سر الحياة الطويلة الجينات أم أسلوب الحياة؟

لطالما أسر سر الحياة الطويلة البشرية لقرون، وألهم الأساطير والبحث العلمي والتأمل الشخصي والنقاشات الفلسفية عبر الثقافات والعصور. هل يكمن سر العمر الطويل في جيناتنا الوراثية، التي حددت لنا كخرائط جينوم انتقلت إلينا من الأجداد، ورسمت مسار أعمارنا البيولوجية؟ أم في الخيارات التي نتخذها يوميًا - الأطعمة التي نتناولها، والأنشطة التي نمارسها، والعادات التي نكتسبها؟ في عصرنا الحالي أصبح الجدل بين الطبيعة والتنشئة - الجينات مقابل نمط الحياة - أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، حيث يواصل العلم كشف العوامل التي تُؤثر على طول حياتنا. وبينما تلعب الجينات دورًا لا يُمكن إنكاره، كشفت الأبحاث الحديثة أن خيارات نمط الحياة التي نتخذها قد تكون مفتاحًا لحياة أطول وأكثر صحة.
يعود الرقم القياسي لأطول عمر بشري مُوثّق للمعمرة الفرنسية جين كالمنت، التي عاشت 122 عامًا و164 يومًا، مما جعل حياتها الاستثنائية رمزًا لما يمكن تحقيقه في ظل ظروف مثالية. ومع ذلك، يشير العلم الحديث إلى أنه بينما قد يعيش البشر، نظريًا، حتى 150 عامًا في ظل ظروف مثالية، إلا أنّ معظم الناس لا يصلون إلى هذا الحد بسبب مزيج من العوامل الوراثية وأسلوب الحياة وربما الحظ والعديد من العوامل الأخرى. من هنا أصبحت قصة المعمرة كالمنت أكثر من كونها مجرد رقم قياسي، كذلك قصص المعمرين من حول العالم ممن تجاوزت أعمارهم الـ 100 عام، بحيث إن نماذجهم جميعها تثير تساؤلات حول المحددات الحقيقية لطول العمر، وتدفعنا لفهم أعمق لبيولوجيا الشيخوخة، وربما محاولة تجاوز مستويات طول العمر الموثقة في العقود القادمة.
أسلوب الحياة: مفتاح العمر الطويل
منذ أن أكد أفلاطون من أكثر من 2500 عام أن «قلة النشاط تدمر الحالة الجيدة لكل إنسان، بينما تنقذها الحركة والتمارين البدنية المنهجية وتحافظ عليها»، ومنذ أن عبر أبقراط عن حكمته الشهيرة «ليكن طعامك دواءك ودواؤك طعامك»، أخذت الأبحاث الحديثة تؤكد، بشكل متزايد، على دور العادات اليومية في تشكيل عمرنا وصحتنا. ولإثبات تلك النظريات لطالما عاد الباحثون مرارًا وتكرارًا إلى ما يُسمى بـ «المناطق الزرقاء»، حيث تنبع أفضل الأفكار حول طول العمر.
و«المناطق الزرقاء» هي التسمية التي أطلقها دان بوتنر، الباحث بمجلة «ناشونال جيوغرافيك»، على مجموعة من المناطق في العالم، عندما انطلق في 2012م، في رحلة حول العالم سعيًا للحصول على إجابة حول ظاهرة السكان المعمرين في بعض بقاع الكرة الأرضية على وجه التحديد. نجح بوتنر وفريقه في تحديد خمس مناطق حول العالم، حيث قاموا بتحديدها على الخريطة باستخدام الحبر الأزرق، مما أدى إلى تسميتها بـ«المناطق الزرقاء». تشمل هذه المناطق الخمس القرى الجبلية في سردينيا بإيطاليا، وجزيرة أوكيناوا في اليابان، وشبه جزيرة نيكويا في كوستاريكا، وجزيرة إيكاريا في اليونان، ومدينة لوما ليندا في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
بعد ذلك، قام بونتر وفريقه بتجميع العادات المشتركة ونمط الحياة السائد بين المعمرين في هذه المناطق، وقاموا بتوثيق هذه النتائج في كتاب «حل المناطق الزرقاء»، الذي يُظهر كيف يمكن تحقيق حياة طويلة وصحية. وبشكل أكثر تحديدًا يشير الكتاب إلى أن نمط الحياة في هذه المناطق يعتمد على نظام غذائي نباتي غني بالألياف، ورابط اجتماعية قوية، وممارسة النشاط البدني بانتظام، مما يسهم، ليس فقط في طول العمر، بل في جودة الحياة أيضًا.
