي الشخصي عن كل ما يصدر من أدب جديد. ما زلت أذكر كيف كنت أقطع كيلومترات مشيًا من الحي الجامعي إلى مكتبة صغيرة في قاع المدينة لأفوز بنسختي من مجلتي الأديب والآداب، ومجلة «حوار»: قرأت فيها النسخة الأولى من «موسم الهجرة إلى الشمال» ومجلة «شعر» ليوسف الخال، والروايات الفرنسية من كتب الجيب، أقتطع ثمن هذا من ميزانية طعامي ومواصلاتي، ومضيت على هذا سنوات من عمري. لكي تكتب الجديد وتغامر فيه عليك أن تعرف القديم وتتمثله ما استطعت، قد نلت منه يومئذ بما يحتاج إليه الأديب المتعلم في العربية حسب شروط ابن الأثير، ولم يكفني، هذا جموحي مع أبناء جيلي ونزوعنا إلى التمرد السياسي والرفض مطلقًا امتد إلى الكتابة لا أذكر متى وكيف انسقت إليها اللهم أني كنت قارئًا نهِمًا منذ صباي ويفاعتي بذاكرةٍ حافظةٍ كاسحةٍ لا يفوتني نثر ولا شعر، ولأمر ما لم أقتنع بالتصوير الواقعي الذي وجدته في الرواية والقصة القصيرة حسب اطلاعي، والأغلب لم ينسجم مع فورتي ورغبتي في اختراق ما حولي مجتمعًا وسلطةً وقيمًا مستقرةً وأدبًا متحكِّمًا في بلادنا بقوة الرسالة والدعوة للالتزام، أردت أن ألتزم بملء ذاتي وطاقتي وخيالي الجامح ولأختلف بوعي في لغتي وأسلوبي ومخيلتي ورؤيتي عن المتداول في أدب زمني، فكان هذا بعض فهمي وممارستي للتجريب في الكتابة والحياة، أيضًا. علمًا بأن التجريب ليس هو نزقُ الكتابة وتطليقُ القواعد طرًّا، إنه بحث أول عن أسلوب وطريقة للتعبير بشكل مختلف.
● بين روايتك الأولى «زمن بين الولادة والحلم» 1974م، وروايتك الأخيرة «درب الحاجب 36» 2024م نصف قرن، أصدرت خلاله: 17 رواية، 15 مجموعة قصصية، 5 كتب رحلية، 9 نصوص أدبية، 4 مجموعات شعرية، و20 دراسة أكاديمية ونقدية، وهي حصيلة غنيّة بكلِّ المقاييس. كيف تُقيّم مسيرتك الأدبية الغزيرة والمتنوّعة، وهل جاءت الغزارة الكمّية على حساب النوع؟
- هي مسيرة وصفتها بنفسك، وهي كذلك. لم أقصد الكمّ، شرعت في الكتابة والنشر منذ العشرين، وكنا في المغرب قلةً غامرت في الأجناس الأدبية الحديثة بحسٍّ تأسيسي مغاير وتجريبي، ونعرف ما هي مقوّمات الأدب. عملت في الصحافة والسياسة، والتدريس الجامعي مبكرًا هو مهنتي ففرض علي مواصلة التكوين وتحضير الشهادات اللازمة والثقافة العتيدة، نهلت منها وأعددتها بين المغرب وفرنسا، حيث حدثت لي نقلة نوعية فيها وتحولت بجد إلى كاتب وأكاديمي. طيلة عقود اعتبرت الأدب شغلي الشاغل، بعد أن لامسته هواية، وهذه مغامرة في بلدان القيم الثقافية والإنتاج الرمزي فيها ضعيفة الاعتبار والمردود، لكنك تحتاج إلى الإيمان والإرادة والمثابرة، تقودك موهبة ينبغي أن ترعاها وتحترمها بثقافة وصقلٍ دائمين وفهم المجتمع والذهاب أبعد من العابر المُعطى والاستشراف من منظور الوعي بالتاريخ وبمخيلة مشتعلة. هكذا منذ مطلع السبعينيات بدأت بالقصة القصيرة تجريبيةً وسرت في دربها بموازاة رواية من صنفها، وثالثة «وردة للوقت المغربي» صدرت مطلع الثمانينيات في بيروت، وتواصل إنتاجي بين هذين الجنسين يتوسطهما المقال النقدي والدراسة النظرية التي صارت عمادًا رئيسًا في مثلث عملي بحكم الاختصاص الأكاديمي والمواظبة على القراءة. صرت قارئًا محترفًا وهذا تعريف الناقد عندي، إنه يتفاعل مع النصوص بالتلقّي الإيجابي ويُحييها بالملاحظة والتأويل، أي القراءة العالمة. بين القصِّ والرواية والشعر والنقد والدراسة الأدبية ثمّة روح واحدة تحقق الانسجامَ والتكامل واللحمةُ هي فكرة التجديد، وربط الأدب بجاذبيتي التعبير عن مشاعر وحاجات الإنسان الممكنة والمحتملة، والارتباط بهدف التغيير المستمر وحيوية العصر، أي بالمستقبل. أزعم أن هذه الأدوات والمعاني احتاجت إلى كمّها وزكاها نوع مشهود به.

