جمال العربية

 جمال العربية

مع بلوغ الستين: هنري زغيب.. وربيع الصيف الهندي

يُعرّفه ديوانه بأنه شاعر لبناني فاعل، في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية، منذ عام 1972، بمؤلفاته وأنشطته ومسئولياته. هو اليوم رئيس مجلس التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأمريكية، ورئيس مجلس المؤلفين والملحنين في لبنان، ورئيس الاتحاد العالمي للدراسات الجُبْرانية (في منطقة لبنان والشرق الأوسط).

ويُعرّف الشاعر اللبناني هنري زغيب بأحدث دواوينه «ربيع الصيف الهندي» قائلاً: «تنتمي قصائد هذا الكتاب إلى مرحلة فاصلة من عمري: «الستون»! تحسّبت لاقتبالها في تهيّب أن أكون على مستوى بلوغها وفي نذْرٍ ألاّ أعود إلى أخطاء ارتكبتها قبلها. إنه وعي انزلاق الزمن، وعي العمر الذي قررت أن أستلحقه بما يَستدرك ثمارًا خيرة للبقية الباقية من عمري.

تلك رسائلي إلى ذاتي، في بلوغي الستين، قبل أن تكون رسالتي إلى السّوى (الآخرين).

والشاعر رسول ذاته قبل أن يكون صوت السّوى، أو صوتًا إلى السّوى».

هذا الكلام يقوله هنري زغيب بعد أن كتب وأبدع الكثير، شعرًا ونثرًا. هناك أولاً دواوينه: إيقاعات أو سمفونيا السقوط والغفران، ومن حوار البحر والريح، وأنتِ ولتنْته الدنيا، وتقاسيم على إيقاع وجهك، ومنصّة.

وهناك ثانيًا كتاباته النثرية: لأن المعبد والإلهة أنت، وصديقة البحر، وحميميات.

وكتب سيرة ومختارات: أقرأ من لبنان، والضيعة اللبنانية بأقلام أدبائها، والأخوين رحباني: طريق النحل.

وهنري زغيب قبل هذا كله وبعده، صوت شعري لبناني مختلف، ينتسب إلى عروق الشجرة الشعرية الكبرى التي ضمّت شعراء سورية ولبنان معًا، شجرة الأناقة والترف والنزق الشعري والجرأة على اللغة، وطيّ الصور والفضاءات الشعرية المألوفة والراكدة، لإفساح المجال أمام صور شعرية طازجة وجريئة ومدهشة، فهو ثمرة يانعة في الشجرة التي أطلعت نزار قباني السوري وإلياس أبوشبكة اللبناني، لكن انتماءه الأصيل يظل لمدرسة سعيد عقل، شاعر لبنان الأكبر، في تاريخه الحديث والمعاصر، بعد رحيل الأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة وأضرابهما.

سفرْ الجمالات في الشعر العربي الحديث، يدين لسعيد عقل: لغةً وصورًا ومفرداتٍ وتراكيبَ وبِنْيةً شعرية وغوايات فنية، وإدهاشًا، وقلْبًا للسائد والسائر والمألوف. وهكذا جاء هنري زغيب، مخلصًا كلّ الإخلاص، مُتيّمًا إلى أقصى حد، بأبيه الروحيّ في الشعر: سعيد عقل، غير منقطع الصلة بآباء آخرين كبار، في ديوان الشعر السوريّ اللبناني، حريصًا على هويّة لا تندغم في غيرها، أو تطغى عليها هويّات سواها، حتى لو كانت كبرى، لأنه في النهاية صوته هو، وكلمته هو وغناؤه هو.

أما الستون التي هزّه مجيئها بعنف، وكأنها فاجأته مع مولد هذا الديوان، فقد أخذ يناجزها ويشاغلها ويقدم لها عهوده ويُقسم قسمه، في لغة شعرية عذبة وهو يقول:

«أيها العمر، بيني وبينك عهد، احفظ لي نجمتي، وبالمقابل خذ مني لعقدي السابع، غلالاً لا أنت تخجل بها، ولا أنا أُهدرني دون أناقة الستين. فامنحني فرصة أن أفي نجمتي وفائي بوعدي إياها وعهدي لها: بذْر بيادر مقبلة تباركها هي، قدْرَ ما تمنحني أنت سنوات مقبلة أُخصبها سنابل. أيها العمر هل تسمعني؟».