من جهة أخرى، وفي مواجهة فكرة أن نمط الحياة يؤثر على تحديد طول العمر، قد يستشهد البعض بعدد من المعمرين الذين لا يلتزمون بسلوك صحي. وهناك أمثلة عن هؤلاء في العالم، من بينهم السيدة هيلين ريخرت التي عاشت حتى سن الـ100 عام، والتي قال عنها الدكتور نير برزيلاي، مدير معهد أبحاث الشيخوخة في كلية ألبرت آينشتاين للطب في مدينة نيويورك الأمريكية، أنه عندما التقى بها لأول مرة في عيادته كانت تدخن سيجارة، ولما استغرب من هذا الأمر أخبرته أنها كانت مدمنة على التدخين رغم نصائح الأطباء المتكررة لها بالإقلاع، ولكنها لاحظت أن الأطباء الذين كانوا قد نصحوها بذلك قد توفوا قبلها، بينما استمرت هي على قيد الحياة حتى وفاتها في عام 2011م.
تشكل قصص المعمرين، مثل ريخرت وغيرها، تحديًا للنظريات التقليدية حول العمر الطويل، حيث يبدو أن بعضهم يتجاهل نصائح الصحة العامة دون أن يؤثر ذلك على طول عمرهم. ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن تجاهل هذه النصائح قد يضعف الصحة العامة ويقلل متوسط العمر لدى معظم الأفراد، مما يُشير إلى أن حالات مثل ريخرت تعتبر استثناءات نادرة لا يمكن أن يُعمم عليها.
لكن الحقيقة أن هناك مجموعة من الأبحاث والدراسات التي تؤكد أن العادات الصحية يمكن أن تزيد طول العمر بشكل كبير. ففي كتابه الرائد «طول العمر: علوم العمر الطويل وفنونه»، الصادر عام 2023م، يستكشف المؤلف والطبيب والباحث الكندي - الأمريكي بيتر عطية، المعروف بعمله في مجال طب طول العمر، أهمية نمط الحياة ويجادل بأنه من خلال تحسين نوع تغذيتنا ونوعية النوم، يمكننا إطالة حياتنا بشكل كبير وتحسين جودتها. كما قدّم عطية مفهوم «الطب 3.0»، الذي يُركّز على معالجة المخاطر الصحية على مدار الحياة بدلًا من الاستجابة للأمراض فور ظهورها، بحيث يُركّز على أربع ركائز أساسية: التغذية، والتمارين الرياضية، والنوم، والصحة النفسية.
والجدير بالذكر إلى أنه لا يُقدّم هذه الركائز كحيل بيولوجية، بل كممارسات قائمة على الأدلة العلمية الدقيقة. على سبيل المثال، يُسلّط عطية الضوء على التمارين الرياضية باعتبارها «الدواء» الأقوى لإطالة العمر، داعيًا إلى تدريب بدني متنوع للتحضير لما يُسمّيه «مسابقة العشرية للمئوية» - وهي استعارة للحفاظ على الحيوية حتى سنّ الشيخوخة.
أما من ناحية الدراسات فيمكننا الإشارة إلى العديد منها بما في ذلك دراسة رائدة أخرى أجرتها كلية هارفارد تي. إتش. تشان للصحة العامة عام 2020م، التي حددت خمسة عوامل رئيسية لأسلوب الحياة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على طول العمر: اتباع نظام غذائي صحي، وممارسة الرياضة بانتظام، والحفاظ على وزن صحي، واستهلاك معتدل للكحول، والامتناع عن التدخين. وكان تأثير هذه العادات عميقًا، حيث زاد متوسط عمر النساء اللواتي التزمن بالعادات الصحية الخمس 14 عامًا، بينما زاد متوسط عمر الرجال 12 عامًا، مقارنةً بمن لم يتبعوا أيًا منها. وهناك أيضًا البحث الذي أجرته جامعة جونز هوبكنز الأمريكية في 2019م، الذي وجد أن ممارسة الرياضة بانتظام هي أحد العوامل الأربعة الرئيسية في تقليل خطر الوفاة بنسبة تصل إلى 80 في المئة.
الجينات ومخطط الحياة
مع ذلك، فإن أسلوب الحياة وحده لا يكفي في تحديد عدد الشموع التي نطفئها كل عام، إذ تلعب الجينات دورًا مهمًا بحيث تعمل كـ«مخطط بيولوجي» يؤثر على الشيخوخة من خلال آليات متعددة. تشير الدراسات إلى أن بعض الجينات، مثل التباينات في جينَي APOE وFOXO3A ، تساعد في الحماية من الأمراض المرتبطة بالشيخوخة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية ومرض الزهايمر، مما يمنح الأشخاص الذين يتميزون بمثل هذه التباينات أفضلية في التقدم في السن وهم يتمتعون بصحة جيدة.
على سبيل المثال، يؤثر جين APOE على استقلاب الكوليسترول وصحة الدماغ، بينما يشارك FOXO3A في إصلاح الخلايا ومقاومة الإجهاد، بحيث تعمل هذه الجينات كعوامل وقائية، مما يؤخر ظهور الأمراض التي عادةً ما تُقصّر العمر. من جهة أخرى كشفت أبحاث حديثة عن جينات جديدة مثل Pol I وPol III، المشاركة في تصنيع البروتينات، حيث يرتبط تثبيط نشاطها بزيادة العمر الافتراضي لدى البشر، ربما بسبب دورها في مراحل مبكرة من الحياة قبل أن تصبح ضارة لاحقًا.
