الأدب والتراث استعادة المكروه للمستقبل

تواجه الثقافة العربية عديدًا من التحديات المعقدة، لعل أبرزها تحدي الهوية، ففي ظل تراجع المشروع القومي العربي، وتصاعد النبرات القُطرية، يبقى سؤال الهوية أساسيًّا للمستقبل؛ لذا فإن علاقة الأجيال الجديدة باللغة العربية وآدابها، باتت علاقة محورية للمستقبل، فضعف هذه العلاقة بات يهدد هويتنا حتى القُطرية.
إننا هنا نبحث في قدرتنا على التكيف مع التحديات المعقدة التي نواجهها:
- فمن الضروري الآن التصحيح الذاتي Self-Correction من خلال التعلم من التجارب والاستفادة من تراكم الخبرات. ففي حقيقة الأمر أدى الانكفاء العربي على الذات الوطنية إلى مساحات من الفراغ جعلت تيارات العنف تنفذ من خلالها إلى هذه الأجيال، فالاستهتار بمدرس اللغة العربية واللغة العربية الفصحى على شاشات التلفاز أدى إلى نتائج سلبية، فضلًا عن الترويج لنصوص أدبية تفتقد الجمال، وطرق تدريس عقيمة.
- إن الأمر يتطلب الآن - وليس غدًا - الانفتاح على الأفكار المختلفة والمتضادة بشأن التعامل مع اللغة الوطنية وأدبها كأساس للهوية الوطنية، خاصة أن هذه اللغة ترتبط بالدين الذي يدين به أغلب المواطنين، وهو ما يحفز أهمية تجنب الثبات على مجموعة حلول تقليدية للتعامل مع التحديات كافة.
ويبقى السؤال الأساسي هو هل باتت اللغة العربية وآدابها محل تساؤلات اليوم في ظل تصاعد الرغبات في ترسيخ دور العامية (كالعامية المغربية) في المناهج الدراسية، أم أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير؟ إن التحليل الدقيق لمعطيات الأجيال الجديدة، سيجد أن اللغة العربية تمثل بالنسبة لهم مفتاحًا إما للتطرف ثم العنف أو للذهاب نحو التوازن النفسي والعطاء، وهو ما يفسر على سبيل المثال: كثرة إقبال الجيل الثالث من المهاجرين في الغرب على دراسة اللغة العربية، ليتجاوز موضوع الهوية الوطنَ إلى خارج حدوده، ويجد هؤلاء لدى تيارات الإسلام السياسي إجابات عن أسئلتهم، في ظل سياسات دول كألمانيا وفرنسا تعزّز اللغة كرافد أساسي للهوية الوطنية.
للعربية طريقتان للتعبير عما يتصل بحقل المعنى تتمثلان من ناحية في كلمة «معنى» والفعل المشتق منها أي «عنى»، ومن ناحية أخرى في الفعل «دلَّ» وكل ما اتصل به من أسماء وصفات (دالّ، مدلول، دلالة، دليل، استدلال)؛ فالمعنى هو القصر، فأبو هلال العسكري يقول في كتاب الفروق: «المعنى هو قصد قلوبنا إلى ما نقصد إليه».
المعنى هنا يتعلق أساسًا بالخطاب، وهو ما يريده المتكلم من كلامه، وهو ما يجعل البعض يرى أن المعنى يوجد خارج اللغة وينشئه المتكلم وهو ينجز الكلام.
كلمة «معنى» لها مدلول دال على مكونات الجملة، فحسب تعبير ابن الخشاب: إن أساس التقسيم هو المعاني التي تضطلع بها الكلمات في الكلام والجمل، وهي: ذات يخبر عنها وهي الاسم، وخبر عن تلك الذات، وهو الفعل، وواسطة بينهما، إما لإثبات الخبر للمخبر عنه، أو لنفيه عنه، أو لغير ذلك من المعاني، وذلك هو الحرف.
