الحداثة العربية قراءة في كتاب «عالم مرتضى الزبيدي»

قد نظن أن «مرتضى الزبيدي» (1732م - 1791م) صاحب معجم «تاج العروس» الشهير لا يحتاج إلى تعريف؛ فهو أشهر من أن يُعرّف، ولكن الحقيقة تبدو غير ذلك، ولعل هذا ما دفع المستشرق الألماني «ستيفان رايخموت» إلى وضع كتاب ضخم عنه جاء بعنوان «عالم مرتضى الزبيدي... حياته وشبكة علاقاته ومؤلفاته»، بترجمة تمتاز بالسلاسة واليقظة للدكتور محمد صبري الدالي. (المركز القومي للترجمة بالقاهرة 2024م). يمكننا هنا قراءة الزبيدي بوصفه علامة سيميوطيقية بارزة، في عصر انقسام وتفكك؛ فلا توجد دولة إسلامية قوية وجامعة، كما لا توجد وحدة سياسية كبيرة على نحو ما عرف المسلمون من قبل، ولكنها دول وإمارات ومراكز متعددة... والزبيدي - الهندي المولد العربي الأصل القاهري الحياة والممات - «علامة» تتجسد على صفحتها ومنجزها العلمي والإنساني طموحات هذه الحقبة وما انشغلت به من قضايا، وما عجزت عن تحقيقه من آمال.
وسيرة الزبيدي - على نحو ما يشيدها «رايخموت» هنا - هي سيرة علمية تحمل طابع الرحلة المتصلة، وتربط في انشغالها الإنساني بين مراكز علمية شديدة التنوع على امتداد بلاد المسلمين في تلك الحقبة، من الهند إلى اليمن، ومنهما إلى الحجاز (مكة والمدينة) ثم إلى القاهرة بكل حواضرها وعواصم المعرفة فيها، ومنها إلى يافا والقدس بفلسطين واسطنبول ثم إلى القاهرة أخيرًا... ومن القاهرة تحديدًا اتسعت مراسلاته و«إجازاته» العلمية التي منحها لكثير من طلاب العلم وتشمل المشرق والمغرب الإسلامي وشخصيات علمية وقيادات اجتماعية في دول إفريقيا جنوب الصحراء.
صحيح أن شهرة الزبيدي تأكدت بفضل معجمه الموسوعي «تاج العروس» وقيمته الرفيعة للثقافة العربية، ولكن الزبيدي أيضًا أحد رواة الحديث الشريف البارزين، ليس هذا فحسب، بل هو عالم بالأنساب والتاريخ والفقه وأصول الدين والتصوف بشكل خاص، بل إنه - وفق رواية تلميذه الجبرتي - ينظر إليه باعتباره أستاذًا في النثر والشعر... (ص35)، وهذا قول يخلو من أي مبالغة، لاسيما إذا طالعنا مؤلفات الزبيدي التي وضع لها «ستيفان رايخموت» ثبتًا طويلا، فقد تجاوزت مئتين وعشرين مؤلفًا، ما بين كتب ذات نزوع موسوعي، وشروح ورسائل قصيرة... وهي قائمة - ما طبع منها وما لم يزل مخطوطًا - تضع أيدينا على اهتمامات المثقفين في تلك الفترة من قضايا، وما كانوا يطمحون إليه من إنجاز.
حضور معرفي
واللافت - بالنسبة لمن يطالع معجمًا مثل (تاج العروس) - هو الحضور المعرفي الموسوعي، ليس بما هو وعي بالمجالات العلمية منفصلة عن غيرها، ولكن بما هي معرفة بينية متداخلة، صاغها أستاذ موسوعي رحّالة، الأمر الذي يتأكد مرة أخرى مع عمله المهم وإن لم يحظ بشهرة التاج، وأقصد به «إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين» وهو شرح موسّع لكتاب الإمام «أبو حامد الغزالي».