إلا أنّ تقديرات التأثير الجيني تختلف حسب العمر، ففي مراحل العمر المتوسطة، يُعزى 25 في المئة من طول العمر للجينات و75 في المئة للبيئة وأسلوب الحياة، لكن هذه النسبة تنعكس عند الوصول إلى 90 عامًا أو أكثر، حيث تصبح الجينات مسؤولة عن 75 في المئة من التباين في العمر.
التفاعل المعقد بين الجينات ونمط الحياة
إذا ما أردنا الإجابة على السؤال عن سر العمر الطويل، هل هو الجينات أم أسلوب الحياة، فلا بد لنا من القول إنه ليست الجينات هي وحدها ولا أسلوب الحياة هو وحده السبب، ولكن التفاعل فيما بينهما هو الذي يؤثر عدد السنوات التي نعيشها، إلا أن العلاقة بين الجينات وأسلوب الحياة معقدة ومتعددة الأوجه، وهي ليست علاقة خطية، بل تآزرية، تعكس تفاعلًا ديناميكيًا بين العوامل البيولوجية المورثة والخيارات اليومية.
ففي حين أن الجينات تُشكل أساس الحياة، إن خيارات نمط الحياة قد تُغير أو تُعزز أو تُخفف بشكل كبير الاستعدادات الوراثية، مما يجعل السعي لفهم طول العمر مسعىً معقدًا. قد تُهيئ الجينات الأفراد لسلوكيات أو حالات معينة - مثل إدمان النيكوتين أو السمنة – التي تؤثر على متوسط العمر، ولكن، يمكن لخيارات نمط الحياة أن تُفاقم هذه الاستعدادات أو تُخففها. على سبيل المثال، يمكن للأفراد المعرضين لمخاطر وراثية لأمراض القلب والأوعية الدموية تقليل فرص الوفاة المبكرة من خلال تغييرات في النظام الغذائي وممارسة الرياضة.
وللتأكيد على ذلك فقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة «الطب القائم على الأدلة» BMJ عام 2024م، أن الأشخاص الذين لديهم مخاطر وراثية عالية للوفاة المبكرة يمكنهم تقليل تلك المخاطر بأكثر من 60 في المئة من خلال اتباع أربع عادات رئيسية: الامتناع عن التدخين، ممارسة النشاط البدني بانتظام، الحصول على نوم كافٍ، واتباع نظام غذائي صحي.
هناك أدلة كثيرة على التفاعل المعقد بين الجينات وأسلوب الحياة من بينها ما يتعلق بالنشاط البدني حيث تُعزز ممارسة التمارين الرياضية بانتظام صحة القلب والأوعية الدموية، وتُقوي العضلات، وتُحسّن وظائف التمثيل الغذائي، وذلك لأن النشاط البدني يحفز إنتاج الميتوكوندريا - وهي مصدر الطاقة للخلايا - ويُقلل من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، مثل السمنة وداء السكري من النوع الثاني. أما النوم الذي يُعد ركيزة أخرى من ركائز طول العمر، فله علاقة بالتيلومترات. وإذا ما أردنا أن نعرف عن تأثير التيلومترات فما علينا إلا العودة إلى كتاب «تأثير التيلومير (القُسَيم الطَرَفي): كيف تحيا بصحة أفضل ولمدة أطول»، من تأليف إليزابيث بلاكبيرن وإليسا إيبيل، بحيث تركز بلاكبيرن، وهي واحدة من العلماء الثلاثة الذين حازوا على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء في 2009م، على نقص طول التيلوميرات، وهي الأغطية الواقية في نهايات الكروموسومات التي تتآكل بشكل طبيعي مع التقدم في السن. تقول بلاكبيرن إن عادات النوم غير الصحية تعزز شيخوخة الخلايا عن طريق تقصير التيلوميرات بينما تُعزز عادات النوم الجيدة التوازن الهرموني، ووظيفة المناعة، والصحة الإدراكية.
والجدير بالذكر أنه إلى جانب النشاط البدني والنوم الجيد هناك قائمة طويلة من العادات اليومية من التغذية الصحيحة إلى تخفيف التوتر حيث يبرز هذا التفاعل الديناميكي الذي يعزز المزايا الجينية مع الحد من المخاطر.
في الختام، تُؤثّر تغييرات نمط الحياة تأثيرًا عميقًا على أجسامنا من خلال تعزيز آليات إصلاح الخلايا، وتقليل الالتهابات، والوقاية من الأمراض المزمنة. هذه التعديلات لا تُضيف سنوات إلى أعمارنا فحسب، بل تضيف حياة إلى أعمارنا مما يُبرز القوة التحويلية لتبني عادات صحية في أي مرحلة من مراحل الحياة ■