الحنين إلى الماضي عاطفة اجتماعية مفيدة

في لقاء إذاعي أعدته الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ذكرت الدكتورة كريستين باتشو - أستاذة علم النفس بكلية لوموين في سيراكيوز بنيويورك - أن مصطلح الحنين إلى الماضي - نوستالجيا - موجود منذ أكثر من ثلاثة قرون، وأصله الحنين إلى الوطن؛ ومع مرور الزمن امتد معناه إلى فكرة الشوق إلى جوانب من الماضي الشخصي أو افتقادها.
تقول د. باتشو، المتخصصة في موضوع الحنين إلى الماضي، إن هذا الشعور الرقيق - الحنين - قادر على توحيد أنفسنا، فهو يحفزنا على تذكر الماضي في حيواتنا الخاصة، ويوحدنا مع ذواتنا الحقيقية ومع ما كنا عليه، ويجعلنا نقارن ذلك بما نحن عليه اليوم وبما نشعر به في اللحظة الراهنة، فنرى أنفسنا بصورة كلية في رحلة لا تتوقف من التطور والتغيير. وهو قادر أيضًا على ربطنا بأشخاص آخرين كانوا - وبعضهم لا يزال - في حيواتنا، كالآباء والأمهات، والأهل، والأصدقاء، والجيران، وزملاء الدراسة، وزملاء العمل، وغيرهم ممن تفاعلنا معهم في مواقف ومناسبات عديدة، ولم ننسهم ولم ننس ما خبرناه معهم. وهكذا يكون الحنين إلى الماضي عاطفة اجتماعية صحية، على الرغم مما فيها من مرارة تأتي من علمنا، علم اليقين، أنه ليس بإمكاننا استعادة ما راح منا إلى الأبد من لحظات، وأيام، وأعزاء، لكن إلى جانب مرارتها، فيها حلاوة تعوض، تكمن في قدرتنا على عيش ما مر بنا مرة أخرى - بمخيلاتنا وبمشاعرنا - وهو ما يواسينا، ويساعدنا على تخطي وجع الشوق والفقد.
التغيير مهدد والحنين علاج
يريحنا الشعور بالحنين إلى الماضي عندما ينالنا التغيير، الذي عادة ما يكون مرهقًا ومخيفًا، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، وكثيرًا ما يصعب علينا استيعابه، لأنه يحدث على مستوى نفسي عميق جدًا، ويهددنا، لأننا لسنا متأكدين من قدرتنا على التحكم به بنسبة مئة في المئة - وفقًا لـ د. باتشو - فعندما تبدأ الأمور في التغير ونشعر باضطراب حياتنا الشخصية - كالمرور بأحداث كبرى، أو خبرات فارقة، كالتخرج، والالتحاق بعمل جديد، أو الزواج، أو الطلاق، أو العودة إلى مقاعد الدراسة بعد طول غياب - نلجأ إلى الماضي لنتذكر أنه على الرغم من جهلنا بما يمكن أن يحمله المستقبل، نعرف جيدًا من كنا ومن نحن الآن؛ ونطمئن مع ذكريات أوقات كنا محبوبين فيها دون شروط. ولابد أننا عشنا وسمعنا حكايات حول شريط الذكريات الممزوجة بالحنين إلى ما مضى، الذي يمر علينا في حفل تخرج ابن، أو زفاف ابنة، نتذكر فيه الصغار الذين كبروا وكفاح الحياة، والحلم الذي تحقق. فالحنين إلى ماضينا يجعلنا نتتبع تقدمنا وتقدم من حولنا عبر مراحل الحياة.
ووفقًا للدراسات الحديثة التي ركزت على الجوانب الإيجابية للحنين، أنه يمكن أن يكون علاجًا في عدد من الحالات - على خلاف نظرة سابقة كانت تراه ضربًا من المرض والاضطراب - فعندما يضربنا الاكتئاب، يمكن أن نعيش الحنين إلى الماضي فنحصل على دفعة معنوية قوية - كما يقول د. تيم ويلدشوت، الأستاذ المشارك بجامعة ساوثهامبتون ببريطانيا - الذي أظهرت أبحاثه أن الانغماس في القليل من الذكريات يقلل من الشعور بالوحدة، ويزيد الإلهام؛ ففي الذكريات السعيدة راحة من السلبية. وفي دراسة له طُلب من المشاركين الكتابة عن وفاتهم، وكان الذين عاشوا الحنين إلى الماضي أقل كآبة ممن لم يفعلوا. كما أن إثارة الحنين إلى الماضي لدى المصابين بالزهايمر بالأغاني المألوفة لديهم أو الصور القديمة تحيي الشعور بالذات الذي راح يتلاشى ببطء.
