جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

التّوْباد
بين مجنون ليلى وأحمد شوقي

من الأماكن ما يرتبط بالذاكرة الأدبية ويتجاوز دائرة الواقع ليصبح رمزا لمعنى أو مثيرا لاستدعاء حال أو شعور أو ذكرى. وفي الشعر العربي القديم أسماء للعديد من الأماكن أصبحت لكثرة دورانها على ألسنة الشعراء، وارتباطها بالإحساس الشعري - نفسيا وجغرافيا-رموزا لمعاني الحب والشوق أو اللقاء والوصال، أو الإشارة إلى مكان الحبيب وموقعه - في المكان والزمان - بغض النظر عن اقتران الشاعر نفسه بهذا المكان في سيرته الشخصية أو في حركته التي لا تهدأ من مكان إلى آخر.

من هذه الأماكن جبل "التوباد" الذي أصبح وروده في شعر مجنون ليلى قيس بن الملوح - على وجه الخصوص- إشارة إلى أرض بني عامر، حيث ديار "ليلى" التي هام بها وملأت عليه نفسه، وظل وفيا لحبها حتى الرمق الأخير، وكان شعره فيها متصلا عبر دائرة محكمة من ذكريات الطفولة والصبا المشتركة - وهما صغيران يرعيان البهم- وذكريات الشباب المتفتح بعنفوان عواطفه وتأجج مشاعره ثم حرمانه الزواج منها نزولا على التقاليد العربية القديمة التي كانت تحرم على من شبب بامرأة- أي تغزل فيها وقال شعرا تسامع به الناس- أن يتزوج منها، ثم هيام قيس على وجهه وابتعاده عن الناس وتوحشه وتسميته بالمجنون بعد أن زوجـت ليلى من غيره- وهو ورد الذي ينتمي لقبيلة أخرى هي قبيلة ثقيف.

قيس وليلى إذن ينتميان إلى قبيلة واحدة هي قبيلة بني عامر، ويجمعهما على مستوى الطفولة والصبا مكان واحد هو "التوباد" وتقول الروايات عنهما إن كلا منهما عشق صاحبه وهما حينئذ صبيان يرعيان مواشي أهلهما عند جبل يقال له التوباد فلم يزالا كذلك حتى كبرا، وفي أخبار قيس وليلى ما يلقي مزيدا من الضوء على منزلة "التوباد" منهما. يقول جامع الديوان ومحققه وشارحه عبدالستار فراج: "ولما ذهب عقل قيس وتوحش كان يجيء جبل التوباد فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو وليلى به- حينما كانا صبيين يرعيان غنما لأهلهما- جزع جزعا شديدا وتوحش، فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشام؟ فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبى أنتم، أين التوباد من أرض عامر؟ فيقال له: وأين أنت من أرض عامر؟ أنت بالشام عليك بنجم كذا فأته، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها وقوما لا يعرفهم، فيسألهم عن التوباد وأرض بني عامر، فيقولون، وأين أنت من أرض بني عامر؟ عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال:

وأجهشت للتوباد حين رأيته

وهلل للرحمن حين رآني

وأذريت دمع العين لما رأيته

ونادى بأعلى صوته ودعاني

سألت سواد الحي لما رأيته

وأخبرته ما قد جرى ودهاني

فقلت له أين الذين عهدتهم

حواليك في خصب وطيب زمان

فقال مضوا واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى مع الحدثان

وإني لأبكي اليوم من حذري غدا

فراقك والحيان مؤتلفان

سجالا وتهتانا ووبلا وديمة

وسحا وتسجاما إلى هملان

(والسجال: جمع سجل وهو ملء الدلو، والتهتان: الصب وتتابع المطر، والوبل: المطر الشديد، والديمة المطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق، والسح: الصب المتتابع الغزير، والتسجام: الصب والتدفق، والهملان: فيض العين بالدموع).

ثم يقول مجنون ليلى:

أيا مهديا ففي الحبيب صبيحة

بمن إلى من جئتما تشيان

بمن لو أراه عانيا لفديته

ومن لو رآني عانيا لفداني

فمن مبلغ عني الحبيب رسالة

بأن فؤادي دائم الخفقان

وأني ممنوع من النوم مدنف

وعيناي من وجد الأسى تكفان

وفي المسرحية الشعرية التي كتبها أحمد شوقي وسماها "مجنون ليلى" لا تفوت شوقي الاشارة في أكثر من مكان من فصول مسرحيته إلى "التوباد" من أرض بني عامر وحين تموت ليلى وتوارى الثرى، يصور شوقي - في الفصل الخامس والأخير من المسرحية على لسان قيس الذي لا يدري بعد بأن ليلى قد ماتت وتلقى أبوها وزوجها العزاء فيها - يصور هذه المناجاة لجبل التوباد، في لغة شعرية آسرة، وقدرة على استدعاء الذكريات البعيدة في زمن الطفولة والصبا الباكر، من خلال عاطفة أسيانه وموسيقى نفسية شجية:

