توفيق الحكيم بين التراث والمعاصرة

توفيق الحكيم  بين التراث والمعاصرة

بإمكانك أن ترى التراث حيًا، وأن تشاهد الماضي يتحرك على قدميه أمامك، ينهض من الموت ويتجوَّل في الحاضر، بل يمكنك في لحظة فارقة أن ترى التراث يقف أمام المعاصرة، والماضي يبتسم أمام الحاضر، كلاهما يواجه الآخر، يحاول التراث أن يقول إن الحياة الآنية هي حياته، بل يحاول أن يسيطر على شخصية الحاضر ويجعلها تراثًا، لكن الحاضر يرى التراث ويعرف أنه ماضٍ ولَّى وانتهى، سترى التراث أمام المعاصرة كلاهما يقول أنا الأحقّ بالحياة، سنشاهد المواجهة الحيَّة بين التراث والمعاصرة عند متابعتنا لمسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم.

 

المرشد للمنظر في الفصل الأول من المسرحية ينبئ عن الاستخدام التراثي للنص المقدس، والاعتماد عليه في صلب العمل، يقول الكاتب في الملاحظة الجانبية (الكهف بالرقيم، كلب باسط ذرعيه بالوصيد. ص 9)، وهو استخدام صريح للنص، وما يؤكد ذلك ما ورد على لسان مرنوش حين سأله مشلينيا (كم لبثنا ها هنا؟ أجاب مرنوش: يومًا أو بعض يوم. ص 10).
تكشف المسرحية في مطلعها عن علاقة حب بين مشلينيا وفتاة ألمح إليها الكاتب منذ الدقائق الأولى في عرض المسرحية، مما يجعل القارئ المشاهد لديه استعداد كامل لتصور أن علاقة الحب حدثت منذ زمن وما تزال قائمة، بدا هذا مكشوفًا من لهفة مشلينيا للخروج من الكهف لحبيبته؛ ففجأة قال وهو نافد الصبر «أريد الخروج من هذا المكان، ص14»، على الرغم من الخطر المحدِّق بهم جميعًا، ونعرف من مرنوش أن اسم الحبيبة بريسكا، ويكشف مرنوش أيضًا عن دقائق العلاقة بين مشلينيا وبريسكا، فنعلم أنه أرسل لها رسالة وأنه أرسل لها أيضًا صليبًا صغيرًا من الذهب، وهذه الإيماءات ستفيد كثيرًا حين نتعمَّق في المسرحية، علاقة الحب بين مشلينيا وبريسكا ستكون العمود الخفي الذي ستعتمد عليه المسرحية في المواجهة الحميمة بين التراث والمعاصرة.

التراث داخل روح المعاصرة
نكتشف في الفصل الثاني أن بريسكا التي يحبها مشلينيا قد ماتت منذ ثلثمائة عام وهي المدة التي مكثوها داخل الكهف، وأن هناك فتاة تحمل الاسم نفسه، هي الأميرة بريسكا، وسنجد لمحة للارتباط الروحي بين الجدة والحفيدة حين قالت الأميرة بريسكا الصغيرة (رأيت كأني دُفِنْتُ حية، ص 42). وفي تلك اللحظة نكتشف أن الماضي داخل روح الحاضر متمثلًا في إحياء أهل الكهف بعد ثلثمائة عام، فبوجودهم في الحاضر فقد ظهر التراث في المعاصرة، والحاضر المتمثل في الأميرة بريسكا يستشعر أنه مدفون في الماضي. 
بريسكا هي عماد المسرحية، هي الصلة بين التراث والمعاصرة، وهي الخط الملتحم الذي يلتقي عنده الماضي بالحاضر، بل هي الحاضر والماضي في الوقت نفسه، فهي تعيش وتستشعر أنها ليست هي، تدرك في أعماقها أن روحها ميتة من زمن وكأنها تراث، حتى أن معلمها غالياس يكشف عن التشابه العجيب بينها وبين بريسكا القديمة حبيبة مشلينيا يقول غالياس (لقد تنبَّأ العراف ساعة ميلادك بأنكِ ستشبهينها خَلقًا وإيمانًا، ص 42). وبالتالي تكون الأميرة بريسكا مرتبطة روحيًا ببريسكا حبيبة مشلينيا، ويهفو قلبها لمعرفة كل شيء عنها، فهي تعرف أن الجدة بريسكا كلما أرغموها على الزواج، أخبرتهم أنها مرتبطة بعهد مقدَّس لن تحنث به، والمعلم غالياس يخبر الأميرة بريسكا أن هذا عهد مع الله، لكن الأميرة بريسكا تقول «كنت أحسبه مع من اختاره قلبها، ص 43 بتصرف».

