أرقام محمود المراغي
أرقام
كوب ماء.. غير منحاز! المواطنون أمام القانون سواء، ولكن - كما يبدو - فإنهم ليسوا أمام الدولة وخدماتها على نفس القدر من المساواة! إنه الانحياز تعكسه أرقام أذاعها البنك الدولي في تقريره السنوي عن التنمية في العالم لعام 1994. التقرير كله عن "البنية الأساسية"، فيه مسح فريد من نوعه، يحصي على سبيل العينة ما أسماها ظاهرة "السفر سيرا على الأقدام". وقد جرى هذا المسح عام 1992 وانتهى إلى أن الكثير من الفقراء يسافرون - وربما يقصد يقطعون مسافات بعيدة - سيرا على الأقدام.. أما الأغنياء في نفس المناطق فلهم شأن آخر. في دلهي على سبيل المثال كان متوسطو الدخل يستخدمون وبنسبة تزيد على الثمانيين بالمائة من عددهم وسائل نقل مناسبة.. بينما كان أكثر من ستين بالمائة من سكان المناطق العشوائية ينتقلون أو يسافرون سيرا على الأقدام! نفس الشيء في جامايكا حيث كانت نسبة من يستخدمون المشي نحو نصف شريحة أصحاب الدخل المنخفض! وربما كان المسح غريبا في نوعه، وربما كان القصد مجرد الوقوف عند إجابة السؤال: أين تصل المرافق العامة؟.. ومن تخدم البنية الأساسية؟.. ربما.. وربما.. .. لكن الأكيد أن الأرقام تعكس السلوك المالي للدول النامية (أكثر من المتقدمة) كما تعكس التحيزات التي تحكم القرارات في هذه الدول، والطريق هنا أو وسيلة النقل العامة مجرد مثال. في تقرير البنك الدولي أن البلدان النامية تستثمر (200) مليار دولار سنويا في إقامة بنى أساسية جديدة .. أي أنها تنفق (4) بالمائة من ناتجها القومي أو ما يعادل (20%) من استثماراتها السنوية في هذا المجال.. الطرق، النقل، الكهرباء، المياه، الصرف الصحي.. وغير ذلك. السؤال: ماذا كانت النتيجة خلال السنوات الأخيرة؟ طبقا لنفس التقرير فإن الأسر التي حصلت على ماء نقي قد زادت بمقدار النصف خلال الخمسة عشر عاما الماضية.. أيضا، فقد تضاعفت خلال تلك الفترة نصيب الفرد من القوى الكهربائية وخطوط الهاتف.. و.. هكذا في مختلف المجالات مما يعكس نفسه في النهاية على مستوى المعيشة، والذي طالما كنا نعرفه بأنه مجموع ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات. وبطبيعة الحال فإن مياها أفضل تعني صحة أوفر، وكهرباء أكثر تعني قوى محركة للإنتاجن كما تعني استخداما أكثر لأدوات العصر المنزلية والتي تعتمد على الكهرباء. حتى الترع والقنوات المائية فإن انتشارها كجزء من البنية الأساسية لابد أن يعكس نفسه على حياة الفرد واقتصاد المجتمع. و.. كل ذلك يتقدم باطراد، لكـن أمرين كانا يلفتان النظر. الأمر الأول، أن نسبة الحرمان في العالم النامي ما زالت عالية.. والحكومات ما زالت عاجزة عن أن تمد يدها إلى كل مكان. مازال في العالم النامي مليار من البشر لا تتوافر لهم فرصة الحصول على مياه نقية، ومازال هناك ملياران لا يتمتعان بالقوى الكهربائية.. وشبكات الطرق، حتى لو توافرت نسبيا فإنها تتدهور بسرعة تحت تأثير الإهمال في الصيانة.. الأمر الثاني، أنه وعند توزيع هذه الخدمات كانت هناك تفرقة بـين الأغنياء والفقراء.. فبالرغم من أن الخدمة عامة، والإنفاق يتم من ميزانية عامة، وشبكات المرافق تأخـذ شكـل العمل العام.. فإن كل هـذه العمومية لم تشمل في كثير من الأحيان الفقراء في نفس البلدان! كوب ماء غير منحاز! هل نتوقف أمام بعـض النماذج؟ فلنتابع إذن ما يتمتع به الإنسان هنا أو هناك من قطرة ماء نظيفة... أو مصباح كهربائي.. أو صرف صحي. تقول الأرقام إنه في عام له (89 - 90) لم يتمتع بالمياه العامة النقية في حضر باراجواي سوى (54%) من الشرائح الأكثر فقرا.. بينما ارتفعت النسبة إلى 89%) للأكثر دخلا (أولا على 20% من السكان من حيث الدخل).. ونفس الشيء حدث في المكسيك بالمناطق الشعبية أو الوطنية فكان نصف الأكثر فقرا (20% من السكان) هم الذين يتمتعون بالماء النقي.. بينما بلغت النسبة للأغنياء (95%)! فإذا انتفلنا إلى إفريقيا واخترنا مجالا آخر هو الكهرباء فإننا سنجد من يتمتعون في غانا ل(1988) من سكان المناطق الوطنية الأكثر دخلا بهذه الخدمة تبلغ نسبتهم نحو تسعة أضعاف الأكثر فقرا.. والذين لا يتمتع منهم بالكهرباء سوى (5.6%)! بالطبع لم يحدث
ذلك مصادفة.. لم تتجه المياه إلى الأحياء الثرية، ولم تنصرف الكهرباء من الأحياء
الفقيرة .. دون خطة. الدولة تبني.. هذا صحيح، والحكومات تدفع وتعلن عن مشروعاتها.. ولكن. "من يكسب في النهاية"؟.. تلك هي القضية. إنه الانحياز تلتزم به معظم حكومات العالم الثالث.. صحيح أن هناك عنصرا آخر قد يؤثر وهو القدرة المالية للأفراد، فالأثرياء يمولون الميزانية العامة أكثر، والأثرياء (في مثال السفر سيرا على الأقدام) يملكون القدرة ليشتروا سيارة أو يستخدموا قطارا.. ولكن، ماذا عن الفقراء برغم ذلك؟ إنه التزام المجتمع، وكما نقول "الناس أمام القانون سواء".. فلابد أن نقول: "وهم في الحصول على الحاجات الأساسية سواسية".. نقول ذلك لكن نموذج الدولة المنحازة ما زال هو السائد.. خاصة في عالمنا: العالم الثالث.
|
|