فيلم «قتلة زهرة القمر» جرائم عرقية خفية... ونهب لثروات نفطية

فيلم «قتلة زهرة القمر» جرائم عرقية خفية... ونهب لثروات نفطية

«قتلة زهرة القمر» Killers of the Flower Moon هو أحد أبرز الأفلام التي عرضت هذه السنة في السينما الأمريكية والعالمية. وهو من إخراج مارتن سكورسيزي الذي قام بكتابة نص الفيلم مع إريك روث استنادًا إلى كتاب واقعي، يحمل نفس الاسم ألفه الصحفي ديفيد غران. قصته تتبع سلسلة من جرائم القتل التي تحل على قبيلة «الأوساج» الهندية في ولاية أوكلاهوما خلال عشرينيات القرن العشرين، وذلك بعد اكتشاف النفط على أرضهم. 

 

الفيلم جمع - ولأول مرة - بين الثلاثي الشهير: المخرج مارتن سكورسيزي والنجمين روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو، علمًا بأن الأخيرين سبق لهما التعاون مع سكورسيزي - ولكن بشكل منفرد - في العديد من الأفلام العالمية السابقة. وعمل سكورسيزي على فيلم «قتلة زهرة القمر» منذ عام 2019م قبل الإغلاق العام بسبب جائحة كورونا، لكنه انتهى منه عام 2023م وعرض في عدة مهرجانات عالمية كمهرجان كان الفرنسي، ليشكل إحدى العلامات السينمائية الكبرى المرشحة لجوائز العام في هوليود هذه السنة.
عنوان الفيلم له علاقة وطيدة بمضمونه، حيث نصادف في المشهد الافتتاحي للفيلم تلميحًا واضحًا لخلفيات هذا العنوان. فقبيلة «الأوساج» محور الأحداث في الفيلم، استمدت تسميتها من نهر ميسوري وأوساج «نيو كون سكا»: أبناء المياه الوسطى. وحسب معتقدات الأوساج، فإن إلههم «كون تاه» يرش الحلوى على البراري فتزهر بزهرة تسمى زهرة القمر. 
 وقبيلة الأوساج، على غرار العديد من قبائل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، أرغمت على الهجرة من ميسوري باتجاه الغرب بسبب مطاردة المستعمرين البيض، حتى استقرت أخيرًا في منطقة صخرية بولاية أوكلاهوما. وعندما تم اكتشاف النفط في القبيلة، أصبح أهلها أغنياء يملكون ثروة عظيمة بسبب الاستحواذ على حقوق رأس المال في الذهب الأسود المكتشف، وبسبب ذلك، حاول المستعمرون الجدد سرقة أموال الأوساج، وعندما فشلت مخططاتهم في الاحتيال والاستيلاء، لجأوا إلى القتل.