التراث يسيطر على المعاصرة 
الارتباط الروحي بين التراث والمعاصرة يتمثَّل فيما ترتديه الأميرة بريسكا حين تقول لغالياس متسائلة عن «هذا الصليب الذي أحمله في جيدي منذ الطفولة كان صليبها؟ فيجيبها غالياس: نعم يا مولاتي. ص 45».
ونحن من قبل قد عرفنا أن هذا الصليب الذهبي قد أهداه مشلينيا إلى حبيبته بريسكا، لأن علاقة حميمة تربط بينهما، وأن ما يزعمه المعلم غالياس محض تدليس، حين فسَّر الصليب الخاص بالجدة بريسكا (رأت ذات ليلة في المنام أن المسيح يقلّدها إياه فاستيقظت فوجدته في عنقها، فبهتت وتملكها فرح عصبي ظل ملازمًا لها فترات من حياتها حتى ماتت. ص 45).
ينكشف لنا هنا أن التراث يسيطر على المعاصرة، ويعيش داخلها، عن طريق هذا التشابه حد التطابق بين الأميرة والجدة، وهذا الصليب الذي ورثته وتُعَلّقه دائمًا في عنقها، التراث يحيط المعاصرة من جميع الجوانب، إلى جانب هذه المشاعر الدفينة التي تشعر بها الأميرة من أنها دفنت حية، وكأن الحاضر مدفون في الماضي. 

التراث أتى للمعاصرة 
دخول أصحاب الكهف للحياة يعتبر دخول الماضي في الحاضر واقع الناس، فنجد أن الناس استقبلوهم على أنهم تراث قديم ومقدَّس له كراماته وبركاته، لقد تجسَّد التراث في حاضر الناس، فكان من الصعب عليهم أن يقبلوهم حتى لو عاش التراث بينهم، إنه ماض وتراث وعملة نادرة ولا يمكن أن يتكيَّف مع حاضرهم.
كذلك أصحاب الكهف لم يستطيعوا استيعاب الحاضر، حتى ولو كان هناك جزء مماثل للماضي يشبهه يعيش في الحاضر، كما حدث مع مشلينيا وبريسكا، فكانت طبيعة لقائهما طبيعة خاصة، فمهما حدث، فالفارق بين الماضي والحاضر ثلثمائة عام يصعب تجاوزها، حتى لو حاول مشلينيا أن يجعل الأمر هينًا (لماذا يا يمليخا لا تنظر إلى الحياة وإلى الأشياء كما ننظر إليها نحن؟ أترهبك كلمة ثلثمائة سنة! فليكن مبلغها ما يكون، إننا في الحياة قبل كل شيء، إننا نعيش ونحس ونشعر. ص 78)، ويؤكد ذلك لأنه وجد بريسكا حبيبته، ونسي مشلينيا أن بينه وبينها ثلثمائة عام، كانت غشاوة الشبه المماثل تعمي بصيرته عن تصور أن الأميرة بريسكا ليست حبيبته بريسكا.
وعلى الرغم من اعتراف مشلينيا بمرور الأعوام، وأن هذا لا يهم إلا أنه صُدِم حين واجهه غالياس: 
(غالياس: سل العراف، لقد قال إنها تشبه جدتها في كل شيء.
 مشلينيا: تشبه جدتها... جدتها من؟
غالياس: بريسكا، القديسة بريسكا. ص 88 بتصرف).
ولم يستطع قلب مشلينيا أن يصدق الحقيقة، لم يدرك أنه الماضي أتى للحاضر، وأن الماضي الذي كان يحياه انتقلت منه صورة مطابقة للحاضر، لكنه ليس الماضي الذي عايشه.

الملابس لن تجعلنا منهم
الخيط الرفيع بين الماضي والمعاصرة اكتشفه مرنوش حين علم أن ابنه قد مات في سن الستين، ومرنوش نفسه لايزال شابًا، مات قبل أن يفرح بهديته التي كان يحملها له، ولده الصغير مات شيخًا، كانت ساعة الإدراك بالنسبة لمرنوش ساعة أليمة، لقد أدرك الحقيقة التي غابت عن مشلينيا بسبب رؤيته لبريسكا المطابقة في الشبه لحبيبته، وكأنه لم يفقد شيئًا، وعبر عن كُنه العلاقة بين التراث والمعاصرة في حديث نابع من واقع تواصل التراث مع المعاصرة (لا تستطيع هذه الثياب التي تحاكيهم بها أن تجعلنا منهم، لقد عرفوني الناس من وجهي ومن كلامي، حتى العبد الذي نصبه الملك لخدمتي ما كان يفهم أغلب ما أقول وكان يبتعد عنَّي كأني أجرب أو أبرص، ثلثمائة عام مضت وها هو ذا عالم آخر يحيط بنا كأنه بحر زاخر لا نستطيع الحياة فيه، كأننا سمك تغيَّر ماؤه فجأة من حلو إلى مالح. ص 96 بتصرف).
كلام مرنوش كشف بيِّن للحقيقة بين التراث والمعاصرة، وأن التراث لا يمكن أن يعيش في المعاصرة، فالمعاصرة ترفض التراث حتى ولو ارتدى ملابس المعاصرة، فالتراث تراث بلغته وهيئته التي يعرفها المعاصر، كلام مرنوش نزع القناع عن الخيط الرفيع بين التراث والمعاصرة، يستحيل أن يأتي التراث ليعيش في المعاصرة، ومن الغريب أن يعيش المعاصر في القديم ويعامله معاملة المعاصر.

