مسيرة الدواء

من السحر إلي الترشيد

 كان موضوع الأدوية والمداواة الهاجس الذي شغل أذهان البشر منذ بدء الخليقة حتى الآن، فمنذ أقدم العصور توالت على العلاج اجتهادات ومفاهيم شتى هي انعكاس المكتسبات التجريبية والعلمية لمختلف الحضارات المتعاقبة. فلقد اكتشف الإنسان البدائي فائدة بعض النباتات في المعالجة. فما الذي ترسب إلينا من هذه المعالجات التي كانت قائمة خلال آلاف السنين؟الطب الشعبي الذي يمتد بجذوره إلى تلك الأزمنة ما زال يعتبر المرض جسما أجنبيا يقتضي استئصاله بأساليب مختلفة تشمل الرشف والمقيئات والحمامات والتمسيد. وكثيرا ما تستخدم بعض هذه الوسائل في يومنا هذا بنجاح أحيانا وبالخيبة أحيانا أخرى. ومن المحتمل أن يكون أحد العوامل في نجاح عدد من هذه المعالجات هو القدرة الإيحائية للمداوين التي كثيرا ما استغلت منذ عهد أبوقراط وقبل أن يظهر للوجود التنويم المغناطيسي والتحليل النفساني اللذان توافقا في تلبية الحاجات السحرية والغيبية للنفس البشرية.

من اللوحة السومرية إلى "قانون" ابن سينا

من ثم تسربت العقلانية إلى الدواء فظهرت المعالجات التجريبية في الهند والصين وما بين النهرين ومصر وبلاد الإغريق وأخيرا عند العرب، ولعل أقدم نص وصل إلينا هو اللوحة السومرية في أواخر الألف الثالثة قبل الميلاد، حيث ظهر فيها دليل على المعالجة التجريبية، بينما راح الأقراباذين أو دستور الصيدلة لدى المصريين القدماء يصف استنشاق أبخرة بعض الخلاصات النباتية في معالجة السعال. وقد ورث الإغريق سواء في المعالجة أو في مجالات أخرى معارف الحضارات القديمة وخاصة الحضارة المصرية، فأدخلوا بعدئذ المشاهدات التجريبية في منهج تفسيري شمل المداواة والفلسفة معا. وكان فن شفاء الأمراض في اليونان غير قابل للفصم عن الدين، وكان الكهنة يعتبرون أنفسهم الأخلاف والخدم لأسكليبيوس Asclepios الإله الشافي.

وفي القرن الخامس قبل الميلاد بدأ الطب الإغريقي يأخذ شكلا خاصا به، عندما انفصل عن الممارسات الدينية. فلقد عرف أبوقراط الخلود عندما أبرز وجود سبب طبيعي للمرض فأعطى هو وتلامذته الشكل العقلاني للمعالجة التي أصبحت تخضع للتجارب وتوجهها المناهج النظرية، وهكذا ارتكز الطب الأبوقراطي على نظرية علمية وكان ذلك أمرا فريدا في ذلك العصر.

وبعد قرون طويلة جاء ابن سينا شيخ أطباء العرب وقد ألف كتابه المشهور "القانون في حد الطب" لكي يكون القاعدة الفاصلة للطب يعود إليه طلاب الطب والأطباء كمرجع يجدون فيه الحد والفصل والنقاش، وظل الكتاب قمرا منيرا في سماء الطب حتى القرن الثامن عشر.

وقد تضمن قانون ابن سينا خمسة كتب أو فنون. الفن الثاني خاص بالأدوية المفردة يذكر فيها سبعمائة وستين دواء مرتبة حسب الحروف الأبجدية. والكتاب الخامس والأخير مخصص لفن المداواة أو الأقراباذين، إذ يصف بالتفصيل الأدوية المركبة في مختلف استطباباتها ونسبها ومقاديرها ونفعها وضررها، ويبدأ بفصل علم السموم فيذكر كل سم وأعراض التسمم به ومداواة ذلك. وفي الفصل عدد كبير من المراهم والأشربة والأقراص. ويقال إن شيخ الأطباء توصل إلى تغليف الأدوية للمساعدة في سهولة بلعها كما هو الأمر في البرشامات.

عهد الصيادلة والكيماويين العرب

وكان العرب أول من أنشأ صناعة العقاقير علما تجريبيا وتمكنوا من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل وركبوها من أصول نباتية وحيوانية ومعدنية أضافوها إلى ما عرفوا من صنوفها عن اليونان والهنود وغيرهم.

ولم يقتصر دور العرب في نقل الإرث القديم، فلقد اغتنى فن المداواة بما أضافوه من اكتشافات وبذلوه من جهود، فابتكروا أدوية جديدة وتقنيات جديدة كما هو الأمر في عمليات التقطير من خلال الإنبيق. وكان للعرب الفضل في كشف أدوية الكافور والصندل والراوند والمسك والتمر هندي والحنظل وجوز الطيب والقرفة وغيرها، كما ابتدعوا أصنافا من الشراب واخترعوا الإكسير من الكحول والمستحلب والخلاصة العطرية ونحوها وزادوا فاخترعوا آلات لتذويب الأجسام وتدبير العقاقير واستخدموا الكاويات في الجراحة، وكان مما ساعدهم عليها تقدم الكيمياء التجريبية وعلم النبات المستند إلى الملاحظة الحسية.