تصفية عرقية
وعبر حكاية رومانسية بين إرنست يوركهارت (ليوناردو دي كابريو) ومولي كايل، التي أصبحت مولي يوركهات بعد زواجها منه (ليلي غلادستون)، يسرد فيلم «قتلة زهرة القمر» قصة جريمة تصفية عرقية تجمع بين الخيانة في أقبح صورها والحب في أرقى حالاته، حيث يتناول الفيلم موضوع الزواج والحب بين الرجل الأبيض وزوجته الهندية. ويشارك آرنست - الذي يتعرض لضغوط من عمه هيل (روبرت دي نيرو) العقل المدبر لكل الجرائم - في العديد من مؤامرات القتل رغم حبه لزوجته وأطفاله، حيث خطط لمجموعة من عمليات التصفية التي أودت بحياة العديد من أفراد قبيلة الأوساج، خاصة عائلة زوجته الثرية مولي. حيث تخلص من أمها العجوز وشقيقاتها وأزواجهن المقربين، وذلك من أجل الاستيلاء على ميراثها من ثروة العائلة التي امتلكتها من حقوق النفط.
وبعد بحث مكثف من مكتب التحقيقات الفدرالية، أحس الملك هيل بالخطر، وبقرب رجال الشرطة من أثره. فبدأ في ابتكار حيل وخطط للتخلص من كل مرافقيه المشتبهين في الموضوع، حتى لا يصل المخبرون إلى خيوط الجريمة وعقلها المدبر.
وذلك بتوريطهم في جرائم سرقة تؤدي بهم إلى الاعتقال أو إلى القتل، لكن خططه ستفشل، وسيتمكن رجال الاستخبارات من القبض عليه هو وابن أخيه آرنست وكل معاونيه الذين ساهموا في جرائم القتل. وعقب المحاكمة، حاول الضغط على آرنست ابن العائلة حتى لا يشي بجرائمه في المحاكمة، ويعترف بدوره الرئيسي في عمليات التصفية والتطهير العرقي. لكن شدة حب الفتى آرنست لزوجته، وضميره المؤنب، وندمه المتأخر... كل هذا سيدفعه أخيرًا للاعتراف بكل الجرائم التي خطط إليها عمه هيل، مع الإقرار بمسؤوليته في المشاركة في هذه الآثام.
فالحب الشديد بين آرنست وزوجته هزم أخيرًا الخضوع والرابطة العائلية التي تحكم علاقة البطل بعمه، خاصة بعدما أفصح بكل الحقائق الخطيرة أثناء فصول المحاكمة. هذه الأخيرة عرت كل تفاصيل الجرائم التطهيرية التي راح ضحيتها العديد من سكان الأوساج الأصليين، وكشفت مختلف الأسرار العائلية التي كانت وراء تقرب البيض من الهنود جشعًا وطمعًا، ورغبة في الغصب والسلب والسطو.
وقد حاول العم هيل توجيه ابن أخيه آرنست إلى خطة ذكية للاستيلاء على ممتلكات زوجته مولي الغنية خاصة بعد الموت المتتابع لأفراد عائلتها، واستغلال ذلك في سبيل السيطرة على ثرواتهم. والمخرج سكورسيزي يلمح للعديد من حوادث القتل التي تعرض لها هنود الأوساج، دون تفعيل لأي تحقيق جنائي أو بحث قضائي، مع تعمد مقصود في إهمال هذه القضايا أو ربطها بأسباب أخرى بعيدة عن شبهة الإجرام المتعمد. ويؤكد سكورسيزي من البداية أن ما يحكيه ليس خيالاً صرفًا، فيستخدم صورًا فوتوغرافية لأشخاص سجل التاريخ أنهم عاشوا في تلك المرحلة، وحين ينتقل إلى مرحلة انطلاق جحيم التوحش والقتل، لا يكتفي صانع العمل بذكر الجرائم، لكنه يستعرض بإيقاع سريع تلك الجرائم بالتفصيل، ومن ثم يعرض صور الضحايا بالأبيض والأسود.