لقاء التراث بالمعاصرة
حين تلتقي بريسكا مع مشلينيا في البهو يكون ذروة العمل المرتقب، يقف التراث متمثلًا في مشلينيا أمام المعاصرة متمثلة في بريسكا، يبدو من الطلة الأولى أن التراث يعامل المعاصرة على أنها تراث، ينظر إليها على أنها محبوبته القديمة، يطلب منها أن تتجاوب في أحاسيسها ومشاعرها معه مثلما كانت تفعل القديسة بريسكا، لكن الأميرة بريسكا كانت في استغراب من نظرات مشلينيا بل همست له في صوت خافت: «أيها القديس» وهو قال في دهشة: «لست قديسًا».
كانت المعاصرة تنظر للتراث في استغراب (مخلوق الأمس كان يبدو شيخًا أو على الأقل ذا شعر أشعث كشعر الشيخ. ص 105) هي تنظر إليه على أنه بطل من أبطال المآسي الإغريقية التي كانت تطالعها خفية عن معلمها غالياس وهي صغيرة، تراه غريبًا عنها، وهو ينظر إليها على أنها محبوبته التي تنكره، التراث يتألم في مواجهة المعاصرة التي تعتبره غريبًا، وهو يعتبرها جزءًا من حياته، وحين يذكرها بعهد الخطبة تعرف الأميرة بريسكا أن العهد الذي حافظت عليها جدتها القديسة بريسكا لم يكن عهدًا مع الله، إنما كان عهدًا مع محبوبها مشلينيا.
بدأ مشلينيا ينظر لبريسكا نظرة مختلفة، بدأ يراها تتكشَّف أمامه، فقد رأى اختلافًا واضحًا بين التراث والمعاصرة (من علّمك هذه اللهجة؟ وكيف انقلبتِ امرأة أخرى في هذا الزمن القليل! أين الوداعة والخفر والحياء العميق وصوت الملائكة الذي لا يكاد يُسمع. ص 111). كان ينساب بكلمات رقيقة عن حبه العتيق، وكانت هي تحسبه قادمًا إليها برسالة، إنها مواجهة صريحة بين التراث والمعاصرة، بين الماضي والحاضر على اختلافهما ورفض كل منهما للآخر ومحاولة الفهم العسيرة.