لكل مرحلة ظروفها
● في سيرتك الثقافية التي تصدّر بها كتابك «في حداثة الرواية العربية»، تأخذ على النقد الأدبي العربي، منذ منتصف القرن العشرين، أنّه كان «تلميذًا منضبطًا ونجيبًا» للنقد الغربي، وأنّه «يمشي على خطى أسلاف، يُعوِز أصحابه ذكاء وفضول طرح الأسئلة والقراءة بعيون واقعهم هم». فهل ما تزال على هذا الموقف بعد سبعة عقود ونيف من تلك البداية؟
- رصدتُ لا آخذت. لا يحق للاّحقين مؤاخذة السابقين على نهجٍ أو منهجٍ اتبعوه، فلكلّ مرحلة ثقافية أدبية ظروفها وشروط تكون إبداعها ونقدها. ولد نقدنا الأدبي الحديث مساوقًا وإمّا ملتحقًا بموضوعه، وكلا المتنين متحا من منهل واحد، الغربي، كما تجاذبا بين قديم لم يمُت وجديد قيدَ الولادة، وقد كانت عسيرةً، بل ما تزال. بعد أن تركنا أو تخفّفنا من إرثنا اللغوي البلاغي الإيقاعي الأجناسي الخاص في نقد الشعر والنثر، طفق النقد الحديث وهو في أطوار التعلم والتهيكل يطبق قواعدَ ويستعير معايير َومفاهيمَ يضعها على نمط نصي حديث بدوره ويريد أن يُخضعه له، وكم غلبت في هذه المرحلة أحكام القيمة على حساب تبلور مناهج التحليل الرصينة الهادئة، ذلك أن أدبنا الحديث نشأ وترعرع، أيضًا، في خضمّ فورات سياسية وتأثيرات أيديولوجية، فجاء مزدوجَ الرؤية والغرض، أي لا أدبيًا هجينًا. عمومًا، لم يكن لنا خيارٌ آخر غير الاشتغال بالمصطلحية والمنهجية الأجنبية لأننا منذ البداية دولاً ومجتمعاتٍ وثقافاتٍ أمةً كاملة ربطنا شرط خروجنا من الجمود والتخلف بالالتحاق بركب المدنية الغربية ونماذجها التحديثية، وهي كل لا يتجزأ، الفكر والأدب بقوالبه وتعبيراته المختلفة مظهر لها. لقد أمضينا أزيد من قرن على هذا المنوال، وحين تراجعت المناهج الفيلولوجية والتاريخية والموضوعاتية في النقد والدرس الأدبي الغربي بالانتقال إلى إبدالات (براديغمات) لسانية بنيوية سيميائية منذ الستينيات وصعدا، التحقنا بها بفارق عقدين وبعدتها وأدواتها أخذنا نفكر أدبيًّا ونقرأ النصوص. نحن دائمًا وفي كل المجالات نعمل وننتج إن أنتجنا في مساحة التفاوت (the shift) وحين نتكلم عن الحداثة لا نعرف إلا نسبيّا وعمومًا موضوعها ومعناها نرتديها حلّةً مستعارةً ولا نملك أنساقها. لهذا وغيره نحتاج إلى قدر كبير من النباهة والتواضع والوعي التاريخي، والثقافة النقدية، حين يوجد بيننا من يتنطّع منا بالانزياح والاختراق والحداثة ومثلها عندنا من قواقع فارغة، وأن نكتب ونفكر ونبدع بأسئلة من عندنا وفي الوقت نحيا ما أمكن في قلب عالم أوسع لا يعيرنا، من أسف، اهتمامًا؛ أن نواجه من جديد سؤال من نحن؟ 
● لقد خضت في حقل الدراسة النقدية من موقعين اثنين؛ جامعي مخصوص، وحرّ منفتح على الذوق الذاتي وتعدّد المناهج. ولكل من الموقعين أدواته وآليات اشتغاله. فهل يُؤدّي الانطلاق من زاويتين مختلفتين إلى النتائج نفسها، وكيف يمكن أن يتصاديا في الدرس النقدي؟
