دستويفسكي حياته المضطربة

دستويفسكي  حياته المضطربة

أثناء مراجعتي لمجموعة من الكتب التي وصلتني كان أحدها من تأليف الأديب المصري «حسن محمود» يعود تاريخ نشره إلى العام 1943م، من مطبعة المعارف في مصر... وقد ورد في الصفحة الثانية: «بمعاونة الدكتور طه حسين بك وانطون الجميل بك وعباس محمود العقاد وفؤاد صروف»... إنهم نخبة الأدباء المصريين واللبنانيين ممن ساهموا في النهضة العربية في بدايات القرن العشرين، وهو ما شدني أكثر إلى هذا الكتاب الذي توقعت بأنه سينقلني معه إلى عالم آخر... «دستويفسكي حياته المضطربة».

 

انتقلت إلى حياة دستويفسكي الأديب الروسي العظيم، الذي تنطلق سيرة حياته المليئة بالتناقضات والإبداعات من مدينة بطرس الأكبر، حيث أرسله والده مع شقيقه إلى تلك المدينة التي كانت في القرن التاسع عشر محط أنظار الشباب الروسي وآبائهم، فوصلها دستويفسكي سنة 1837م للدراسة، وانتسب إلى كلية الهندسة الحربية وتخرج فيها برتبة ملازم، إلا أن الشاب دستويفسكي كانت ميوله تتجه نحو الأدب فأخذ يترجم بعض القصص لبلزاك وغيره وبدأت محاولاته الأولى في الكتابة والتأليف... عام 1844م أقيل من عمله بسبب المرض، والأغلب أن دستويفسكي لم يكن يرغب بالتوجه نحو الأقاليم بل فضّل البقاء في بطرسبرغ لتبدأ حياة الشقاء التي يعتبرها هو حياة الحرية.
في هذا الزمن الذي كان فيه دستويفسكي يفكر بالحرية وكانت أوربا تنير العالم بالمفكرين والفلاسفة... كانت الحكومة القيصرية تنظر إلى المفكرين الروس بالخوف والكراهية... رغم أن هذا القرن (19) كان من أغنى عصور روسيا بالمفكرين والأدباء... المفكرون والأدباء الذين اقترنت حياتهم بالشقاء والفقر كما في كل العصور في الدول التي تتحكم بها الطبقات المستبدة أو الفاسدة... فالمستبد الفاسد ينظر إلى المفكرين نظرة خوف لأنه يدرك أنهم لن يكونوا طوع إرادته، وأن قدرتهم على الولوج داخل عقول الناس قوية رغم أن المستبد حول معظم الناس إلى قطيع.
كان دستويفسكي يمضي أيامه ولياليه في الكتابة ليولد مؤلفه (جماعة المساكين) التي نشرت بعد أن نالت إعجاب الناشرين والأدباء والنقاد... ونجحت نجاحًا عظيمًا... ولكن هل للأدباء مكان في روسيا بطرس الأكبر؟ لقد كان القيصر ومحيطه يخشون الحركات الفكرية، لقد ارتعبوا من كتابات فولتير وجان جاك روسو وخشي القياصرة على عروشهم بعدما وصلت أصداء كتابات هؤلاء المفكرين إلى الداخل الروسي، لذا زاد القياصرة ورجال الدين في سياسة كبت الحريات واستمرت هذه السياسة مع القيصر الجديد نيقولا الأول. لقد صار «رب الفكر أو القلم رجلاً غير مرغوب فيه في هذه الدولة، ومع ذلك كان هذا العصر من أخصب عصور روسيا في الأدب والفكر».