موقف التدين من التراث والمعاصرة
يتدخل المعلم المتدين غالياس في الموقف بعد أن يعلم حقيقة وجود أهل الكهف ويذكِّر بريسكا بقول العراف بأنها ستكون شبيه للقديسة بريسكا، لكن بريسكا تنهره، وتريد أن تعرف ماذا يعني، فيكشف لها بأنها قد تصير خليفتها، المعلم المتدين يريد أن يحول كيان المعاصرة إلى شبيه بالتراث، أن يكون خليفته، نسخة منه، يريد أن يستحضر التراث على حساب المعاصرة، حتى لو تم محو شخصية المعاصرة وذوبانها في التراث، لكن الأميرة بريسكا تصرخ في استغراب واستنكار (خليفتها؟ خليفتها في ماذا؟ يا للفظاعة؟ أجننت يا غالياس؟ إني أُفَضِّل العذاب والموت على شيء فظيع كهذا. ص 126). 
لقد اكتشفت المعاصرة أن رجل التدين يريد أن يمحوها ويذيب شخصيتها في شخصية التراث، بل يريد أن يجعلها هي تراث، يمحو معاصرتها، وهنا تكشف الأميرة بريسكا عمق الفرق الذي ذكره مشلينيا بينها وبين القديسة بريسكا حبيبته، ذكرت ذلك وهي تدرك أن البون شاسع بينهما، قالت في حسرة (قال إن القديسة بريسكا عميقة القلب، أما أنا فلا، وإنها كانت ذات صوت ملائكي لا يكاد يسمع أما أنا فلا، وإنها كانت ذات وداعة وصفاء وحياء جميل، أما أنا فلا. ص 127-128) كانت المقارنة بينها وبين جدتها من مشلينيا تجرح قلبها، حتى أن مشلينيا حين عاد صرخت فيه بريسكا (أنت مت فيها، إذا كنت تريد أن تتذكرها في صورتي! وتتأملني كطيف لها وتجعلني تمثالًا يشبهها، فإني لا آذن لك بهذا، إن أفظع من هذا أنك تمزج شخصيتي بشخصيتها، إنك لا تراني أنا، بل تراها هي فيّ، إنها لم تمت عندك بل أنا التي ماتت، اذهب عنّي. ص 130 بتصرف).
المعاصرة ترى الموقف على حقيقته، ترى أن شخصيتها ستُمحى في التراث، ستموت من أجل أن يحيا التراث، وتدرك أنه وجد محبوبته التراث ولم يعرف حقيقة المعاصرة، التراث يريد أن يشد المعاصرة إليه ويحوله لتراث مثله، والمعاصرة ترفض أن تتحول لتراث، لقالب شكله معاصر وكيانه تراث؛ فهي تدرك أنها بالنسبة للتراث صورة شبيهة بشيء عتيق داخل روحه، والتراث يرفض رؤية الحقيقة (لست أريد أن أبصر الآن، الإبصار لي موت، أتريدين أن أموت؟. ص 134). 
موقف شائك بيت التراث والمعاصرة، التراث يريد للمعاصرة أن تكون تراثًا، والمعاصرة تريد للتراث أن يرى الحقيقة، وأنه ليس هناك تراث حي، ويعلن مشلينيا حقيقة الموقف (لقد فات زماننا، ونحن الآن ملك للتاريخ، ولقد أردنا العودة إلى الزمن ولكن التاريخ ينتقم... الوداع. ص 137).

القلب قهر الزمن
ومع اقتراب نهاية المسرحية وعودة أهل الكهف للكهف مرة أخرى، يبدأون في الشك فيما حدث ويظنون أنهم في حلم، وأن كل ما عاشوه كان حلمًا، ومشلينيا يردد (كم كان حلمًا لذيذًا) لكنه يبدأ في استعادة ما ظنه حلم، وكأنه رأى حقيقة المعاصرة واختلافها عن تراثه هو، الفرق الذي عايشه بين التراث والمعاصرة لقد رأى مميزات المعاصرة واضحة (لم أر بريسكا قط على مثل ذلك الجمال والذكاء الذي رأيته في الحلم! لقد كان بيدها كتاب وكان حديثها حديث فَطِن هذَّبته القراءات، هذا عجيب! إن بريسكا الساذجة البسيطة التي كنت أقرأ لها خفية الكتاب المقدس وهي لا تكاد تفهم عنه قد قَلَبَها الحلم أمام عيني امرأة ذكية الفؤاد عالية الفكر، ما أجملها، نعم ما أجملها، أحببت بريسكا التي في الحلم. ص 145) هذا الوصف البديع لشخصية بريسكا من مشلينيا يكشف ما أحبه التراث في المعاصرة، وأن هذه الجرأة التي يتَّسم بها المعاصر والذكاء والاطلاع كان التراثي يفتقدها، لقد أحب التراث أشياء مهمة في المعاصرة، أحب فطنته وخلوه من السذاجة وذكاء فؤاده وعلو فكره.
وحين يكتشفون أنهم لم يكونوا يحلمون وأنهم كانوا في حقيقة واقعة، يقول مشلينيا «الآن أحس أني أحب يا مرنوش، أحب بكل ما يستطيعه قلب، أحب هذه المرأة ذات الكتاب التي رأيتها في اليقظة. ص 152 بتصرف».
في موقف متعادل نجد أن بريسكا استعادت شخصية مشلينيا في قلبها، واكتشفت أنها تفتقد كلماته، تفتقده حتى أنها حين ذهبت لمشلينيا في الكهف وهو يحتضر طلبت منه أن يقوم، أن ينهض لأنها تحبه، وحين أخبرها أن هناك فاصلًا زمنيًا بينهما قالت له بتأثر «القلب قهر الزمن، انهض يا مشلينيا إني منذ حادثتك للمرة الأولى وكأني أحبك منذ ثلثمائة عام وسوف أحبك إلى ألوف الأعوام، قم بالله تجلد. ص 163».
وتطلب بريسكا من غالياس أن تظل مع مشلينيا داخل الكهف، وأن يغلق عليهما معًا، وهنا يجتمع التراث والمعاصرة في كهف واحد، وكأن الحياة لا تقوم إلا باجتماعهما معًا حتى النهاية ■