رواية «موت صغير» ابن عربي بين مكابدات العشق والسفر

رواية «موت صغير» ابن عربي بين مكابدات العشق والسفر

لعل أول سؤال يتبادر إلى ذهن الدارس وهو يقرأ رواية: «موت صغير»، للروائي السعودي محمد حسن علوان هو: ما الذي يجعل من اتخاذ  سيرة محيي الدين ابن عربي موضوعًا للحكي  في رواية معاصرة؟ هل هي القيم الروحية التي بتنا نحتاج إليها لتخليق حياتنا المادية؟ أم الصراعات التي عاشها ابن عربي، بين الدين والسياسة، بين الجسد والروح، بين الهوية العربية والهويات الأجنبية التي واجهها متنقلًا من أقصى الغرب الإسلامي إلى شرقه...؟ أم هي المأساة التي عاشها في مواجهة الأنظمة الحاكمة، التي اضطهدت المثقفين، وكان هو  وابن رشد والسهروردي... من بين أبرز ضحاياها؟ 

 

  وإذا جاز لنا أن نحدد المحور الذي يؤطر الحكي في الرواية فيمكن القول إنه: السفر، بمفهومه الحقيقي وبإيحاءاته الرمزية المتعددة، فالرواية تحكي سيرة حياة ابن عربي عبر جملة الأسفار التي قام بها انطلاقًا من مولده بمرسية بالأندلس، إلى إشبيلية، وقرطبة ثم إلى مدن إسلامية كثيرة خارج الأندلس:  فاس، ووهران، ومكة، والقاهرة، وبغداد، وحلب، وملطية ودمشق...  وهو  سفر  في الفضاء، موجه بسفر داخل النفس من أجل تطهيرها، ما دام الدافع الأول للسفر هو بحث ابن عربي عن أوتاده الأربعة، سعيًا إلى استكمال رحلته الروحية: (تطهير القلب، تمهيدًا لتطهير الأرض).  ولا غرابة أن يستوقفنا البطل/السارد، في محطات متعددة من الحكي ليخبرنا بأن السفر هو  هدفه الأسمى في الحياة: كقوله: «منذ أن أوجدني الله في مرسية حتى توفاني في دمشق وأنا في سفر لا ينقطع... عشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريق قدره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق» (ص:25). وقوله: «لا بد من السفر كي نستجلب العبر. والمؤمن في سفر دائم». (ص: 454)... إلخ. 
لم يكن سفر ابن عربي  إلا تطبيقًا لوصية أمه الروحية: «فاطمة بنت المثنى» التي كانت أول من رأى عند مولده: «لما ولدت أخيرًا، كان وجه هذه القابلة الطيبة أول وجه أراه في بداية الحياة قارنته بآلاف الوجوه التي رأيتها في برزخي... وكان وجهها أوسع رحمة». (ص:14).  في سفره الأول حمـﱠلتهُ فاطمةُ وصيتَها، فارقته باتجاه قرطبة، ووجهته لملاقاة وتده الأول في إشبيلية: 
«... قالت فاطمة:
- ادن مني يا بني. 
- لبيكِ يا أماه.
- في إشبيلية وتد من الأوتاد الأربعة ولا شك.
- ومن هم الأوتاد؟
- أربعة يحفظون الأرض من السوء.
- وكيف أعرفهم؟ 
- هم يعرفونك.
- وكيف أجدهم؟
- هم يجدونك.
... قرأت فاتحة الكتاب ثم نقرت بإصبعها على موضع قلبي تمامًا، وقالت:
- طهر هذا... ثم اتبعه. وعندها فقط يجدك وتدك». (ص 42-43). 
وحيث إن الوصول إلى الأوتاد، يتطلب تطهير القلب أولًا، ومواجهة العوائق الخارجية ثانيا، فإن رحلة ابن عربي اتسمت بالصراع، الذي اتخذ في الرواية منحيين اثنين:
-1 صراع نفسي داخلي، خاصة بين رغبة الجسد ورغبة الروح، بين العشق الأنثوي، والعشق الإلهي.  فابن عربي، المتصوف والمنقطع للعبادة، هو نفسه الذي سيخضع لإغراءات الجسد في عدة محطات من حياته.  
ويبرر السارد/البطل هذا التناقض في حياته قائلًا:  «لقد قدر الله لي أن أسكر وألهو كي تحق علي الجذبة وتصدق مني التوبة...» (ص: 155) ومن الملفت أن تتسم المرأة في الرواية بكثير من المفارقات، فهي الأم الروحية فاطمة بنت المثتى، والمتفقهة في الدين التي تعلم الرجال في مجلسها [فخر النساء أخت زاهر، وعمة نظام]، وهي في نفس الوقت المعشوقة التي عانى ابن عربي من حبها، وأسره جمال جسدها، كما هي حاله مع «نظام» بنت زاهر،التي نظم حولها ديوانه «ترجمان الأشواق»،  قبل أن يكتشف أنها هي نفسها الوتد الثالث  من بين  الأوتاد الأربعة، الذين ظل طيلة حياته مسافرا يبحث عنهم،  مع ما يمكن أن يسمح به التأويل من تداخل بين حب المرأة والحب الصوفي...، كما بين السارد/ابن عربي نفسه في تبرير شرحه لديوانه «ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق». (ص: 384). 