- تعلم جيدًا الفرق بين الحقلين والطريقين. الأكاديمي محكوم بسنن وضوابط منهجية وتوثقية مرجعية ومصطلحات دقيقة ولغة مقصدِية واستخلاصات نسقية، لا دخل فيها للذوق، والرأي الشخصي تأمل نظري يحتاج إلى السّند القوي. هو تحليلٌ وتأملٌ لا يقبلان أو يتحمّلان أحكام القيمة. في النقد الأدبي خارج النسق الأكاديمي نتمتع بحرية أكبر من ناحية الأدوات والمرجعية والسّند النظري، ونستطيع أن ننزل الرأي الشخصي بل هو من أشكال وأشراط هذه الكتابة وحكم القيمة من طبيعتها، لكنها لا تعني إلقاءَ الكلام على عواهنه، كلا، المقالة النقدية فكرةٌ واعية ولها حسب موضوعها قاموسُها ولكل ناقد منهجٌ في التحليل وبدونه فهو يبعثر انطباعات عابرة. ولي تجربة في الحقلين، وبالتأكيد الأكاديمية أدقّ وأشقى، وأمارسها حسب البحث والمقام، وإن ملت في الفترة الأخيرة إلى النهج الثاني في قراءاتي للرواية والدراسات أُخضعها لما أسميه (قراءة الذائقة) وهي بشروط، وباعتبارها الثقافة النقدية مستوعَبة ومتمثلة وقد أصبحت ملَكة. 
● أنت تكتب الرواية، وتُمارس النقد. ولك في كلا الحقلين جولات وصولات. ألا تخشى أن يتدخّل أحدهما في شؤون الآخر خلال الكتابة، وبالتالي، أين ينتهي الروائي في أحمد المديني،  وأين يبدأ الناقد، وكيف تتمظهر العلاقة بينهما خلال انكبابك على كتابة الرواية أو ممارسة النقد؟
- منذ بدأت الكتابة وأدركتني حرفة الأدب، تركت نفسي على سجيّتها، ثم طفقت أهذّبها وأوجهها مع تفكيري حسب الدروب الممكنة والمناسبة، لذلك كتبت في الأجناس كلها بلا تفرقة، وبالروح ذاتها، لا يتغير إلا القالب ومقتضياته، أنت الشاعر تعلم أن القصيدة لا تستشير بل تقتحم وعليك بعد ذلك أن تواصلها بالصّناعة؛ والقصة القصيرة تصطدم بها في منعطف ما أو وجه عابر فتهتبلها وتبنيها ليوجد الفرق؛ أما الرواية فبعد رؤية ما ووسواس هي عالم كامل يبُنى بهندسة وعتادٍ ثقيل وعمالة ماهرة وفنّك أنت الذي ينبغي أن تختص به. هذا كله مِراس ودُربة. نعم، الأدب نوع من الشطّح والصرّع، لكنه نظام وصناعة وسيطرة على أدواته زيادة على ما ينبغي أن تملكه وحدك، أسلوبًا، لغةً، صنعةً، أو لا داعي لتبقى في الزّحام. وحين تمارس النقد فهذه ملكةٌ ثقافيةٌ وشاقةٌ لكنها فاعلةٌ وممتعةٌ تعي فيها العمليةَ الأدبيةَ وتتبين قيمةَ نتاج الآخرين وتسمح لك بمراقبة ما تكتب والحركة في نظام. الناقد رقيبٌ ومنظم سير وأنت الروائي والشاعر تتمرد عليه إذا سجنك تنشد الحرية والاختراق أي الدينامية فما تلبث هذه أن تصبح بدورها نظامًا. ثم لا تنس ما قالته العرب قديمًا، إن لكل مقام مقالاً. أفكر أخيرًا في نوع الكاتب الناقد له أمثلة كثيرة في تاريخ الأدب يعي قوله وينظر له من داخله، بالميتا - خطاب أو الرأي مباشرة ضمن بنية القول السردي، خذ بورخيس وأومبرتو إيكو وميلان كونديرا، وأنا أفعل هذا في غير نص لي. 

