اللغة حياة.. كثرة تسمية الإناث باسم مذكّر لا تجعله مؤنّثاً

اللغة حياة.. كثرة تسمية الإناث باسم مذكّر لا تجعله مؤنّثاً

تحدّثنا في مقالة سابقة عن التوهّم اللغويّ، وأشرنا إلى كونه خطأ أو شذوذاً؛ كما تحدّثنا من بعد عن تذكير صفات الإناث وألقابهنّ، إذا كانت غالبة على الذكور، ودَفَعْنا القولَ بذلك؛ واليوم نعرض لحالة طريفة تكاد تجمع بين الموضوعة الأولى، وعكس الموضوعة الثانية، وهي توهّم التأنيث في العلم المذكّر، أو الزّعم أنّه غالب على الإناث، ومنعه من الصرف لذلك.

الحالة التي نقصدها هي اسم العلم «أَسْماء» الذي دُعي به كثير من الذكور، لكن دُعيتْ به الإناث أكثر. وفي حالة تسمية الذكور به نجد محقّقين كبارًا يمنعونه من الصرف أو يتحاشون تحريك همزته؛ وقد أكدّ أكثر اللغويّين القدماء منعه من الصرف. وهنا الإشكاليّة: تقول القاعدة إنّ الاسم المذكّر، إذا سمّيتْ به أنثى مُنع من الصرف للعلميّة والتأنيث، لكن إذا سُمّي به من بعد ذَكَرٌ، لم يُمنع من الصرف لأنّه عاد إلى أصله المذكّر، نحو: دلال وثواب؛ ولا يُمنع من الصرف، في هذه الحالة، إلاّ العلم الموضوع للمؤنّث، والزائد على ثلاثة أحرف، مثل سعاد وزينب؛ وعلى ذلك نصّ سيبويه. وتسمية الذَّكَر بجمع مذكّر لا يمنع الاسم من الصرف؛ يقول سيبويه نفسه: «إذا سمّيتَ رجلاً خُروقًا أو كِلابًا»؟ أو جِمالاً، صرفته في النكرة والمعرفة، وكذلك الجماع كلّه؛ ألا تراهم صرفوا أنمارًا وكِلابًا»؟ وهو يعلّل ذلك بأنّ هذه الأسماء مذكّرة لا يختصّ أيّ منها بالمؤنّث. و«أسماء» جمع مذكّر فلا يجوز منعه من الصرف عند تسمية الذكور به، ومع ذلك منعوا صرفه، على ما قدّمنا. وتلك المفارقة جعلت اللغويّين يلوذون، على عادتهم، بالتأويلات:

1- فزعم بعضهم أنّ «أسماء» صفة مفردة على وزن فعلاء، وأَلِفها أصليّة، أو منقلبة عن الواو، وذلك يمنعها من الصرف.

2- وأكّدت فئة ثانية أنّها جمع اسم، مستندين إلى أنّ تصغيرها هو «سُمَيّة»، ولو كانت أَلِفها أصليّة لم تحذف. ونزيد أنّ الأَلِف لو كانت منقلبة عن الواو لم تحذف أيضًا، لأنّ المنقلب كالأصل. لكنّ بعض من ذهب هذا المذهب رأى أنّ الكلمة ممنوعة من الصرف لغلبة تسمية الإناث بها، الأمر الذي ألحقها، عندهم، بباب سعاد وزينب.

3- ورأت فئة ثالثة رأي الفئة الثانية، لكنها قرّرت، خلافًا لها، أنّ «أسماء» مصروفة، لأنّها جمع مذكّر مثل أثمار. ولا شكّ في أنّ الرأي الأوّل متكلّف وغير مقنع، ألجأ إليه انسداد المخارج، ولعلّ سببه أنّ سيبويه نفسه رأى الكلمة مفردة على وزن فعلاء، أي صفة، وذلك حين استشهد ببيت للشاعر الجاهليّ لَبِيد فيه ترخيم لأسماء بـ «أسْمَ»، أي بحذف الألف والهمزة. لكنّنا لا نعرف أحدًا من العرب استعمل كلمة أسماء صفة، لا بمعنى الوسامة ولا بمعنى آخر، وحتّى المعاجم لم تذكر أنّها صفة إلاّ عرضًا عند الكلام على كونها علمًا مؤنّثًا.

