بلاغة الفراغ وهشاشة الذات في رواية «دار خولة» لبثينة العيسى

في رواية «دار خولة» لبثينة العيسى (منشورات تكوين 2023م) تبدو الذات الفردية في أوج حضورها وهشاشتها في آن واحد، وذلك بفعل الرقمنة وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي التي تتشكل على عينها الأنا الافتراضية، بوصفها محصلة للتحولات الجذرية التي تعرضت لها تلك الذات في تماسها مع الواقع الافتراضي وحضورها الإعلامي، فتخضع الذات للتنميط مهما حاولت أن تُغيِّر من الصورة النمطية لها؛ وذلك بفعل الأرشيف والتداول المستمر المشكل لهويتها في مرايا الآخر.
من خلال سرد مكثف ولاهث تتوقف العيسى أمام جملة من القضايا الملحة الطارئة حول التفكك الأسري والمأزق التربوي المعاصر، والفجوة بين الأجيال، وتفريغ الدلالات من مدلولها، وتنميط الصور، وبعثرة المفاهيم وإفراغها من مضامينها، وهو ما يجعل الذات عرضة للتشويه المستمر، وهذا ما تعانيه شخصية خولة بطلة الرواية بوصفها ذاتًا صنعت افتراضيًا من خلال حضورها كشخصية شهيرة لها مساهماتها المتلفزة التي شكلت صورتها في عين أبنائها وتركت بينهم ندوبا لم تلتئم.
المتن الحكائي
لا تعاني خولة من مجرد الوحدة حيث يعيش معها ولداها: يوسف وحمد، فيما غادرها الابن الأكبر ناصر منذ سن الخامسة عشرة، ليعيش مع جدته؛ إنما تعاني أيضًا من الاغتراب الناتج عن تفكك أسري جعل كل شخصية من شخصيات الرواية الخمسة في جزيرة نائية، فبدت خطوط التواصل ما بينها شديدة الاهتراء.
بعد سبعة أعوام من انحسار الأضواء عنها تأتي على خولة فرصة العودة إليها مرة أخرى من خلال برنامج تلفزيوني، لا ترى خولة أن لها محيطًا بالمعنى المفهوم إنما حوض سمك فارغ. بدأ من العنوان والعَلم التراثي الذي يشغل حيزًا في الطلليات الشعرية نجد أن نظرة خولة إلى البيت سلبية بناء على طبيعة ساكنيه، وفي العنوان تستبدل الدار بالبيت لما يحمل الدار من إشارة إلى الأرض والبناء معًا بخلاف البيت، ذلك أن فقد الدار هو فقد لمعنى الذات والأرض معًا، وبرغم حضور الشخوص في البيت بصور مختلفة إلا أنه حضورٌ أشبه بالغياب لما فيه من هشاشة وتمزق.
وينطلق السرد في رواية العيسى من نقطة مركزية تتصل بالعودة بعد انقطاع سنوات إلى الأضواء واحتفالها بإمكانية تحققه من خلال بناء عائلي يمكنها أن تقدمه في حوارها مع رندة مقدمة البرنامج، ومن ثم كان الطعام مرتكز البناء السردي على مستوى الخطاب والعائلي على مستوى القصة، لكنه أيضًا مرتكز لاسترجاع طبيعة علاقتها مع أبنائها الثلاث على اختلاف مشاربهم بل وهوياتهم، وعليه فإن كل ظهور لشخصية على مسرح الأحداث يرتبط بعملية استرجاع ما تلبث أن ترجع إلى نقطة التمركز حول الطعام سواء أكان المطبخ أو المائدة.
المائدة ومعنى الطعام
يمثل الطعام نسقًا ثقافيًا رئيسًا في حياة المجتمعات عمومًا، وكثيرًا من يعد أداة ربط وتفكيك أيضًا، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فالمائدة تمثل دلالة اجتماعية حال تحلق أفراد العائلة حولها، بما يتضمنه من معاني جمع الشمل، ولعل أكثر تصورات العائلة فعالية يتصل بهذا التحلق أو تقاسم الطعام، وعليه فإن كثيرًا من اضطراب العلاقات بين الأم وأطفالها يرتبط بأنماط مشوشة في تناول الطعام أو الحرمان منه.
والطعام هو أداة خولة لبناء آلية للتواصل، فكثيرًا ما كانت تدس الحلوى والفستق باعتبارها فخاخًا لصيد الأبناء لإعادة أمومتها المعطلة بانتظار أن يتناولها أحد من الأبناء وتشعر بأمومتها حين يطلب حمد منها أن تطعمه، ومن خلال الطعام تحاول خولة أن تستعيد أمومتها المعطوبة، وفي رواية العيسى يرمز الطعام إلى التفكك الأسري، حيث لا تجتمع أسرة خولة على مائدة، فكلٌ من يوسف وحمد الأصغر ليس له موعد للطعام، كما إنهما يتناولانه منفردين في غرفتيهما، وتمثل الدعوة إلى المائدة احتفالاً بعودة خولة إلى الأضواء مرتكزًا أساسيًا في بناء السرد وتحولاته إضافة إلى الكشف عن طبيعة كل ابن من الأبناء الثلاثة على اختلاف توجهاتهم.