وكما عبر في هذا المونولوج الملخص لمعاناته: «... في داخلي عواصف لم تهدأ بعد حتى أعرف أين أتجه. عاصفة في روحي، وأخرى في عقلي، وهذه الثالثة في قلبي. صوفي أنا أم عاشق؟ أم كلاهما معا؟ عالم أم عارف؟ شيخ أم مريد؟ ولي أم شقي؟». (ص:316).
يجد ابن عربي وتده الأول في إشبيلية، وهو المتصوف الزاهد «الكومي»، أما وتده الثاني «أبو الحسن الحصار»،  فمات ولم يعرف أنه كان وتده، إلا بعد أن قام من قبره في كرامة من كراماته ليخرجه من سجن القاهرة،  ليخبره أن «الخياط» ورثه بعد موته:  «ما صار [الخياط] وتدك الثاني إلا بعد موتي». (ص: 437). 
أما وتده الثالث فكانت حبيبته ومعشوقته «نظام»،  التي التقاها في «مكة»، وهذا ما يفسر رفضها الزواج به، وكان الوتد الرابع والأخير «شمس التبريزي»، الذي التقاه ابن عربي في ملطية.  
-2 صراع خارجي مع الفقهاء، والأنظمة السياسية الحاكمة: فقد عاش ابن عربي  اضطرابات الحكم العربي في الأندلس، واندحار العباسيين في المشرق  بعد هجوم التتر: «رأيت فتيل دولة المرابطين يطفئه الموحدون في مرسية قبل ولادتي، ورأيت التتر يدكون بغداد دكا بعد مماتي...» (ص: 13). لقد كانت أبرز معاناة ابن عربي مضايقة الفقهاء بسبب مذهبه في التصوف، لا يضاهيه في ذلك  إلا معاناة ابن رشد الفيلسوف معهم، كان أهل النقل يحاربون خفقات القلب وتوهجات العقل معًا، وإذا كان المقام هنا لا يسمح بتتبع أشكال الصراع التي سردها البطل/ابن عربي، فيكفي أن نستدل على ذلك بقوله حين دخل بغداد: «كنتُ على يقين أن نهايتي معها لن تكون كبقية البلاد الأخرى التي طردتني في الأندلس والمغرب ومكة والشام ومصر. 
قال الموحدون لا دروس لك. والأيوبيون أودعوني السجن، والحلبيون استاؤوا من ديواني. ومكة أقفلت أبوابها أمام قلبي في منتصف العشق...» (ص 410). وقد لخص السارد/ابن عربي، المآل الذي آلت إليه حالته قبيل وفاته في دمشق بعد أن كثرت الشكاوي منه ومن مذهبه: «لم يتوقف هذا الشقاء على ذهاب صحتي وموت رفقتي بل امتد إلى جيبي فمسني الفقر... بعد أن كثرت الشكاوى ضدي...» (ص: 587).  
من جهة أخرى فقد أبدع  المؤلف محمد حسن علوان في ربط الرواية/سيرة ابن عربي، بالواقع العربي الراهن، وذلك من خلال سرد مواز، يسرد المآل الذي آلت إليه مخطوطات ابن عربي بعد موته،  فمن بين 100 مقطع تتشكل منها الأسفار الإثنا عشر التي بنى عليها الكاتب روايته، توقف السارد اثنتا عشرة مرة أيضًا، في مقاطع متفرقة، لينتقل من سرد سيرة ابن عربي إلى سرد سيرة مخطوطات كتبه، التي كانت في كل مرة تنجو من الحروب والدمار الذي يحل بديار الإسلام، بدءا من المقطع 1، الذي يعلن فيه ابن عربي عزمه كتابة سيرته الذاتية، وهو في أذربيجان،  عام 610هـ/1212م،  ومرورًا بالمقاطع  8و15 و29 و38 و46 و55 و63 و74 و84 و98 التي صورت صمود المخطوطات أمام  تخريب التتر والمسيحيين، والمستعمرين الفرنسيين... مسافرة عبر مدن إسلامية متعددة: حلب، ودمشق، والكرك، وسمرقند، وأماسيا، وأسطنبول، وحماة، وبيروت...   ووصولًا أخيرًا إلى المقطع  98 الذي تدور أحداثه في العصر الراهن وتحديدًا عام 1433هـ/2012م. حيث شكلت كتب ابن عربي موضوعا لأطروحة دكتوراه لباحثة فرنسية ظلت تبحث عن مخطوط سيرته. 
إن صمود المخطوطات  أمام قوى التدمير، على امتداد ما يربو على ثمانية قرون، هو في حقيقته، وفي رمزيته العميقة صمود للأفكار والقيم الروحية، التي زخر بها فكر ابن عربي، فما دامت المخطوطات محفوظة، فالأمل قائم في تحقق حلم الخلاص، حلم غد مشرق تذوب فيه الخلافات والحروب، ويتحقق السلام، الذي يظل رهينا بتطهير الأرواح من  نزوات الجسد، وتطهير العقول بوجيب القلوب. وما دام الموت صغيرا فثمة مساحات من حياة كبيرة، تنبض بها سيرة ابن عربي وكتبه ■