ثم يقول هنري زغيب:

«هو ذا الزمن من جديد. هو ذا حواري مع ذاتي في قصائد هذا الكتاب. هو ذا الرجل العاشق تصالح مع الشاعر العاشق، فكان هذا الكتاب تكريسًا لمصالحة جسد الحياة مع جسد اللغة.

هي ذي رسالة الشاعر تتولاها نجمة العمر فتصالح الحاضر مع المستقبل، الحياة الشخصية مع اللغة الشعرية. «الصيف الهندي» ليس الصيف. لم يعد الصيف. صار الماضي. ربيع الصيف الهندي ليس الربيع. لم يعد الربيع. لكنه ليس الخريف. إنه مستقبل الفصول. تباركت هذه المصالحة بين الحاضر والمستقبل. معها يرحل «الصيف الهندي» المؤقَّت، ويبقى ربيعه. ربيعه هو الوعد بالمستقبل. هو الربيع الدائم. المستقبل الدائم.

علامة «الصيف الهندي» أنه متأخرًا يصل، وبسرعة يرحل. فليصْح ما في الحلم: أن يأتي ربيع يطول، علامته نجمة العمر التي وصلت. في «الصيف الهندي» وصلت. متأخرةً جاءت لكنها وصلت. ولم تعد صحراء رهيبةً محطة الانتظار».

لكن ما هو هذا «الصيف الهندي» الذي جعل منه هنري زغيب عنوانًا لأحدث دواوينه؟

يقول في هامش قصيدته «ربيع الصيف الهندي»: «الصيف الهندي أو «صيف الهنود» موسم شائع في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) يأتي غالبًا في أواخر أيلول، ولا يعيش سوى بضعة أيام وينقضي، ومدلوله: «تجديد يأتي مفاجئًا، أو متأخرًا».

ثم يقول:

غدًا يا حبيبي، متى نهرمُ
ويمضي بنا العمرُ صوب الغروبِ
وما زال فينا شروق يُجدّده حبُّنا المُكرمُ
ونبقى
- كما نحن -
شَعَّ هيامٍِ
ويبقى بنا ولهٌ مُغْرَمُ
ويبلغنا في الخريف الخريفُ
ونحن ربيعٌ
وأنت ربيعي
تخاصرني بحنانكَ، قال،
ونمشي على شاطئ البحر،
نمشي
ومن حولنا نورسٌ حُوّمُ
ورَفُّ مُشاةٍ
ونحنُ
- ولو حولنا هم -
بعيدان عنهم
يُذوّبنا في الحنين الحنينُ
يُلوّحنا الحبُّ وجهيْن في مُستهلِّ الخريفْ
ونجلس عند شفير الرصيف
يُرذّذنا البحر:
أنت خيالُك صوب البعيد المدى
وأبقى أنا:
بعينيك عينايَ
ملهوفةٌ بك
رغم الذي كان ممّن مدى حُبّنا حرّموا
غدًا، يا حبيبي، متى نهرمُ

***

وتمضي
- وعيناك صوب البعيدِ
ورأسي على صدركَ المستهامِ 
تعيدُ حكايتنا
أشرقتْ لحْظَ كُنّا بعيديْن
ذات مطارٍ بعيد
وكان اللقاءُ
كما يتصالب يومًا شعاعان بعد فراقٍ سعيد
كأنْ نطفةٌ ولدتْنا معًا، ضمْن شرنقة من حرير شفيفة
وطرنا فراشيْن
طرنا إلى وجهة فرّقتنا
افترقنا
فكان فضاؤك غير فضائي
افترقنا
بعُدْنا
نسجنا حياةً خفيفة