إن المائدة تحمل معنى نفسيًا يتعلق بذات خولة وشعورها بأمومتها، لذا نلحظ أن فيض مشاعرها ينصب حول أطعمة ومأكولات بعينها لولائم متخيلة لا تجيء، حيث تتمحور أهمية الطعام بوصفه بؤرة رئيسة لبناء العلاقات السليمة بين أفراد الأسرة، وبناء عليه جاء اختلاف ناصر الابن الأكبر ويوسف الابن الأوسط حول مائدةٍ للطعام لم تحقق أهدافها، إن الالتفاف حول المائدة هو التفاف حول معنى تفتقده خولة، حتى ليفقد البيت بالأساس معناه ليصبح حطام بيت، ولذلك ارتبطت عودتها إلى الأضواء باقتراح العشاء العائلي والتقاط الصور اللازمة للبرنامج وطبيعته، ويمكننا القول إن حضور المطبخ في السرد لا يتمظهر إلا من خلال زاوية السارد المتماهي مع خولة، وزادت مساحة حضور الطعام بصورة تكثف معناه ودلالاته الرمزية في الرغبة في بناء لُحمة عائلية مفقودة، وأداة أساسية للتواصل من خلال الحوار المتبادل بحثًا عن مساحة مشتركة بين جيلين منفصمين، فتطلب - مثلاً - من ناصر الغائب عنها أن يتكرم وينتف لها أوراق الكزبرة والنعناع، ولكن ما لبث هذا المشهد الحواري أن كشف عن عمق الهوة أكثر من أن يبني جسور تعارف مشتركة.
بلاغة الفراغ
وتتمظهر هذه البلاغة على عدة مستويات تشتغل متنًا ومبنى، بدءًا من فراغ حوض الأسماك، كمعادل موضوعي لفراغ البيت، إضافة إلى فراغ الذات وفردانيتها، وانقطاع خطوط الاتصال المتـــبادل بيـــن كل أفراد العائلة، ولم يحدث ذلك بعد وفاة الأب قتيبة الذي لعب خطابه المتمركز حول الشعر والأدب التراثيين دورًا في بناء هذا الفراغ، بعدم تعاطي الأبناء معه في ظل ثقافة متأمركة، ثم ما ترتب على ذلك من فراغ كثير من المصطلحات والمفاهيم الثقافية التي تلوكها الأم من دلالاتها بالنسبة للأبناء، حتى تحولت لأداة للسخرية والمزاح.
إن المكان الفارغ ممتلئ بالدلالة وفقًا لطبيعة الحدث، فهو ليس مجرد الإطار الضَّام له أو للشخصيات في تفاعلها، ولا يرتبط ذلك بحضوره أو عدمه، إنما يرتبط بدوره في الأساس وتأثيره، وتدور أحداث الرواية في ثلاثة دوائر مكانية تختلف في درجة حضورها ودلالته، فهناك الكويت الدائرة الكبرى التي ينطلق منها السرد من خلال زمكانية خاصة بحرب تحرير الكويت وتبلورت من خلالها علاقة خولة مع أمريكا والأمركة، وبداية تهرؤ العلاقات مع صعود النموذج الأمريكي في الحياة والتعليم، فالأكبر ينفصل عن الأسرة مبكرًا، فيما يمارس الأصغر عزلته الخاصة، ويبقى التعليم بوصفه الجدار السميك لبناء العزلة بين الأجيال رغم أهميته في بناء التواصل الفعال والناجع.
أما الدائرة الثانية فهـــي دار خولة وهو عنوان الرواية، التي تتحول إلى طلل بفراغها من معنى الأسرة الحقيقي وبوصفها الدائرة المركزية الذي تتشكل من خلاله الشخصية وتعالقاتها بأبنائها الثلاثة وزوجها الراحل، وأخيرًا الدائرة الثالثة حوض السمك الذي يمثل معادلاً موضوعيًا لخولة ذاتها، وفراغه من الأسماك يحمل دلالة رمــزية تتجاوز البعد الاستعـــاري إلى الانفتاح التأويلي بحيث تشير كل دائرة مكانية إلى الدائرة الأكـــثــــر اتساعًا، وفراغ الحوض من الأسماك حتى إن السمكة التي جاء بها حمد الابن الأصغر بعد نهاية الحفلة العائلية نهاية مأساوية؛ كان مصيرها الموت؛ ليمثل الحوض استعارة كلية لأسرة مفرغة تمامًا من معناها، أما الأكثر خطورة فهو فراغ الكلمات من دلالاتها وفقدها لمعانيها القارة بفعل الزمن الرخو والقطيعة الثقافية بين الأجيال ■