من أجل هذا، فإن دلالة المعنى عن شيء بعينه، هي السياق الذي تقوم به اللغة في حياتنا، فإن كان هناك خلل في إيصال المعنى للمخاطب، فهذا يعني أن هناك خللًا في التواصل بيننا، وجماليات معنى هذه اللغة تنعكس على كل شيء في الحياة، فهل جماليات اللغة تبني النفس الإنسانية وبهجة التواصل؟ فالإعراب في اللغة العربية «إنما يؤتى به للفرق بين المعاني...».
هذه المعاني هي بطبيعة الحال ما يسمى بالوظائف النحوية، أي دور الكلمات في التركيب باعتبار علاقة بعضها ببعض، وهذا الدور كامن حسب الجرجاني في الألفاظ، يوجد فيها بالقوة، إن جاز التعبير، فلا تبرز إلا بالإعراب، يقول الجرجاني: «الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها».
ما سبق يقودنا إلى أزمة اللغة العربية، هذه الأزمة مرتبطة بتراجع دور علماء اللغة في تقديمها، فالنص الأدبي نثرًا أو شعرًا، هو الأساس الذي يجذب المخاطب (مستمعًا أو قارئًا) إلى اللغة فيجعلها تنبض، وهو ما أدركه القدماء فقدموا لنا علمًا مهمًا هو «فقه اللغة»، الذي ألَّف فيه أبو منصور عبدالملك بن محمد النيسابوري الثعالبي في (القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي) كتاب «فقه اللغة وسر العربية»، جمع الثعالبي في كتابه بين أمرين مهمين: الحشد الابتكاري لأسماء وأوصاف ما يدور في فلك اللغة العربية، وتبيان أسرارها وخصائصها، فوجدنا بحثًا مقارنًا في هذا الميدان بين بعض صيغها وبين الفارسية، وبينها وبين الرومية. وهو ما نستطيع أن نشبهه بابن خلدون في مجال العمران وعلم الاجتماع.
ويلفت الثعالبي نظرنا إلى الكنز الثمين في العربية خاصة جزالتها ودقتها في أداء المعاني المنشودة، في دقة لا يجاريها فيها مُجارٍ، ولا يسايرها مساير.
استوعب الكتاب ضروب الحياة والأحياء البرية وملابساتها من جماد ونبات، لكن أهم أبوابه، الباب الثالث، وهو معقود فيما يختلف أسماؤه وأوصافه باختلاف أحواله.
وهو بحث بعد ذلك يُعد فلسفيًّا. وتأتي أهمية هذا البحث في معرفة الأوصاف والأسماء التي تطلق وحدها على هذه الأشياء، فلا يكون فيها دخل أو تخليط.. كما هو حاصل في عصرنا الحاضر من أغلب كتابه وأدبائه ومتعاطي فن التأليف والخطابة فيه... وحتى الشعر.
مثلًا تراهم يطلقون (الكأس) على الملآنة والفارغة... وهذا خطأ فالكأس في لغة العرب هي التي فيها الشراب فقط، فإذا كانت فارغة فهي زجاجة، هذا الباب يشير إلى التوفيق الذي صاحب واضعي اللسان العربي في إجادة الترتيب الفني لما وضعوا له الأسماء.. والأوصاف. فالصبح أول النهار، والغسق أول الليل، وصدر كل شيء أو غرته: أوله، وفاتحة الكتاب: أوله، وشرخ الشباب وريعانه وعنفوانه وميعته وغلواؤه: أوله، وتباشير الصبح أوله.
ومن أواخر الأشياء: السُّكَّيْت آخر الخيل وصولًا في الحلبة.
والأشياء في هذه الدنيا إما صغيرة أو كبيرة، وإما عظيمة أو ضخمة... واللغة العربية وسعت كل هذه الأشياء بتفصيل وتدقيق وترتيب دقيق، فالحصى: صغار الحجارة، والحشرات: صغار دواب الأرض، والغوغاء: صغار الجراد، والجدول: النهر الصغير.
أما اليفن: فهو الشيخ الكبير، والقلة: الجرة الكبيرة... لا كما يستعمله الناس اليوم.