نحو السجن
رغم الشهرة التي حققتها له قصة (جماعة المساكين) إلا أن دستويفسكي لم يحافظ على سمعته الشخصية بالشكل الملائم، لقد كان هذا الأديب يحمل الكثير من العيوب الشخصية رغم نتاج عقله... فابتعد عنه الأصحاب الأدباء ليبحث عن صحبة جديدة وجدها في مجموعة تعمل في الأدب والسياسة، كانوا يقضون الليالي الطويلة في المناقشات حول الحرية والتأثر بإصلاحات أوربا والاضطهاد الفكري في روسيا.
إلا أن هذه الجماعة قُبض عليها سنة 1849م، بعدما نقل أحد الجواسيس تفاصيل اللقاءات التي وصلت إلى حد الدعوة إلى إسقاط حكومة القيصر، وبعد سلسلة تحقيقات نُقل المتهمون إلى إحدى ساحات المدينة وتليت عليهم أحكام المجلس العسكري بالموت بحضور الجماهير التي كانت تصطف صامتة.
وما كادت تحين اللحظة لتنفيذ الحكم حتى صدر حكم العفو من القيصر: «إن جلالة القيصر الرحيم الرؤوف يهب لكم الحياة»، وتم العفو عن أحدهم وحكم على الآخرين بالنفي والسجن.
وسارت قافلة الشبان التعساء ومن بينهم دستويفسكي نحو السجن في المنفى عبر جبال الأورال إلى سيبيريا.
لقد كان للسجن مع ما فيه من آلام الأثر الكبير في حياة الأديب دستويفسكي، فطيلة الـ4 سنوات التي قضاها في سجن سيبيريا صهرته ليخرج رجلاً آخر، وليصدر له كتابه الخالد (بيت الموتى) وهو من أعظم مؤلفاته... يحكي قصة رجل قتل زوجته سُجن لعشر سنوات وعاش في سيبيريا يعلّم أبناء الموظفين، ثم يكتب مذكراته ويرسلها إلى أحد أصدقائه يصف من خلالها السجن ونزلائه وحياتهم اليومية ويحلل شخصياتهم... إنها قصة كل الشعب الروسي في السجن وهي قصة دستويفسكي السجين.
بعد خروجه من السجن عاش دستويفسكي في المنفى السيبيري وتعرف على بعض الأصدقاء، لكنه لم يتخل عن العلاقات بالنساء حتى ولو كن متزوجات، وشغلته قصص العشق والبُعد والمرض عن واقع البلاد وحروبها وأزماتها، وما قصته إلا قصة الوطن وأزمته... فها هو يضع قصيدة يرثي بها القيصر المتوفي نقولا الأول ويرسلها إلى أرملة القيصر لعل ذلك يساهم في التخفيف من معاناته في المنفى ويحصل على العفو للعودة إلى بطرسبرغ.