حنينان: شخصي وتاريخي
تؤكد د. باتشو أن لدى بعض الأشخاص نوع من الانتماء للأيام الخوالي لأسباب مختلفة، فنجد شخصًا تقدم به العمر، يشعر بالحنين الشخصي، ويتذكر كيف احتفل مع عائلته بالأعياد عام بعد عام، أو كيف كانت مدرسته في منتصف الخمسينيات الماضية. وآخر أصغر سنًا، من جيل الألفية الجديدة، يحن للفترة نفسها، ولكن ليس حنينًا شخصيًا، ولكن حنينًا تاريخيًا، حيث يكون الارتباط العاطفي، أو الشوق إلى أوقات في التاريخ تسبق ميلادنا، فنتوق إلى أزمنة ماضية، كالعصر الفيكتوري، أو حقبة من حقب التاريخ المنصرمة، على خلاف الحنين الشخصي الذي يجعلنا نشتاق إلى جوانب من حيواتنا عشناها فعلًا ونحفظها في ذاكراتنا، وتثير شعورنا بالبهجة. ومثلما يمكن أن يعيش بعضنا نوعًا من الحنين ولا يعيش الآخر، يعيش بعضنا الآخر الحنينين، ربما بنسب متباينة.
وغالبًا ما ينبع الحنين التاريخي من حالة عدم الرضا عن الحاضر. فإذا لم نكن راضين عن أوضاعنا الحالية، لأي سبب من الأسباب، نكون عرضة للشعور بأن الأمور كانت «أفضل في الماضي». وقد يأتي هذا الاعتقاد من قصص الأجداد، ومن وسائل الإعلام، والسينما، أو من قراءة الأدب. وقد نفتن بأوقات ارتبطت برومانسية عشناها، أو نتيجة لانطباعاتنا التي كوناها. فنحن ننتقي ذكرياتنا كما يحلو لنا، ونضفي عليها ما نشاء من تغيرات تطيب لنا. فيتذكر البعض منا جوانب سلبية لم تحدث مطلقًا، كأن يقول أحدهم إنه عندما كان طفلاً، لم يحبه والداه، ولم يقدما له ألعاباً، مزيفًا الحقيقة.
وترى د. باتشو أنه لا خوف من العيش في الماضي، إذا كان أفضل من الحاضر، فالدراسات أثبتت أن هذا لا يحدث؛ فمن منظور التطور الاجتماعي، من المنطقي أن نرغب في إعادة النظر في ماضينا حتى نتعلم منه، ولكن لا نريد أن نبقى فيه، وحتى لو أغرتنا حلاوته بزيارته، سرعان ما نعود أدراجنا، بمجرد إدراكنا أنه لم يعد موجودًا. فمن غير المرجح أن يرغب شخص ما في البقاء في ماضيه، وإذا وجد نفسه محاصرًا بماضية أو منزعجًا منه، فهذا يعني أنه يواجه صعوبة ما، ربما بسبب موقف غير محتمل في حياته، وقد يسعى إلى طلب مساعدة للتعامل مع هروبه غير الطبيعي إلى الماضي وذكرياته. وفي أغلب الأحيان، كما بينت دراسات د. باتشو، يكون الحنين إلى الماضي عاطفة اجتماعية مرتبطة بآليات تكيف صحية، كالبحث عن ملجأ مؤقت، أو إعادة النظر في الذكريات في محاولة تذكر كيف حل الآخرون مشكلاتهم المشابهة في الماضي، للاستلهام منها.
وفي ضوء أبحاث د. باتشو على جيل الكساد الأعظم ممن عانوا صعوبات مالية، وذكريات طفولة مليئة بالحرمان، وإجابة على سؤال: هل يؤثر ذلك على مدى حنينهم إلى تلك الأيام؟ قالت إنه اتضح أن ذلك يعتمد على أمرين: الشخصية، والسلامة النفسية، فإذا كان هناك شخصان سعيدان حقًا في حياتهما الراهنة وبحالة عاطفية جيدة؛ قد يتذكران أحداثًا سيئة ثم يضحكان عليها، ويكونان ممتنين أنهما قد قطعا شوطًا طويلاً في الحياة وتحسنت الظروف من حولهما؛ في حين أن شخصًا آخر يعاني من اكتئاب أو اضطراب القلق، مثلًا، قد يعود إلى الوراء ويفكر في الماضي ثم يشعر بمزيد من الإحباط، ولا تثير لديه المقارنة بالوضع الحالي أي شعور بالامتنان. لذا، عندما نجلس بمفردنا ونتذكر، من المهم أن نعي حالتنا المزاجية، لأن ذكرياتنا تتأثر بها - يتذكر الحزين ما يحزن، ويسترجع السعيد ما يسعد - هذا إلى جانب تأثير العنصر الاجتماعي، كأن نقضي وقتًا مع الأصدقاء ونتذكر أيام المدرسة أو الجامعة، أو أي شيء آخر، اعتمادًا على ما يقوله الحاضرون في هذا السياق الاجتماعي، فإما أن يكون أكثر ميلًا للإيجابية أو يتجه نحو السلبية؛ فالحنين إلى الماضي عاطفة اجتماعية قد يختلط فيها الجيد بغير الجيد.