ويصف الثعالبي الرجل القصير بالدحداح، فإذا زاد قصره وصف بأنه (حنبل) وحزنبل. ثم إننا نجد الثعالبي في «سر العربية» يحدثنا عن ترتيب حسن المرأة: الوضيئة: من بها مسحة من جمال، والغانية: المستغنية بجمالها عن الزينة، الرائعة من تسر النظر برؤيتها، والباهرة: التي تغلب النساء بحسنها.
ومن تقسيمات الحسن لديه: الصباحة في الوجه، والنضارة في البشرة، والجمال في الأنف، والحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد.
فمن أراد أن يكون أديبًا عربيًّا بحق... فعليه أن يراعي وضع مثل هذه الأوصاف في مواضعها المذكورة فإنها لم توضع هكذا عبثًا... وبذلك يستكمل وجوه الفصاحة ويعلو في فن الأدب أعلى الرتب.
العلم نص أدبي
وقد كشف لنا كتاب الثعالبي عن أن الكتب المتخصصة التي تجود بها قرائح العلماءُ العربُ تصقل عقول العرب وغير العرب من المسلمين، فكثرت كتب الطبقات والأهالي والحماسات والوفيات والموسوعات وكتب العلوم بين رياضة وهندسة وفلك وكيمياء وفيزياء وحيوان ونبات وغيرها، وهو ما يحتم - بداهةً - أن نرى في بطونها نصوصًا أدبية ما بين نثر وشعر، فصيغ العلم أراجيز شعرية، بحيث أصبح العلم نصًّا أدبيًّا تتلقاه العقول بسهولة وتستوعبه وتردده، ونحن اليومَ نعلّم أطفالنا بالأشعار الملحنة في أغانٍ طريفة سلسة، فكأن استيعاب العلم هنا صار يحمل وجهين: وجه الجدة/ وجه الطرافة.
ولذلك صاغ أحمد شوقي أمير الشعراء أشعارًا للأطفال، وكتب نجيب الكيلاني حتى صار لدينا مدارس لأدب الطفل، لكنها الآن في أضعف مراحلها لضعف بنية النص وعدم إقناعها للطفل المتلقي؛ إذ تصاحبه في الغرب أفلام كرتون ثلاثية الأبعاد، تصبح بالنسبة له هي الترف مع جدة العلم في النص الأدبي.
ما سبق يقودنا إلى القول بأن أي نص له سياقه الاجتماعي والثقافي، وأي ثقافة يجري التعبير عنها عبر نصوصها، تكتسب النص أهميته حين تعترف هذه الثقافة بمدلوله، وفي ظل الحضارة العربية الإسلامية تتضح ملامح أو شروط معينة لمؤلف النص، يشير السياق إلى أن المؤلف الحجة ليست له طفولة، وأنه يولد حينما يلتقي بشيوخه، وعندما يجيزه شيوخه يصبح في مستواهم ويقوم بتبليغ النصوص، ويصبح أحد أعمدة الثقافة، بل إن اسمه يتغير بإضافة ألقاب تحدد وضعه الجديد.
ومن ثَمَّ، فإننا لا بُدَّ أن نتعامل مع النصوص بحسب موضوعها: فثبات النص هو قيمة في حدّ ذاته في مجال النص الديني، فضلًا عن أن ثبات النص قيمة كبرى في مواجهة الأخطار التي تهدد ثقافة معينة، ولذا نستطيع أن نفهم لماذا تحرص جماعات الإسلام السياسي على وضع هويتنا موضع التهديد الحاد، ثم وضع نصوص بشرية موضع التقديس، كلاهما على حد واحد مرتبطان، فيصبح قبول هذه النصوص مساويًا لثبات النص الديني عند الجمهور، في حين إن بعضها نصوص أدبية، والآخر نصوص ألفت أو وضعت في سياقات تاريخية تستلزم استدعاءها لفهمها، والنص الأدبي يفقد قيمته إذا اختلت بنيته وصورته التي أبدعها الأديب، وأما في المجالات العلمية كالطب والفيزياء وغيرها فإننا لا نجد هذه القداسة أو الأهمية للنص في ذاته، وإنما تكمن أهميته في محتواه.