اكتشاف النفط
ويستعرض الفيلم العديد من التحولات التي طرأت على حياة أبناء القبيلة عقب اكتشاف النفط على أرضهم، بدءًا من الذهب الذي أقبلت النساء على شرائه، مرورًا بمظاهر الترف الأخرى التي جذبت العيون وأغرت النفوس كالسيارات الفاخرة والملابس الباهظة. لكن الأوساج، ورغم ذلك، ظلوا يحتفظون بتقاليدهم وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية. هذه التقاليد التي تختلف بشكل كبير عن عادات السكان البيض، القادمين من أجل احتلال الأرض ومحو الثقافة الأصلية. 
ويرصد لنا المخرج مشهدًا دالاً على هذه المفارقة الثقافية، حيث تركز عدسة الكاميرا، في لقطة متوسطة، على البطلين (آرنست ومولي) وهما جنبًا إلى جنب داخل المنزل، بينما العاصفة برعدها المفزع وهدير أصواتها المخيف في الخارج. وهنا تطلب مولي من البطل الهدوء والصمت والتأمل واحترام الطبيعة، نظرًا لمكانتها الكبيرة في متخيل الأوساج وثقافتهم، بينما آرنست غير مبالٍ بها، يتحرك كثيرًا في مقعده، ويثير الضجيج وهو يتناول كأس الويسكي. إننا أمام مشهد بليغ، يلمح إلى بعض من الخصائص الملازمة لحضارة الإنسان الغربي (الأبيض): الفردانية والبرغماتية، الجشع والطمع، الفوضى واللامبالاة، التملك والاستحواذ، التخريب والاستيلاء.
فهنود الأوساج تربطهم علاقة وطيدة بعاداتهم وتقاليدهم، حيث نصادف في أحد المشاهد الأخرى خصامًا حامي الوطيس بين مولي التي ترفض تلقي الأنسولين لعلاج مرضها السكري، وزوجها آرنست الذي يلومها على هذا التصرف، موجهًا عتابه لتقاليدها وأعرافها الشعبية البالية التي تؤمن بالعلاج بالأعشاب وعادات القبيلة... وهذا صراع راسخ بين التقليد والحداثة، الأصالة والجدة، العلم والعادات، الطب العصري والطب البديل (الشعبي).
 هكذا، فإن الفيلم يميط اللثام على مختلف عمليات التطهير الثقافي والإبادة العرقية التي نهجها الإنسان الأبيض تجاه السكان الأصليين لأمريكا. حيث شكل النفط المكتشف في أرض الأوساج وسيلة إغراء ولهفة أسالت لعاب الرجل الأبيض الجشع، ليسخر كل جهوده وخططه من أجل الاحتيال والاحتلال، الهيمنة والسيطرة، الإبادة والمصادرة. وهذا ما نستشفه من خلال جملة رددها زعيم القبيلة في مشهد عميق الدلالة: «إنهم مثل النسور التي تحيط بشعبنا... يقشرون العظام وينظفونها ولا يتركون شيئًا وراءهم». فهذا المشهد الحواري البارع يبوح بشكل مباشر بأغراض وأهداف هؤلاء الذين جاؤوا بعد اكتشاف الذهب الأسود وتدفق الأموال وتضاعف الثروات. فكلهم تحركهم أهواء النهم والطمع والرغبة في الانقضاض على خيرات القبيلة ونعيم السكان الأصليين، مثلهم - في ذلك - مثل النسور المتوحشة التي تفتك بفرائسها.
وقد كانت أم مولي العجوز أول من يتنبأ بنوايا هؤلاء البيض الذين تقربوا وتزوجوا من بناتها، طمعًا وجشعًا في أموالهم ليس إلا. وللتعبير عن ذلك استعان سكورسيزي - في أحد المشاهد - بكاميرا متحركة تتعقب أرجاء منزل العجوز الأوساجية، غرفة غرفة، في حفل أقامته الفتيات على شرف أزواجهن وعشاقهن. لتتموقع العدسة أخيرًا في وجه العجوز المصوبة ببصرها اتجاه النافذة، متوهمة أنها ترى بومة وهي تدخل إلى الغرفة. وهذا نذير شؤم يهدد العائلة بالأخبار السيئة والأحداث الدامية، في حالة ارتباط أفرادها بالبيض الراغبين في السيطرة على كل ممتلكات الأوساج.
ومثل الملك هيل (دي نيرو) العقل المدبر لكل عمليات القتل التي عرفتها المنطقة، وذلك بالتعاون مع ابن أخيه آرنست وقريبه بايرون ومجموعة من المرتزقة الذين يغريهم الجشع والطمع في ثروات هنود الأوساج. وهيل في تخطيطه لهذه العمليات، كان حريصًا على تمطيطها إلى سلسلة متعاقبة من جرائم القتل الغامضة الأثر، والغائبة الدليل في ظل تقاعس المحققين ورشوة الأمنيين وإخفاء المشتبهين. 