فكتاب «إتحاف» - في رأي «رايخموت» - يعد «إنجازًا رائعًا، باعتباره الشرح الكامل الوحيد حتى يومنا هذا للكتاب، خاصة وأنه يجمع بين التخريج الكامل للأحاديث التي أوردها الغزالي، مع تحليل شامل للمصادر الأخرى لكتاب الإحياء، وكم وفير من النصوص الإضافية التي تغطي العديد من حقول الثقافة الإسلامية، بما فيها الطب والعلوم الطبيعية، ومن هنا فإن «إتحاف» مثله مثل «تاج العروس» من قبله، إنما تجاوز بكثير عملية الشرح، ومن هنا يمكن اعتباره بمنزلة موسوعة دينية» (ص191).
كان الزبيدي أقرب ما يكون إلى مؤسسة اجتماعية وعلمية بالمفهوم الواسع، وإن القارئ ليدهش وهو يطالع الفصل الأول الذي خصصه المؤلف لشبكة علاقات الرجل التي تتوازى مع رحلاته العلمية وتواصله المباشر وغير المباشر مع مئات الأسماء من العلماء والدارسين والأمراء والحكام، على نحو ما نجد في علاقته بالأسر البكوية التي هيمنت على الحكم في مصر، وكبار رجال البلاط العثماني... وهذه الشبكة الواسعة من العلاقات كانت وراء كتابه الفريد «المعجم المختص» الذي ترجم فيه، ربما على نحو غير مسبوق، لكل من عرفهم أو تواصل معهم أو جلسوا إليه وتلقوا عنه.
ومن الجيد هنا أن نشير إلى تطور فن السيرة والتراجم في العصرين المملوكي والعثماني، ولعل الزبيدي فيما يرجح رايخموت قد اطلع على السيرة الذاتية لعالم إسلامي كبير من القرن السادس عشر، ويقصد بها كتاب «الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون» لمحمد بن طولون (ت953-1521م). وترجع أهمية هذا الكتاب إلى مقدمته القصيرة عن فن السيرة الذاتية... وبصرف النظر عن اطلاع الزبيدي عليه من عدمه، فالثابت أن هذا الفن قد بدأ يستحوذ على اهتمام الدارسين والعلماء، وليس بعيدًا عنه ملامح السيرة الذاتية التي أثرت بشكل واضح على ما يمكن وصفه بـ«أدب الإجازات» العلمية... وربما فيما يرجح «رايخموت» أن المواد التي توفرت للزبيدي من الإجازات شكلت الأساس العلمي لكتابه في التراجم: «المعجم المختص».
وما يميز تراجم الزبيدي تحديدًا هو تركيزه على الذوات الإنسانية كما عرفها عن قرب، فلم يقتصر المعجم على الشخصيات العلمية أو السياسية ذات الشأن فحسب، ولكنه توسّع في ذلك لتضم الترجمة أسماء عادية، تصل أحيانًا إلى الترجمة لمن ورد ذكره في قائمة حضور أحد دروسه. (ص292)
وفي الفصل الثاني يفرد «رايخموت» مساحة كبيرة ليدلل على عقلية الزبيدي ذات الطابع المؤسسي، إذ يعتبره «ناشرًا دوليًّا» نظرًا لانشغاله المركز بالترويج لكتبه، سواء أكان ذلك بحرصه الشديد على الحصول على التقاريظ المتعدد للكتاب من كبار العلماء (التقريظ هنا خطاب ترويجي في المقام الأول)، أو بالاحتفال بالكتاب عقب الانتهاء منه كله، أو عقب الانتهاء من بعض أجزائه على نحو ما فعل بعد انتهائه من تأليف الجزء الأول من «تاج العروس»... ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد وظّف شبكة علاقاته الواسعة التي ارتبطت بشكل مباشر بتوسع نطاق تجارة الكتب وتبادلها، وذلك في إطار منظم غلى حد كبير، فقد «اشتغل بعض تلامذته نساخين لحسابه، كما أن العديد من أصدقائه قاموا أثناء رحلاتهم بمهمة تشبه كونهم وكلاء سفر له» (ص161).