العودة للوطن
لم يكن هذا الأديب يسمح له بنشر مؤلفاته وإبداعاته، المنفى هو منفى للعقل أيضًا، لذا زادت حالته الصحية سوءًا وزادت نوبات الصرع التي كان يعاني منها، لقد كان الأدب هو الوسيلة الوحيدة ليحسّن من وضعه المادي، إلا أن روسيا كانت قد نسيت في المنفى أعظم كتّابها.
ويرسل قصيدة إلى القيصر الجديد بمناسبة تتويجه، لعلّها تساهم في العفو عنه والخروج من المنفى الكئيب، ويساعده بعض الأصدقاء في التوسط لدى بلاط القيصر حتى صدر قرار السماح له بالعيش في ضواحي موسكو سنة 1860م، ومن ثم الانتقال إلى بطرسبرغ أخيرًا... لتبدأ حياة الأديب من جديد فأنشأ مع شقيقه مجلة أطلق عليها اسم (فريميا) أي الزمن، وعاد دستويفسكي إلى قرائه وإلى قلمه ومنها قصة (محقرون ومهانون)، إلا أن كل المال الذي كان يكسبه كان يضيع على طاولات القمار والخمر والنساء.
لقد كانت حياته المتقلبة مع ما فيها من إبداعات وفشل وفقر ونجاح قصص قد تكون وردت في مؤلفاته، فهو يكتب عن نفسه التي ترتكب الآثام ومن ثم تندم على ما تقترف، وقصة (الشياطين) التي وضعها جزء من قصة بطلنا الضائع بين العقل واللذة والرذيلة.
وتتعطل مجلة (فريميا) بأمر من الحكومة الروسية، وتفشل المجلة الثانية (الايبوك) وتعود المتاعب إلى قصة حياة دستويفسكي حيث ماتت زوجته الأولى بالمرض، وفي تلك الأثناء وضع أهم قصصه (الصوت الخفي) «يعبّر فيها عن مخلوق تعيس وخجول ومزهو بنفسه، ينتقل من الكرم والسخاء إلى أبغض أنواع البخل والرذيلة»، إنها قصته هو وحياته الضائعة بين العقل واللذة، كما حياة معظم الناس في هذه الحياة البغيضة.
ويموت شقيقه ميخائيل بعد وفاة زوجته فيتحمل أعباء أسرة شقيقه، وتزداد ديونه تراكمًا ويلاحقه الدائنون، لذا كان يقبِل على الكتابة لكسب المال، ويجد زوجة ثانية كانت مخلصة بذلت كل ما في وسعها لمساعدته في عمله الأدبي وإسعاده... وكانت أول مَن يسمع رواياته، إنها «أنا» التي ملأت حياته وكانت سندًا له... عاشت معه عشرين عامًا وبعد موته نشرت مذكراتها عنه وتظهر أنه كان مثال الرجل الطيب والزوج الصالح.
سافر دستويفسكي إلى خارج روسيا في جولة على بعض الدول الأوربية للاستشفاء ومعه زوجته، إلا أنه لم يترك عادة المقامرة التي كانت تعيده إلى نقطة الصفر من جديد، وفي تلك السنوات 1856م - 1866م، كانت سنوات الأدب القصصي الروسي حيث ظهرت قصة الحرب والسلام لتولستوي تبعتها قصة (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي، إنها قصة الحياة القذرة التي يعيشها سكان المدن وقصة الطالب الفقير البائس الذي يقتل جارته العجوز الغنية والبخيلة لأجل المال، لكنه يندم ويسلم نفسه للعدالة، لقد رأى قرّاء ذلك الزمن أن قصة الجريمة والعقاب هي صورة عصرهم ورغم غضب الطلاب على كون البطل طالب وقاتل إلا أن جريمة وقعت في موسكو ارتكبها طالب اعتبرت قصة دستويفسكي نبؤة مما ساهم أكثر في شهرتها.
أمام حياته المضطربة لم يكن أمام بطلنا الأديب إلا أن يكتب ويكتب ليحصل على المال فكانت قصة (الساذج) اعتبرها النقاد من أعظم قصصه، و(الزوج الأبدي)، وبعدها (الشياطين)... وبعد خمس سنوات عاد دستويفسكي مع زوجته إلى بطرسبرغ، حيث أخذت زوجته تدبلا أموره واتفاقاته مع الناشرين وعلاقاته بالدائنين، فلقد تأكدت بأن زوجها الأديب الكبير لا يعرف كيف يفاوض ويبيع كتبه، فنشرت روايته الشياطين في كتاب وأخذت تجمع المال وتسدد الديون بإدارتها في الوقت الذي كان فيه أديبنا غير مدرك للأمور، وتغيرت وجهة حياته بعد ذلك فأخذ يسعى إلى أن يؤدي دورًا في قيادة الحركة الفكرية في بلاده فأصبح رئيسًا لتحرير صحيفة أسبوعية اسمها (جرازدنين) لتولد سلسلة مقالاته الشهيرة تحت اسم مذكرات مؤلف.
وتوطدت سلطة أنا على زوجها الأديب وأصبحت تدير كافة شؤونه، وأبعدته عن أطماع أسرته، حيث النزاعات العائلية والورثة وغيرها وهي ما ظهرت في رواية (الشباب الغض) لكنها لم تكن بعظمة الجريمة والعقاب والساذج.
وفي آخر حياة بطلنا نشر روايته الشهيرة (الأخوة كارمازوف) إنها قصة رجل مستهتر بلغ سن الشيخوخة لم يتخل عن لهو الشباب، إنها قصته، وقصة عائلة مجنونة - بجنون الكراهية، لقد بلغ دستويفسكي من خلال هذه القصة أوج مجده.
مع شهرته أخذت تصله الرسائل من كل حدب وصوب وكان يجيب عليها كلها بلا ملل، كما شارك في تكريم الشاعر بوشكين 1879م في احتفال أقامته بلدية موسكو وكانت لكلمته صدى كبير «كان دستويفسكي من الحكمة» في هذه الكلمة أن كسب قلوب وعواطف كل من سمعها حتى أخذ الحاضرون يبكون ويتعانقون.
بعدها وضع دستويفسكي برنامجًا لمؤلفات يكتبها في عشر سنوات، وكتب أنه عازم أن يعيش ويكتب مدة عشرين سنة، إلا أن نوبات الصرع وتعب الرئة أثرت به ليترك عالمنا سنة 1881م، فاجتمع رجال روسيا وشبابها من جميع الفئات والأحزاب ليكرموا الرجل الذي ساهم في صناعة مجد روسيا والعالم الأدبي ■