الذكاء الاصطناعي لا يملك إحساسي
● تبيّن لي، من خلال الاطلاع على بيبلوغرافيا نتاجك الأدبي، أنّك أوليت «أدب الرحلة» اهتمامًا ملحوظًا، فأصدرت خمسة كتب في هذا النوع الأدبي. هل ترى أنّه لا يزال لهذا النوع قرّاؤه ومتابعوه في عصرٍ، بات العالم معه بحجم راحة اليد، وأصبح بإمكاننا استدعاء أيّ مكان حول العالم لزيارتنا بكبسة زرّ؟ 
- حين أعود من أسفاري وأجلس إلى مكتبي، لا أقول إني سأكتب تقريرًا أو «أدب رحلة». أكتب عن مشاعر عنّت لي فيها وتفاعلٍ بيني والأمكنة التي زرت والبشر الذي التقيت في نقاط تقاطع الإنساني، وحيث كل واحد يكتشف الآخر من منظور يوَسِّع الدائرة الإنسانية. لذا، أدب الرحلة عندي ليس وصفَ الأمكنة وفولكلور الشعوب، قد تسجل هذا جزءًا منه فتطلع القراء على ما لا يعلمون. إنما أعلم أنك تطلعهم على ما رأيت أنت بالذات سيختلف عن غيرك وهذا لا تقدمه الكاميرا ولا كبسة الزّر ولا الذكاء الاصطناعي الذي لا يملك إحساسي وهواي ونزواتي، ومهما أوتي من مقدرة لن يرسم العالم الذي ذهبت إليه كما رأيته وعشت فيه وشعوري الشخصي إزاءه، لأنني في الرحلة سارد وهويتي رحالةٌ وأعيد تقديم الخارج الذي زرت من داخلي وهذا يحبه القراء لأنهم يحبون الدهشة والجديد.
● أُتيح لي في السنوات الأخيرة أن أطّلع على عدد كبير من الروايات المترجمة عن لغات أجنبية، ومقارنتها بالرواية العربية في بعض تجلّياتها الحديثة، واستنتجْتُ، بنتيجة الاطلاع والمقارنة، أنّ الرواية العربية لا تقل روائيّةً عن الرواية الغربية، واستطرادًا العالمية. فهل تشاطرني الرأي وكيف ترى، أنت المقيم في العاصمة الفرنسية والمواكب للحركة الأدبية فيها، منذ عقود، إلى الروايتين العربية والغربية في هذه اللحظة التاريخية؟
- للرواية الغربية والأجنبية عامةً، وهي روايات، أشكالها وأساليبها الراسخة والنمطية والمتجددة والتي ما فتئت تتحول من حقبة إلى أخرى بحكم التغيرات العامة. الآن، إنها جنس أدبي استقرّ بنماذجه وطرائقه وأعلامه، وجميع ما يسمى بالمدارس الفنية فيه تنتسب إلى الماضي وما عاد الروائيون معنيين أو مهوسين مثل العرب بتحقيق اختراقات وتحديثات في البنية الشكلية للسرد تعددت فيه الاختصاصات وأصبح كتابة أدبية ولا أدبية معتادة، والنصوص الرفيعة بأسلوب وحذق فنيين قليلة أو نخبوية وهي التي تحظى بالجوائز الأدبية، والأغلبية الساحقة التي تحقق المبيعات الهائلة (البيست سلير) تعنى بشيء آخر. بمعنى، أن الرواية التي ما زال الكتاب العرب يلهثون خلفها ويريدون تملكها، لأنهم مقلدون منذ البداية ونموذج تفوقهم غربي، هذه الرواية انتهت، لذا فهم يلاحقون سرابًا، والأفضل أن يكتبوا من وحي واقعهم ومحض مخيلتهم.  
● كيف ترى إلى الحركة الروائية في المغرب العربي بالمقارنة مع شقيقتها المشرقية اليوم؟
- كان التمييز والتفاوت ممكنًا ومبررًا في السابق، بين رواية مشرقية وأخرى مغاربية، بحكم أسبقية الأولى نشأةً وتطورًا جنسًا أدبيًّا معبرًّا عن معضلات مجتمع ومشاعرَ وزمن ذاهب نحو الحديث وواقع يتململ. نعم، في البدايات تتلمذ المغاربة على إبداع المشرق والغرب في آن واحد، وباختصار، لم يعد ملائمًا الحديث اليوم من عديد نواح عن تفوق أو تفاوت، هي حركةٌ روائيةٌ عربية كلية بالرغم من الخصوصيات المحلية البدهية للتجارب الموصوفة، ذات خصائص فنية مشتركة ورؤياها التخييلية ورؤيتها وهمومها الاجتماعية متقاربة، لاسيّما في الكتابات الناشئة الباحثة عن صيغ مختلفة للتعبير والخيال بعد أن ضاق بها الماضي والحاضر ولا أفق تستشرفه غير ذاتها والعدم ■