نصوص مهملة
هذا يقودنا إلى النصوص المهملة من الأدب العربي، فالنثر العربي في بساطته في كتابات طه حسين تراجع بقوة، وكذلك الشعر العربي توارى بسبب الإعلام، فضلًا عن أن بعض الفنون العربية التي توارت على الرغم من تجذرها ودورها التعبيري عن المجتمع، فهل كان المتطرفون ضد أجناس الأدب المختلفة، أم أنهم والمستغربين كليهما جنحا ضد هذه الأجناس.
ومن هذه الأجناس الموال، وهو نوع من الشعر الشعبي ينظم في لغة ملحونة من بحر البسيط، كان منشؤه في العراق في القرن الثاني الهجري، ثم ذاع في البلاد العربية ولا سيما في مصر، ومن شائع ضروبه، النظم على المسمط الرباعي الموحد القافية في كل مقطوعة عدا الشطر الثالث فهو حر القافية الأولى، موحدة القافية غالبًا في الأشطار الأربعة أو الخمسة، وهو ما يقابل التصريع في القصيدة الفصحى. وقد تطور الموال فأصبحت مادته تصاغ من حياة المجتمع، ومن التاريخ القومي والمحلي، والأساطير، والأدب الشعبي، وتدور حكاياته عادة حول المغامرات والحروب والبطولة، ثم ذاع في الريف المصري، وانتقل شفاهة على ألسنة المنشدين الذين يصاحبهم عادة عازف أو اثنان على آلة الأرغول أو الربابة.
ومن أمثلة الموال الموحد القافية، ما أورده ابن خلدون في مقدمته:
طرقتُ باب الخبا قالت: من الطارق؟
فقلت: مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق
رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
يقول ابن خلكان إن أصل هذا اللون من الشعر هو المراثي التي كان صنائع البرامكة في العصر العباسي يبكون بها «مواليهم» حينما نكّب هارون الرشيد بالبرامكة، وكانوا ينظمونها بلغة عامية ليست بعيدة عن الفصحى ويختمونها بصيحة «يا مواليًا»، ولكن هذا النوع حينما شاع في الوطن العربي أصبح ينظم في سائر الأنواع الشعبية من غنائية وقصصية وملحمية وفي المناسبات الاجتماعية المختلفة.
هذا يعني أن الأدب حتى وهو بالعامية، معبر عن الهوية التي ارتضاها المجتمع، معبر عن آلامه وطموحاته، عن المفردات اللغوية التي اختارها. فالقضية تكمن في الفصحى في بساطتها، والعامية في قوة تعبيرها، كلاهما نحن في حاجة ماسة له، لأن الفصحى هي مقياس الكمال، والعامية هي مقياس التداول في الحياة اليومية.
من أجل ذلك، تكمن قوة التعبير عند نجيب محفوظ في أدب يؤرِّخ للمجتمع وتحولاته، عاداته وتقاليده، بل أحيانًا يكتب عما لم يكتب عنه المؤرخون كالفتوة بأبعادها... إلخ، فهل كان نجيب محفوظ فيلسوفًا أدبيًّا مدركًا لخطورة البحث عن الهوية، لذا كان مختلفًا عن غيره من أدباء جيله؟
مربط الفرس وصفوة القول وزبدته، إننا في حاجة إلى ما يمكن أن نسميه الثقافة اللغوية، التي تجعل النص اللغوي مدخلًا لتعلم اللغة والتعلم عبر اللغة، فيكون النص أداة لتعلم الصرف والنحو وليس العكس، وهو ما يجعل من النص متعة نحسها وندركها عبر عواطفنا حين يستثير العواطف، وعبر عقولنا حين يجعلنا نفكر في معانيه وجمالياته، وبعد كل هذا هل يؤكد النص الأدبي اللغوي الهويةَ ويرسِّخ سمو النفس الإنسانية ويرتقي بها بعيدًا عن العنف؟ ■