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد انشغل الزبيدي بشكل كبير بتوسيع مجال كتاباته؛ فقام بكتابة الرسائل إلى كبار العلماء والوجهاء في مختلف البلدان، بالإضافة إلى عديد من الشروح لصيغ أصحاب التصوف، مثل شرحه لحزب «البّر» للطريقة الشاذلية على سبيل المثال، كما عمل على نسخ كتبه وتوزيعها ونسخ كتب غيره وتوزيعها كذلك.
عقل مؤسسي
والنتيجة المباشرة لكل هذا هو بروز اسم الزبيدي على امتداد الرقعة الثقافية الشاسعة التي احتلتها الثقافة العربية والإسلامية، ولنا أن نتوقع بالتأكيد، ونحن إزاء هذا العقل المؤسسي الذي لا يخلو من حس تجاري، ثراء الزبيدي، صحيح أنه - وفق رايخموت - يصعب «تحديد الجانب التجاري لمؤلفاته، فإنه لا خلاف على أنه أصبح ثريا للغاية خلال حياته العلمية. لقد كان المبلغ البالغ 100 ألف درهم فضة، الذي حصل عليه من محمد بك أبو الدهب في مقابل النسخة الكاملة الأولى من «تاج العروس» مبلغًا ضخمًا بالتأكيد، لكن علينا أن نتوقع أن النسخ الأخرى من المعجم التي طلبها حكام بلدان أخرى قد تم دفع ثمن جيد فيها أيضًا». (ص187).
تتابع إشارات ستيفان رايخموت حول ما يمكن اعتباره حداثة عربية كانت تلوح في الأفق في موازاة الحداثة الغربية، فهو يقارن بين النزعة الإنسانية لدى الكتاب الغربيين وشغف الزبيدي بجمع الكتب واهتماماته اللغوية والأدبية والتراثية الواسعة، وتركيزه الواضح على مكانة الإنسان في الكون، بالإضافة إلى شبكة صداقاته الواسعة التي تمتد على مساحة شاسعة من الجغرافيا الإسلامية، من الهند إلى الحجاز واليمن ومصر، وصحيح أن المقارنة هنا محفوفة بكثير من المخاطر، لكنه يعود فيؤكد «أن غياب المقارنة أكثر خطورة» فالتماثلات بين النزعتين الإسلامية والأوربية يصعب تجاهلها...
والحقيقة فيما - يؤكد رايخموت - أن تراث الزبيدي يتسع ليضم القضايا والآراء العلمية والأخلاقية التي ناقشها، فهي تعتبر «موضوعات نموذجية بالنسبة لمرحلة لاحقة من مراحل الثقافة الإنسانية الأوربية واندماجها مع ثقافة عصر الباروك ومرحلة التنوير المبكرة... أما الطابع الصوفي القوي الموجود في اهتمامات الزبيدي فيتطابق أيضًا مع الاتجاهات الأوربية الباطنية والروحية في القرن السابع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين بأكثر من انتمائه إلى الاتجاهات الإنسانية المبكرة». (ص47).
وهذه التقاطعات أو التشابهات هي ما جعل التساؤل الغربي حول الكلام عن حداثة أخرى غير أوربية متداولاً، فقد تساءل بيتر بورك متوسعا في البحث ليضم دولًا آسيوية مهمة مثل الصين بالإضافة إلى الدول الإسلامية، تساءل قائلاً: «هل نستطيع الحديث عن عالم حديث مبكر؟ في تواريخ ثقافية مقارنة في آسيا الحديثة المبكرة». (ص45).