وتنصح خبيرة الحنين إلى الماضي من تنتابهم مشاعر التوتر أو الوحدة أو الحزن، بجذب الأشخاص المحفزين على الاستفادة من أفضل ما يمكنك تقديمه إلى اليوم من الماضي. أي إذا كان هناك من يحبطنا على الدوام، بقوله: «هل تتذكر أيام الجوع؟ على سبيل المثال، فإنه يؤثر على عمليات استرجاع الذكريات لدينا، ومن المرجح أن نعيش الحنين إلى الماضي بصورته السلبية؛ وإذا كنا نقضي وقتًا مع أشخاص يضحكون على الذكريات المحرجة، فإن الجميع سيحبون مشاركة أكثر لحظاتهم إحراجًا. وفي تلك البيئة الاجتماعية المرحة، يشعر الناس بالرضا ويستخلصون الدروس المفيدة من الماضي، ويخرجون أفضل ما في مخزون ذكريات الحنين.
عدوى الحنين إلى الماضي
ولا تشك د. باتشو في أن الحنين إلى الماضي يكون معديًا بحضور أصحاب الخبرات المشتركة؛ وأفضل مثال على ذلك، حنين الأصدقاء لمغامرات الماضي، وحنين مشجعي الألعاب الرياضية إلى مباريات استمتعوا بها وفرحوا لفوز فريقهم المفضل. فالرابط المشترك ينشر العدوى، ويبدو الأمر كتداعي أحجار الدومينو، حيث تحفز ذكرى الأخرى. وعندما تغيب الخبرات المشتركة، ويتذكر شخص أحداث الماضي منفردًا، قد يثير ملل الآخرين، ولا سيما مع وجود فجوات بين الأجيال. وهنا علينا أن نتعلم مشاركة الآخرين بسؤالهم عن ذكرياتهم لتوسيع مجال الحديث وبناء جسور للتواصل والتعايش.
وحسبما تشير الدراسات، يرتبط الحنين إلى الماضي بمشاعر اجتماعية رقيقة جدًا - كالتعاطف، والإيثار - ومن غير المرجح، عمومًا، ارتباطه بالعداء أو الغضب؛ فإذا وجد شخص نفسه ضحية، أو ناجيًا من ظروف استثنائية، وحن إلى وقت سابق، ولم يتمكن من التواصل مع الآخرين بخصوص ذلك، ربما يفكر في نسيان ماضيه. ومن دراسات د. باتشو العلمية ما تناول تحليلاً لمذكرات أشخاص نجوا من دمار الحرب. وما أثار اهتمامها على وجه الخصوص أنه عندما كان يروي هؤلاء الأشخاص كيف كان عليهم التكيف مع ذلك التغيير المتطرف، حيث انتقل بعضهم قسرًا وأصبحوا لاجئين أو اضطروا إلى الهجرة. وكانوا يعانون نفسيًا في البداية مما حال دون تقبلهم للثقافة أو الحياة الجديدة، وكانوا يتخبطون في ذكرياتهم وحنينهم إلى الماضي؛ وشعروا بأنهم معزولون، بسبب عدم قدرة الآخرين على مشاركة هذا الجزء من حياتهم.
وعلى هذا، يقتضي النوع الصحي من الحنين إلى الماضي توافر جوانب اجتماعية إيجابية تعيد ربط الناس ليس بالأشخاص في ماضيهم فحسب، ولكن بمن يتعاملون معهم في الحاضر عبر استخلاص دروس الماضي والاستفادة منها في الحاضر من أجل مستقبل أفضل، كما يحن الزوجان لماضيهما معًا ويراجعان أحداث حياتهما لإصلاح حال العلاقة بينهما أو تعزيزها.
الحنين والعمر
تكشف د. باتشو عن حقيقة أن الحنين إلى الماضي لا يزيد في سن الشيخوخة، كما هو متوقع في مرحلة الشباب؛ وذلك لأن هذه الفترة انتقالية وفارقة في النمو، حيث تكون قدم في مرحلة الطفولة بينما تحاول الأخرى العبور إلى استقلالية البالغين. وفي الوقت الذي لا يزال فيه جزء بسيط من الهوية متوافقًا مع الماضي أو متصلًا به، فهم حريصون على المضي قدمًا، ولهذا السبب يتكرر شعورهم بالحنين إلى الماضي، لوجود قدر من التردد بسبب الخوف بشأن المستقبل - هل سيكون رائعًا وورديًا كالماضي - وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى زيادة في الحنين لدى الأكبر سنًا عندما يلاحظون تغييرًا كبيرًا في نمط الحياة مقارنة بما كانوا عليه عندما كانوا أوفر صحة وعافية. فالحنين في نهاية المطاف جزء من التجربة الإنسانية عبر الثقافات وعبر التاريخ؛ فمنذ آلاف السنين شعر الناس بالحنين إلى بيوتهم وأوطانهم على نحو ما، والدلائل في مختلف صنوف الآداب والفنون.
لقد عرفت د. باتشو بوضعها مقياس يبين مدى الاستعداد للحنين إلى الماضي، في ضوء تعريفها له بالشوق للماضي الشخصي أو افتقاده، تضمن أسئلة حول مدى افتقاد الناس لأشياء من ماضيهم، بعضها مجرد، كافتقاد براءة الطفولة أو افتقاد التحرر من تحمل المسؤوليات؛ وبعضها ملموس مثل افتقاد الألعاب أو الحيوانات الأليفة ■