أمّا أصحاب الرأي الثاني، فليس تعليلهم المنع من الصرف مقنعًا، وذلك لسببين على الأقل:

أنّ الغلبة لا تمنع من الصرف، بل الاختصاص والتمكّن في التأنيث، بمعنى ألاّ يعرف الاسم إلاّ بالتأنيث، فهو موضوع له، مثل سعاد أو زينب اللتين لا تستعملان إلاّ علمين مؤنّثين، وإن رَدّوا اسم زينب إلى ضرب من الشجر طيب الرائحة. حتّى إذا جاء، بعد أمد، من أَطلق ذلك الاسم على بعض الذكور، اضطر إلى إبقائه ممنوعًا من الصرف لاعتياد الناس ذلك؛ أمّا حين يكون التأنيث عارضًا، ويشترك الإناث والذكور في التسمية نفسها، مع غلبة إطلاقها على الإناث، فلا يقتضي ذلك منعَ الاسم من الصرف إذا أطلق على الذكور، لأنّه مذكّر سمّي به ذكور، فهو علم مذكّر. فوداد، مثلاً، اسم تغلب تسمية النساء به اليوم، لكن لو سمّينا به رجلاً فإنّه يُصرف، فنقول، مثلاً: سافر أخوك ودادٌ.

وإنّ غلبة التأنيث أو التذكير على الاسم أمر تقديريّ صرف، ويحتاج إلى تحقيق شبه مستحيل، لأنّ أحدًا لا يستطيع معرفة الاستعمال الأوّل لأسماء الأعلام، ولا مستند يعاد إليه في إحصاء تلك الأسماء وبيان غلبة التذكير أو التأنيث عليها، وكلّ ما يعوّل عليه اللغويّون ذاكرتهم المتأثّرة بالنصوص الأدبيّة، لاسيّما الشعريّة، وفي الشعر يكثر التغزّل بنساء اسمهنّ «أسماء»، ويقلّ ذكر من اسمهم «أسماء» من الرجال.

يبقى أنّ الرأي الثالث هو الأصحّ، والأقدر على الإقناع، لأنّ «أسماء» ليس علمًا مؤنّثًا بالوضع، بل بالعرَض. ومع ذلك فلا نجد أحدًا يعمل بهذا الرأي اليوم. فقد راجعنا «صحيح البُخاريّ» الصادر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر، وراجعنا «موسوعة الحديث الشريف» الصادرة عن المجلس نفسه، والمنشورة على الإنترنت، وراجعنا كثيرًا من الكتب التي أخرجها كبار المحقّقين مثل عبد السلام محمد هارون، ومحمد أبي الفضل إبراهيم، فوجدنا أنّها تمنع «أسماء» دائمًا من الصرف، أو تترك تحريك آخرها.

وقد أحصينا عدد الرجال والنساء المسمّين «أسماء» في الحديث النبويّ الشريف (في الصحيحين وسنن أبي داود مثلاً) فوجدنا ثلاثة رجال بإزاء خمس نساء، أي نسبة ستة من عشرة؛ وأحصينا ذلك في كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حَجَر العَسْقلانيّ فألفينا أربعة عشر رجلاً بإزاء ثلاث وعشرين امرأة؛ أي نسبة تقارب سبعة من عشرة؛ وأحصينا ذلك في «خزانة الأدب» للبغداديّ فظفرنا برجلين بإزاء ثماني نساء، أي بكون الرجال ربع النساء. ولم نحص ما ورد في الشعر، للسبب الذي عرضنا له آنفاً. فلو استخرجنا النسبة الوسطيّة لهذه النسب الثلاث لاستنتجنا أنّ الرجال المسمَّيْن «أسماء» أكثر من نصف النساء اللواتي دعين بذلك الاسم، وهذا لا يسمح بالكلام على غلبة التأنيث، لأن الغلبة في النحو تقتضي وجود كثرة كاثرة تفرض القاعدة بإزاء قلة قليلة توحي الاستثناء والخروج عن تلك القاعدة، لا وجود نسبة تزيد على النصف؛ فكيف إذا كانت الغلبة لا تمنع من الصرف، بل يمنعه الوضع والتمكّن والاختصاص؟ ذلك أنّ تلك النسبة لا تؤدّي، عمليًا، إلى انصراف ذهن العربيّ إلى التأنيث كلّما نودي بأسماء، أو أراد أحدهم استعمال ذلك الاسم لغرض أو لآخر، بل تذهب إلى التأنيث إذا منعنا الاسم من الصرف، وإلى التذكير إذا صرفناه. والنتيجة أننا نفضّل التزام العرف وصرف الاسم المذكّر، مفردًا كان أو جمعًا، مثل «أسماء»، إذا جُعل علمًا لِذَكَر، ومنْعَه من الصرف إذا جُعل علمًا لأنثى، فهذا يسمح بالتفريق بين الذكور والإناث المسمّين بذلك الاسم.

 

 

 

مصطفى عليّ الجوزو