***

وتمضي على شاطئ البحر
هيْمانَ بي
تداعبُ شعري على صدركَ الدافئ الأريحيِّ
نعيشُ بغمرْتنا في حنانٍ
تذكّرني
كيف من حُبّنا تخصبُ الوقتَ عُمرا
تُذكّرني
كيف كنْتَ شريد الصحارى
وتحلم أنْ سأجيئك يوما، وجئتُ
فأنقذْتُ عُمْركَ من تَيهانَ الصحارى أتيتُ
- لشدة حُلمك بي -
لأمحو شُرودَك والتيهانْ
ونحيا معا حُبّنا آن آن
ونكمله العمر دوما معا
سعيدين أنّا التقيْنا أخيرا
إلى آخر العمر نمضي معًا
ونستقطع الوقت «منهم»
على غفلة من سموم العيون
و«صيف الهنود» يُزهّر فينا
وليس يغيبُ
على غفلةٍ جاءَ
مستأخرا كي يُقيمَ فلا يُعْبَرا
ورحنا مدى حبّنا نتهادى
وتكتبُ شعركَ من نبضاتي
لنا العمرُ أرجوحةُ الكلماتِ
لنا الحبُّ عمرٌ من الأمنياتِ
وتروي:
«امتلائي بكِ انهلَّ
أنقذني من ضياع الجهاتِ
وقبلكِ كان فراغ يجرُّ فراغًا كبيرًا يجرُّ
فراغا له أكبرا
يُجرّرني مُفْرَغا من «أَنا» يَ
فأملأ ذاك الفراغ بما كان يُرضي
ومن كان يُرضي
ولم يكُ ما كانَ
لم يكُ من كانَ يُرضي
كما صُغْتَني اليوم مُستَعْبرا«
وتذكرُ
تذكرُ كلَّ الذي كان من حُبّنا ينعمُ
غدًا، يا حبيبي، متى نهرمُ

***

حبيبي
سلامُ الحياةِ عليكْ
إليك حناني يفيءُ لدْيك
هو البحرُ مدّ مداهُ إلينا
وآخذُ رأسَكَ بين يديّ
وننظرُ صوْبَ البعيدِ
إلى الأفق المترامي البعيدِ
وأنت تدندنُ شِعْرَك بي
أردّدُ بعْدَك كلَّ قصيدة
وأقطُفها منك دنيا جديدة

***

أيا ذاكَ «صيْفَ الهنود»
بدأناكَ لكن ستُكملُ وحْدَكْ
لأنَّ حبيبي سيُكملُ بعْدَك
هرِمْنا من الأمسِ
لكننا بِصبا العمر في غَدنا نحلُمُ
نذوق خريف الحياة معا
ربيعا من الحبِّ لا يهرمُ
غدًا، يا حبيبي، متى نهرمُ!

ثم ينقلنا الشاعر هنري زغيب في أحدث دواوينه «ربيع الصيف الهندي» إلى ما يسميه » الثنائيات»، التي هي في رأيه «مسير جديد يتزاوج فيه الشكل والمضمون معا. إلى أبعاد مختلفة وآفاق متغايرة، لكنها من ينبوع واحد، ويتهادلان منه معا على نواصي سبْعٍ من القمم: الزمن وشعور الشاعر بعبوره، والشعر وانصياع الشاعر لنعمته، والحب ودخول الشاعر فردوسه الذي كان ضالا فوُجد، والسّوى وانحسار تأثيره على الشاعر، والحبيبة وكثير تأثيرها على الشاعر دعاءً ووعدًا وعهدًا، والرجل ومصالحته مع الشاعر فيه، والثنائي في نعمة ما تبقى من العمر».

ويقول: «كل ثنائية حالة عاكسة لحظتها، كل ثنائية مرآة لقلبه أو من قلبها، كل ثنائية حالة أو حدث، كل ثنائية مناسبة، أو مزاج، أو شهقة شوق في بعاد، لكنها جميعا تتوحد في زمن واحد: «زمنها» الذي ولد ذات أيلول فرّ من الصيف الهندي ليسكن في ديمومة الربيع».

يقول هنري زغيب في ثنائياته:

على مشارفها
السّتون
أحملها إلى بقية عُمرِ يحذر المِزَقا
أذوقُ نُضْجي
ويا خوفي إذا خطأً خطوتُ قولاً
فجاءت خطوتي نَزقا

في «ربيع الصيف الهندي» للشاعر اللبناني هنري زغيب، أكثر من جمال في العربية، هي «جمالات» تُضفي أناقتها وترَفها وشاعريتها على معجمه اللغوي، وصوره الحيّة المتحركة، وبنْية قصيدته الحارّة المتوترة، ونَفَسِه الشعري الطويل الممتدّ، والقادر على التكثيف والتجسيد في ثنائياته.

مِثْلُه لا يكون إلا صوتًا للجمال، ولغةً لانبثاق ربيع العمر في السّتين.

 

 

 

فاروق شوشة