جبل التوباد حياك الحيا

وسقى الله صبانا ورعى

فيك ناغينا الهوى في مهده

ورضعناه، فكنت المرضعا

وحدونا الشمس في مغربها

وبكرنا فسبقنا المطلعا

وعلى سفحك عشنا زمنا

ورعينا غنم الأهل معا

هذه الربوة كانت ملعبا

لشبابينا وكانت مرتعا

كم بنينا من حصاها أربعا

وانثنينا فمحونا الأربعا

وخططنا في نقا الرمل، فلم

تحفظ الريح، ولا الرمل وعى

لم تزل ليلى بعيني طفلة

لم تزد عن أمس إلا أصبعا

ما لأحجارك صما، كلما

هاج بي الشوق أبت أن تسمعا

كلما جئتك راجعت الصبا

فأبت أيامه أن ترجعا

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

وشوقي- وهو يتحدث بلسان قيس ويترجم عن مشاعره وأشواقه- يدير أبياته على محورين رئيسيين هما محورا المكان والزمان، أما المكان فهو جبل التوباد بكل حضوره في الذاكرة، رمزا لعمر جميل مشترك وأيام لم يفترق فيها الحبيبان، وحضـوره في الواقـع شاهدا على ما حدث، ومتابعـا لما آل إليه حـال الحبيبين: فراق واغتراب ونفي وعناء ومكابدة ويأس من اللقاء يفضي إلى المرض فالموت، وقيس راض بقضـاء الله وقدره، مستسلم لمشيته وحكمته:

قضاها لغيري وابتـلاني بحبهـا

فهـلا بشيء غير ليلى ابتـلانيـا!

وأما الزمان فهو الصبا الذي يدعو له قيس بالسقيا والرعاية. ولا يلبث المعجـم الشعري لهذين المحورين الرئيسيين أن ينهمر ويتتابع، فالمكان يستتبـع المهد والسفح ورعي غنم الأهـل والربوة التي كانت ملعبا ومرتعا والأربـع التي يبنيها العـاشقان الصغيران من الحصى وهما يخطان في نقا الرمل خطوطا لا تحفظهـا الريح. كما يستتبع المكان الأحجار الصم التي لا تسمع ولا تعي. وفي ختام الأبيات يصبح هذا المكان موضعا تهون الأرض كلها ولا يهون. ويستتبـع الزمان- من مفردات هذا المعجـم الشعري- صورة الرضاع ومناغاة الهوى ومغرب الشمس ومطلـع الشمس، وصورة ليلى التي تزال طفلة، وأيام الصبا التي تأبى الرجوع، وفي ختام الأبيات يصبح هذا الزمان ساعة يهون العمر كله ولا تهون.

والعزف على هذين الوترين معا: الزمان والمكان، الصبا والتوباد، أضفى على هذه المقطوعة الجميلة- التي التفت إلى سحرها وعذوبتها الموسيقار محمـد عبدالوهاب فتغنى بها لحنا شجيا آسرا- مسحة من الشجن الكوني الذي يستشعره الإنسان المتأمل لحركة الوجود. العمر يمضي، والأيام تتوارى، والذكريات تتداعى، ويبقى القلب وتبقى الذاكرة شاهدين على التغير وإيقاع الدوران السريع. وفي موضعها من سياق المسرحية تكتـب الأبيات حضورا خاصا وكأنها تعبير قيس- الغافل عن موت ليلى- عن ثبات الجبل والعمر الجميل في وجه ريح الفناء والعدم، وكأن عالم اللاوعي عند قيس يفصح عن فكرة الرسوخ والبقاء في وجه الزوال والموت، والتوباد- بكـل دلالته الجغرافية والنفسية- والصبـا الجميـل بكـل ذكريـاته الحية وخصوبته وثرائه- وتدان مشدودان بحبال قوية الفتل، يحفظان لخيمة هذا العمر قوة البقاء والحياة.

ولسوف يبقى "التوباد" الجبل والشعر في ذاكرة قراء الشعر العربي، مادام هناك قلب ينبض، ومساحات من الوجدان عامرة بالمشاعر النبيلـة الصادقة، والانتماء الأصيل إلى مفردات المكان والزمان.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات