الأندلس المسلمة في شعر ابن دراج القسطلي في مرحلتي الوحدة والتفكك

الأندلس المسلمة في شعر ابن دراج القسطلي في مرحلتي الوحدة والتفكك

كانت حسرة المسلمين في جميع بلاد الإسلام أشدَ حينما سقطت غرناطة، لقد خلف ضياعها جروحًا عميقة، فعمت الحسرة في كل بلاد الإسلام آنذاك. هذه الحسرة التي شعر بها المسلمون لا تماثلها إلا حسرة ضياع فلسطين في عصرنا الحديث. والأندلس المسلمة برغم أنها أصبحت أثرًا بعد عين فإنها كانت بلدة ولادة، أنجبت الشعراء والمفكرين والفلاسفة والعلماء والفقهاء، كان لهم دور في ازدهار العلوم وصنع الحضارة في عصر الأنوار عند مفكري الغرب.

 

  كان الشعر عند العرب الوسيلة التي يعبرون بها عن همومهم وأفراحهم، وآمالهم وتطلعاتهم، ولولا الشعر لما عرفنا تاريخ الجاهليين. وظلَت للشعر هذه المكانة بعد مجيء الإسلام، لقد مثَل في كل العصور صورة جليَة لثقافة المجتمعات الإسلامية، فكان كالنسيم يسري سريان الدم في الجسد، فالشاعر كان يمدح سادة القبائل وأشرافها، ويخلَد أمجادها ومآثرها، ويهجو كل من يحاول النيل منها، والويل لكل من أصابته سهام الشعراء ولو بالخطأ. 
وظلت للشعر هذه المكانة حتى عندما انتشر العرب خارج جزيرتهم، فكان الفرد حينما يصبح لسانه عربيًا، وينبغ في الشعر، تفتح له أبواب قصور الخلفاء والأمراء بكل ترحيب.
 
الشعر والأدب في الأندلس المسلمة 
كانت الأندلس منذ فتحها على يد العرب وإخوانهم البربر تعدَ درَة ثمينة في بلاد الإسلام؛ لقد أصبح المجتمع الأندلسي بكل أفراده عربيًا صميمًا في لغته وفكره وأدبه، والبربر الذين اعتنقوا الإسلام طواعية واختيارًا أحبوا اللغة العربية وآدابها، لأن كتاب الله، عز وجل، الذي قَدسوه كان بهذه اللغة، فأقبلوا على تعلمها ودراسة قواعدها بلهفة وشغف كبيرين لمعرفة المعاني والأغراض، حتى إن الكثير منهم أصبحوا في زمن قصير من كبار شعراء العربية، ولا أدل على ذلك من شاعرنا ابن دراج القسطلي الذي ينتمي إلى أصول بربرية صميمة من قبيلة صنهاجة، فقد أصبح يملك أدوات الشعر مثل الأعراب أهل الوبر، ولذلك لقَبوه بـ «متنبي» الأندلس لما احتوى شعره من معان رصينة، ولغة جزلة. 
هكذا كان العرب والمجتمعات التي اختلطت بهم تعتبر الشعر هواء ينعش رئتيها، وسجلاً يوثق أخبارها؛ وكل فرد كان يحلم بأن يسبح في عالم الشعر وسحر الكلمة، وحتى الذين غلبت عليهم ثقافة العلم المحض كانوا يجدون متنفسًا في الشعر.

الحالة الفكرية والاجتماعية في الأندلس في عصر ابن دراج القسطلي
عاش ابن دراج في القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس - 347 – 421 هـ – وكانت الأندلس في هذه المرحلة قد بلغت نضجًا أدبيًا وفكريًا وعلميًا واستقرارًا اجتماعيًا وأمنيًا فضلاً عن القوة العسكرية التي كانت ترهب الأعداء وبخاصة في عهد عبدالرحمن الناصر وابنه الحكم، حيث كانت ممالك النصارى في الشمال يملأها الرعب من قوة المسلمين.
وتشاء الأقدار أن يشهد ابن دراج مرحلتين في تاريخ الأندلس المسلمة، مرحلة الوحدة على يدي القائدين العربيين الحاجب المنصور بن أبي عامر، وابنه عبدالملك المظفر؛ ومرحلة التفكك والانقسام في عهد ملوك الطوائف. وبرغم هذا الضعف السياسي فإن شعر ابن دراج ظل يحمل سمات الأمل لعودة قوة المسلمين. 

مرحلة مدح ابن دراج للحاجب المنصور بن أبي عامر وابنه عبدالملك المظفر 
كانت هذه المرحلة من أهم مراحل حياة ابن دراج الأدبية والاجتماعية والنفسية لكونه وجد في هذين القائدين صورة البطولة العربية مجسَدة في كل حروبهما مع ممالك النصارى، وهي مرحلة تشبه إلى حد كبير بطولات سيف الدولة الحمداني في المشرق التي جسَدها بالكلمة والصورة شاعر العربية المتميز أبو الطيب المتنبي، ولذلك رأى مؤرخو الأدب العربي أن المرحلتين متشابهتان في المظهرين العسكري والأدبي «وشعر القسطلي في الدولة العامرية يعتبر من أروع ما نظم وأحقه بالتقدير ولاسيما ما توجه به من مديح إلى المنصور. والذي يقرأ شعر ابن دراج في القائد العامري لا يملك تفكيره من أن يثب إلى مدائح المتنبي لسيف الدولة الحمداني، فهو مدح لا يقوم فقط على الطمع - وأي امرئ شاعر أو غير شاعر تجرَد منهما؟ - وإنما المصدر الأول فيه هو شعور قوي من الإعجاب بشخصية الممدوح». 
لقد جسّد ابن دراج في مدح هذين البطلين صورة البطولة العربية في الأندلس، كانت أعينهما لا تغفل لحظة واحدة عما يهدد البلاد من أخطار وفتن سواء كانت داخلية من المتمردين أم من ممالك النصارى. 
ومما نظمه ابن دراج لبيان يقظة المنصور في القضاء على الفتن الداخلية قصيدته التي أعدَ فيها هذا البطل العدة لمواجهة زيري بن عطية، فقال:
 ألا في سبيل الله غزوك من غوى 
 وضلَ به في الناكثين سبيل
 لئن صدئت ألباب قوم بمكرهم 
 فسيف الهدى في راحتيك صقيل
ثم وصف جيشه وعتاده لتحقيق النصر، وهذه الأوصاف ليست من خياله، وإنما هي حقائق شاهدها، فقال:

 كتائب تعتام النفاق كأنها 
 شآبيب في أوطانه وسيول 
 بكل فتى عاري الأشاجع ما له 
سوى الموت في حمي الوطيس مثيل
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا 
 ولكن على صدر الكمي ثقيل 

إن إقدام الممدوح وعدم هيبته من قوة الأعداء جعلت ملوك الممالك الإسبانية يأتون إليه متوددين القرب منه، فهذا شانجة بن غرسية يأتي خاضعًا ذليلاً إلى قرطبة حاضرة الخلافة الإسلامية ليعلن طاعته وخضوعه لأوامر القائد العربي، فيقول ابن دراج قصيدة واصفًا مجيء هذا الطاغية ذليلاً صاغرًا أمام المنصور: 
 
 وهذا عظيم الشرك قد جاءك خاضعًا 
 وألقى بكفيه إليك محكمًا 
 سليل ملوك الكفر في ذروة السَنا 
 ووارث ملك الروم أقدم أقدما 
 توسَط أسباب القياصر فانتمى 
 من الصيد والأملاك أقرب منتمى
 ولما تقاضى غرب سيفك نفسه 
 وحاطت له الأقدار محتقن الدَما 
 ولم يستطع نحو الحياة تأخرا 
 بفوت، ولا نحو النجاة تقدَما
 تداركه المقدار في قبضة الردى 
 وخاطبه حنَا عليه فأفهما
 وبشَره التَأميل منك بعطفة 
 تلقَى بها روح الحياة تنسَما 
وكان بعض ملوك العجم يقع أسيرًا بين يديه ومنهم قومس «قشتالة» غرسية بن فردنند، وكان من أشد الأعداء، وأكثرهم قوة وشراسة في الحرب. قال ابن دراج:
 فيهن الدين والدنيا بشير 
«بغرسية» الأعادي والعداء 
 بصنع أعجز الآمال قدما 
وقصَر دونه أمد الرَجاء 
 ألذ على السامع من حياة 
وأنجع في النفوس من الشَفاء
 فيا فتحا لمفتتح وبشرى 
لمنتظر، ويا مرأى لراء 
 أسير ما يعادل في فكاك 
وعان ما يساوى في فداء 
 هو الدَاء العياء شفيت منه 
فما للدين من داء عياء 
هكذا كانت البطولة العربية مجسَدة في هذا القائد الذي نعمت الأندلس في عهده بالاستقرار والأمن والرخاء والوحدة.
وتستمر هذه المواقف البطولية المعزة للإسلام والمذلة للكفر في عهد ابن هذا القائد عبدالملك المظفر الذي كان نموذجًا في الإقدام، وقد صوَر ابن دراج فتوحاته في شعره أبدع تصوير، ومنها قوله في انتصاره على قومس برشلونة قوله في أبيات: 
 عزَت بذكرك في البلاد صوارم 
تركت رجاء عداتها مصروما
 وأسنَة الخط التي خطت على 
شيع الضلال حينها المحتوما
 طلعت على دين الهدى بك أسعدا 
وعلى ديار المشركين رجوما
 فاطلب به – والله مسعد حظها - 
حظًا من الفتح المبين جسيما 
لكن هذا العز المظفر سيصبح بعد هذين القائدين سرابًا بعدما عرفت قرطبة فتنا واضطرابات حينما تولى الحجابة عبدالرحمن بعد موت أخيه المظفر، لقد ظهرت بوادر الضعف والانقسام في عهده حتى اعتبر المؤرخون مرحلته بداية شؤم على بلاد الأندلس المسلمة، فأصبح كل طامع في الحكم يحاول اقتطاع جزء من البلاد بعدما كانت عصية على كل متمرد، وبرغم ما بذلته دولة المرابطين ودولة الموحدين لعودة القوة والمنعة والاستقرار فإن ذلك لم يفد لأن ملوك الطوائف مزَقوا البلاد بالتخاذل والتعاون مع الأعداء من أجل حماية إماراتهم وبقائها بأيديهم . 

شعر ابن دراج في مرحلة الفتنة والتفكك
لم يصمت الشاعر في هذه المرحلة، فقد مدح ملوك الطوائف الذين أسهموا في تمزيق أوصال البلاد وإضعافها، وربما كانت غايته من ذلك البحث عن ملاذ آمن يحميه من غوائل الدهر بعدما ذهب عز الدولة العامرية التي وجد في ظلها الأمن والاستقرار، فقصد «ألمرية» عند حاكمها خيران العامري الذي استقل بها سنة 405هـ، وبقي عليها حتى توفي سنة 419هـ، فمدحه بقصيدة مطلعها:
 لك الخير، قد أوفى بعهدك خيران
 وبشراك، قد آواك عزَ وسلطان
 ويقول فيها: 
متى تلحظوا قصر «ألمرية» تظفروا 
ببحر حصى يمناه درَ ومرجان
 وتستبدلوا من موج بحر شجاكم
 ببحر لكم منه لجين وعقيان
 فتى سيفه للدين أمن وإيمان 
 ويمناه للآمال روح وريحان
 تقلَد سيف الله فينا بحقه 
 فبرَت عهود بالوفاء وإيمان 
فالأمل ما زال يراوده في وجود قائد عربي يحمي البلاد ويعيد للمسلمين عزهم.
ثم اتجه إلى «بلنسية» وكان يحكمها «مبارك» و«مظفر»، وكانا من قبل من موالي المنصور العامري، فمدحهما بمعان تدلَ على العز والسلطان وحماية بلاد الإسلام، وربما كان يعتقد بأنهما سيسيران على خطى ذاك القائد المظفر، فقال: 
 شريكان في صدق المنى، وكلاهما
 إذا بارز الأقران غير مشارك
 هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى 
وقد أوثق الدهر الخؤون إسارك
 وسلاَ سيوفا لم تزل تلتظي أسى 
بثأرك حتى أدركا لك نارك
 ويهنيك يا دار الخلافة منهما 
هلالان لاحا يرفعان منارك
 كلا القمرين بين عينيه غرَة 
أنارت كسوفيك وجلَت سرارك 
 فقادا إليك الخيل شعثا شوازبا 
يلبَين بالنصر العزيز انتصارك 
إن هذا التنقل الذي فرضته الفتنة على ابن دراج سيجعله يشعر ببعض الارتياح في «سرقسطة» في بلاط التجيبيين عند منذر بن يحيا التجيبي وابنه يحيا، فقد كان هذان القائدان يمثلان صورة البطولة التي عرفها الشاعر في دولة العامريين، شاهدها مجسدة في الانتصارات المتتالية. كان هذان القائدان يدافعان عن الثغور الإسلامية بكل شجاعة وإقدام، وقد حققا انتصارات كثيرة على العدو، فمدحهما بقصائد نجد فيها الصدق والتعلق بهما، والرغبة في الاستقرار بجوارهما، والأمل في أن يرى الانتصارات تتوالى، من ذلك قوله في منذر بن يحيا: 
 جيش يجيش برعد الموت يقدمه 
إلى عداك قضاء جمَ واقعه 
 صباح بارقة لولا عجاجته 
 وليل هابية لولا لوامعه 
 دلائل اليمن في الهيجا أدلَته 
 وأنجم السعد بالبشرى طلائعه 
إن غربة الشاعر لم تنته في «سرقسطة» برغم الارتياح الذي شعر به هناك، فقد انتقل إلى «دانية» عند الأمير مجاهد العامري لعله يجد عنده مبتغاه، وقد بدأت الشيخوخة تدب إلى جسمه، وتضعف قواه الجسدية والذهنية. وفي الأبيات التي مدحه بها تظهر أنه كان يبحث بلهفة عن ملاذ أخير يكون آمنًا ليستريح فيه من هذا الطواف الذي أتعبه، فمن ذلك قوله فيه: 
 إلى أيَ ذكر غير ذكرك أرتاح 
 ومن أيَ بحر بعد بحرك أمتاح 
 إليك انتهى الرَيَ الذي بك ينتهي 
 ولاح لي الرأي الذي بك يلتاح 
 وفي مائك الإغداق والصفو والرَوي 
وفي ظلك الريحان والروح والراح
 وكلَ بأثمار الحياة مهدَل 
 وبالعطف ميَاس وبالعرف ميَاح 
لقد صدقت تنبؤات الشاعر إذ كانت «دانية» آخر طوافه في محنته التي عانى منها في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الأندلس المسلمة، ويذكر المؤرخون أنه توفي هناك بعدما أعياه التعب والتنقل وقد جاوز السبعين عامًا من عمره.
إن الباحث في شعر ابن دراج في المرحلتين اللتين عرفتهما الأندلس المسلمة يلاحظ أن ابن دراج لم يفقد الأمل في المرحلة الثانية لعودة الأندلس إلى مجدها، فالأشعار التي مدح بها ملوك الطوائف نجد فيها معاني القوة العسكرية، وعظمة الملك، لكنها كانت مجرد أمان وأحلام لأن الأندلس في هذه المرحلة بدأت في التراجع والانهيار والضعف برغم المحاولات التي قام بها ملوك المغرب، فالصراع بين ملوك الطوائف لم يتوقف، والتحالفات مع الأعداء كانت سمة مميزة لكثير من هؤلاء الملوك الذين مزَقوا الأندلس شرَ تمزيق، فسهَلت على العدو احتلالها وإخراج المسلمين من آخر معقل لهم في «غرناطة». 
إن شاعرية ابن دراج وبلاغته كانت نموذجًا لما بلغت إليه الأندلس في تلك المرحلة من نضج واكتمال في البيان والفصاحة حتى أصبحت تضاهي بلاد المشرق ولاسيما بغداد عاصمة العلم والأنوار، وكل النقاد ومؤرخي الأدب الذين تحدثوا عن هذا الشاعر أشادوا بقوة بيانه، فهذا الشريف السبتي الشهير بالغرناطي، وهو من أشهر أعلام ونقاد الغرب الإسلامي، يورد أبياتًا بديعة لهذا الشاعر ليشيد من خلالها بقوة شاعريته، والأبيات في وصف مشاعره نحو زوجه وولده الصغير وهو في لحظة وداعهم: 
 ولما تدانت للوداع وقد هفا 
 بصبري منها أنَة وزفير 
 تناشدني عهد المودة والهوى 
وفي المهد مبغوم النداء صغير
 عييَ بمرجوع الجواب، ولفظه 
بموقع أهواء النفوس خبير
 تبوَأ ممنوع القلوب، ومهَدت 
 له أذرع محفوفة ونحور 
فذكر الناقد السبتي قبل هذه الأبيات مكانة الشاعر في البيان فقال: «وممن سبق إلى الإحسان في ذكر الأصاغر ووصف حاله وحالهم عند الوداع بكل ما يصدَع الأكباد ويطرب الجماد أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي من بلغاء الأندلس المقدمين على شعرائها» ■