ولعل ارتباط اسم الزبيدي بالحركات الإسلامية الإحيائية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر يدعم من زاوية أخرى فكرة الحداثة العربية أو النهضة العربية، فقد كانت للزبيدي صلات مباشرة مع مؤسسي تلك الحركات، وهذا أيضًا يشير إليه رايخموت، فقد برز اسمه بوصفه «شخصية مهمة في النقاش الذي تطور في ألمانيا حول عصر التنوير الإسلامي باعتباره علامة مهمة محتملة على الاتجاهات الإصلاحية الإسلامية في القرن الثامن عشر الميلادي». (ص44)
وما يميز هذا النزوع الإصلاحي في كتابات الزبيدي وعلاقاته هو خصوصيته الذاتية، بمعنى أنه لم يكن ردة فعل للاحتكاك مع الثقافة الغربية على نحو ما سوف نشاهد فيما بعد مع رواد الإصلاح أمثال الأفغاني ومحمد عبده، ولكنه حركة ذاتية ترتبط بالنمو الذاتي للتراث والثقافة وانشغالها بأسئلة الواقع المعيش، ففي أكثر من موضع من الكتاب يؤكد «رايخموت» على وهن العلاقة بين الزبيدي والمصادر الغربية... فالسمة الأساسية التي امتازت بها مؤلفات الزبيدي يمكن تبينها في محاولته المستمرة «للتوفيق بين مختلف خيوط المعارف الدينية والأدبية والطبيعية التي كانت متاحة له في وقته»... وتلك السمة المهيمنة وراء هذا التشابه المحفز على المقارنة بينه وبين المشروعات الموسوعية والمعجمية الأوربية في تلك الفترة.
إن أعمال الزبيدي «تشهد على نوع من الحيوية والمثابرة المهمة في الثقافة الأدبية العربية، وعلى وسائلها المرنة في إنتاج الفكر ونشره. وحتى لو لم يكن هذا الأمر كافيًا لزعزعة الثقة الراسخة لدى القائلين بالتفرد القوي للنموذج الأوربي والمقتنعين بالوضع الثقافي والتاريخي الفريد لأوربا الغربية، فإن هذه الكتابات يمكن أن تقدم بعض الدعم لوجهة النظر التي اكتسبت على مر السنوات قبولاً واسعًا بين مؤرخي العالم، والقائلة بأن الفروق التي قامت في الحضارة والثروة بين إمبراطوريات ودول أوربا وبين كل من الشرق الأوسط وجنوب آسيا والصين خلال عصر ما قبل الثورة الصناعية، لم تكن فروقًا كبيرة، وذلك على خلاف ما تم افتراضه في كثير من الأحيان». (ص41).
إشارة أخيرة
تواترت على نحو كبير في هذا الكتاب فكرة «الإجازات العلمية» التي حصل عليها الزبيدي في معظم البلدان التي رحل إليها وجلس إلى علمائها، وتلك التي منحها للدارسين بعد رسوخ قدمه، ومعظمها كانت بعد استقراره في القاهرة. وما أود التنبيه إليه هنا هو لفت انتباه الباحثين إلى درس مرونة النظام التعليمي في تلك الفترة، وبخاصة نظام «الإجازة العلمية» التي تكتسب قوتها من اسم مانحها ورسوخ قدمه في فرع معرفي محدد، كالبلاغة والفقة وعلوم الحديث...إلخ. فالإجازة ذات دلالة في ربط المعلم بالمتعلم، وربط قيمة هذا بقيمة ذاك، ومن هنا تحديدًا تأتي أهميتها في إقامة نظام معرفي حقيقي: نام ومتطور... أضف إلى ذلك أن تعدد الإجازات لدى الباحث الواحد - وهو ما كان يحرص عليه الدارسون - مؤشر على تنوع معارفه واتساعها، الأمر الذي يمكنه من الجلوس مجلس الأستاذ ومنح الإجازات، وكثيرًا ما يحظى الدارس بتلك الدرجة الرفيعة - أي المنح - في فترة باكرة من عمره، كما تحتاج الإجازات إلى دراسة أشكالها وأنواعها وتطور خطابها، ودورها الاجتماعي في الربط بين العلماء والدارسين من مختلف الأقطار والبلدان على اتساعها ■