سلسلة دموية
ويمكن تحديد مراحل هذه السلسلة الدموية فيما يلي: 
1ـ الجريمة الأولى: عملية قتل (أنا) شقيقة البطلة مولي في غابة خالية موحشة، بتعاون بين كل من حبيبها بايرون المنتمي لعائلة هيل والمجرم كيلسي مورسون، وذلك بهدف الاستحواذ على حصتها في الميراث. وقد رصد المخرج حيثيات هذه الجريمة بتفصيل عن طريق تقنية الفلاش باك في مشهد محاكمة كيلسي مورسون. كذلك ركز سكورسيزي على الآثار النفسية لهذه الجريمة على أخت الضحية (مولي) المصدومة بهول هذه الفاجعة. حيث أطرت العدسة - في لقطة مقربة - ملامحها الحزينة والمكلومة بفعل هذه المصيبة، ثم ثبت المصور الكاميرا على محياها الشاحبة المليئة بالبغض والثأر والانتقام، لينتقل بعد ذلك إلى الفضاء الخارجي، حيث وجوه البيض المقابلة ونظرات الشر التي تتقطر من أعينهم اتجاه البطلة، وكلها شره وتكالب ورغبة في الاستغلال والسيطرة. 
2ـ الجريمة الثانية: تخلص المرتزق جون رامزي من الشاب هنري (الهندي)، الزوج السابق لمولي، حتى لا يطالب بحقوقه العائلية في غنائم التركة.
3ـ الجريمة الثالثة: تصفية المحقق الذي كلف بالبحث في قضية قتل الشقيقة (أنا)، بعد اقترابه من فك شفرات العملية، خصوصًا مع تزايد الشبهات وأصابع الاتهام الموجهة إلى هيل وحاشيته.
4ـ الجريمة الرابعة: ثم تأتي عملية القتل الأكثر بشاعة وهي التي نفذها مجرم مأجور (ايس بلايك) كلفه الملك هيل - بوساطة من آرنست - بتفجير منزل ريتا (الأخت الصغرى لمولي) وزوجها بيل بالديناميت والمتفجرات. 
إننا أمام سلسلة من عمليات القتل والاغتيال، وكل ذلك من أجل الاستفراد بثروة مولي الوريثة الوحيدة للعائلة بعد موت الأم والأخوات والأقرباء.
وهيمن الحوار على الفيلم بشكل بارز، عبر إيقاع بطيء قائم على التفصيل والتمطيط في المقاطع الحوارية، خاصة تلك التي تجري بين رأس الحربة هيل وآرنست يده اليمنى في عمليات الاغتيال، أو بين آرنست وزوجته مولي. وهذا يعكس قوة السيناريو في الفيلم، وتركيبته المصاغة بفنية وإبداع من طرف الثنائي مارتن سكورسيزي واريك روث. إننا أمام شريط يفوق الثلاث ساعات، يركز على كل حيثيات الوقائع التاريخية التي واكبت هذه العمليات التطهيرية في حق شعب الأوساج.
على المستوى الفني طغت اللقطات المتوسطة والمقربة على أغلب مشاهد الفيلم، لبعدها التعبيري ووظيفتها الانفعالية التفاعلية بين الشخصيات: أحاسيس الحزن والصدمة والإحباط على ملامح مولي - في لقطات مقربة - عقب تلقيها للمصائب المتتالية/ تواصل آرنست مع عمه - في لقطات متوسطة - وحوارهما الكيدي القائم على التخطيط للغدر والقتل والاحتيال والاستيلاء. هذا دون أن ننسى حضور بعض اللقطات البعيدة - ولو كانت ضئيلة - حينما تركز الكاميرا على حقول النفط والمراعي الخضراء في أراضي الأوساج دلالة على الخير الذي أنعمه الله عليهم، وعلى مكانة هذه البلاد التي تغوي كل الناهبين الجشعين وتحرض عديد السفاحين السفاكين. 
أما عن الإنارة فقد جاءت خافتة، ضئيلة الشعاع في لحظات القتل والتأزم، خاصة حينما تم الإجهاز على أخت مولي (أنا) في غابة مظلمة خالية، تعمها الدهمة ويغمرها الظلام. بل إن كل عمليات القتل تمت في أجواء عابسة، حيث الإضاءة تضعف، وتسود القتامة المعبرة على المآسي والمصائب التي تتعرض لها العائلات الأوساجية. 
وفيما يخص الموسيقى التصويرية فقد ألفها المؤلف الموسيقي (الكندي) روبي روبرتسون الحاصل سابقًا على جائزة جونو لأفضل ألبوم خاص بالسكان الأمريكيين الأصليين سنة 1999م. وهناك تباين واختلاف واضح بين الألحان التي اختارها روبي في المشاهد المرتبطة بالمستعمرين البيض، حيث الأغاني الأمريكية الكلاسيكية. والنغمات الموسيقية التي انتقاها للتعبير عن معاناة السكان الأصليين في أرضهم، حيث موسيقى الهنود الحمر بتلاوينها المتنوعة: الطبول، الرقصات الأوساجية، تراتيل القبيلة، الصفير، الصرخات الهندية الشبيهة بعواء الذئاب... إلخ.

سمفونية إبداعية
ختامًا يمكن اعتبار فيلم « قتلة زهرة القمر» أحد أبرز الأعمال السينمائية لهذه السنة، كونه عرض في أكبر المهرجانات العالمية (افتتاح مهرجان كان الأخير)، ولأنه من المرتقب أن يترشح ويفوز بعديد الجوائز العالمية السينمائية العالمية، بالنظر لقيمة النجوم المشاركين فيه، وللإمكانيات الضخمة التي أعدت له.
فالفيلم هو سيمفونية إبداعية بحق، ترجمها المخرج العالمي مارتن سكورسيزي بحذقه الفني ورؤيته الإخراجية الرفيعة. ويعلن المخرج، بنفسه، نهاية الأحداث ومآل شخصيات الفيلم - ذات المرجعية الواقعية - على شكل أوركسترا فنية، يقدم فيها كل فرد من أفرادها الموسيقيين مصير كل شخصية (هيل، آرنست، بايرون...). ويختم سكورسيزي المشهد، معلنا عن قدر مولي «الأوساجية الأصيلة» التي ماتت ودفنت بجانب أمها وأبيها وابنتها. ثم ينتهي الفيلم باستعراض هندي أصيل بالطبول والرقص الهندي، وصرخات الأوساجيين على هذه النغمات ■