ووضع العرب في التداول أيضا المركبات الكيميائية المختلفة كحامض النيتريك وحمض الكبريت ونترات الفضة والبوتاس وحمض الخل والزرنيخ وأملاح الذهب والفضة والزئبق، واستطاعوا إزالة السرية والغموض والرمزية التي لازمت الكيمياء عند أسلافهم واصطنعوا في دراساتها منهجا استقرائيا تجريبيا فاستخدموا فيها المكاييل والموازين وغيرها من الآلات.

وكان أبوجعفر الغافقي (توفي في عام 550 ه/ 1155 م) في كتابه "الأدوية المفردة" يتميز بالدقة البالغة في وصف المفردات وقد جاء بعده ابن البيطار (توفي في 646 ه/ 1249 م) رئيس العشابين (أي نقيب الصيادلة في مصر) الذي ألف أكبر موسوعة في هذا المجال بكتابه "الجامع في الأدوية المفردة" وكان يطوف البلاد لملاحظة النبات ومشاهدته في منابعه.

ثورة في حقل الكيمياء والأدوية

وهكذا ظل الأوربيون يعتمدون على ما جاد به العرب في علوم الطب والصيدلة والكيمياء قرونا طويلة. وعندما قام كيميائيو القرن السادس عشر بوصف الأدوية الكيميائية فإنهم كانوا يكملون إلى حد كبير العلاجات العربية. وعلى الرغم من معارضة كلية الطب في باريس استطاعوا فرض الأدوية الجديدة كالكنكينا والايبيكا والانتيموان.

ثم جاء القرنان الثامن عشر والتاسع عشر اللذان كانا ثورة في حقل الكيمياء فاستطاع الكيميائيون في أوربا تطوير وسائل التحليل، فاكتشفوا الجواهر النشيطة للنباتات كما استخلصوا الغلوكوزيدات ونظائر القلويات، وهي مواد أكثر فعالية قابلة للعيار وأكثر ثباتا في تأثيرها من الخلاصات التي كانت مستعملة في ذلك الحين. ولقد تم استخلاص مادة الكينا من الكنكينا بحيث كان لها التأثير المدهش على حمى البرداء، بل استخدم الكينين كمثال من أجل تركيب بعض الأدوية الأخرى المضادة للبرداء، تشبه في بنائها مادة الكينين.

ولقد شاهد القرن التاسع عشر انتصار الأدوية ذات الأصول النباتية. ولم تقتصر الاكتشافات عليها بل كانت مركبات الزئبق والانتيموان تأخذ دورها المميز أيضا، إلى أن تم اكتشاف المواد المخدرة التي شكلت فتحا جديدا لإجراء العمليات الجراحية بسهولة ويسر بالغين. وأخيرا ظهرت الأدوية البيولوجية أو الحيوية كالأمصال واللقاحات والإنزيمات والمواد الحيوية لتضيف بعدا جديدا للتطور التقني في المعالجة والدواء.

وكان القرن العشرون عصر التجديد الدوائي المذهل. ففي عام 1899 تم اكتشاف الإسبرين وجوهره الصافي حامض الاستيل ساليسيليك. وفي عام 1921 تم اكتشاف الأنسولين الذي أنقذ أرواح الكثيرين من المصابين بالداء السكري.. ثم توالت الاكتشافات، ففي عام 1928 استطاع فليمنج Fleming العثور على البنسلين في العفن المتوضع فوق مزرعة جرثومية فلاحظ اختفاء الجراثيم منها، ولم يبدأ استعمال البنسلين في العلاج إلا في عام 1943 ضد الالتهابات الرئوية بشكل خاص، وتبعه الستربتومايسين الدواء المضاد للسل في عام 1944 وبعده الكلورمايستين الشافي للحمى التيفية. ومن ثم تم اكتشاف الكورتيزون المادة الفعالة ضد الالتهابات والآلام. ولم تخرج الأدوية التي اكتشفت بعد ذلك عن إطار السلسلة الأولى التي ظهرت في الأربعينيات.

هل اكتشف العرب البنسلين؟

كثيرا ما تضيع جهود العلماء عبر التاريخ، فلقد سبقت أعمال فليمنج تجارب الأطباء الفرنسيين. فبعد تجارب طويلة أجراها العالم دوكين Duchecne في مخابر العالمين "باستور ورو" "Pasteur et Roux"، قدم أطروحة للدكتوراه تحت عنوان "مساهمة في دراسة التنافس الحيوي في الجسيمات المتناهية في الصغر والتضاد بينها وبين العفنيات" شرح فيها أن المادة العفنية "بنيسللينوم غلوكوم Penicillinum Glaucum" التي حقن بها الحيوان في نفس الوقت الذي حقن فيه بمزارع جرثومية ممرضة قد ساهمت في التخفيف من قوة هذه المزارع الجرثومية.. فهل يعني ذلك أن تذهب هذه التجارب سدى لتغور في طي النسيان؟ يتبلور هنا سؤال وجيه: هل اطلع باستور ودوكين على استخدام العفنيات من قبل الطب العربي؟ فلقد كان العرب يأخذون عينات من العفن من سروج رواحلهم ويطبقونها على الجروح المتقيحة بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما كانوا يعالجون التهاب الحنجرة بنفخ المسحوق الأخضر الذي يستخلصونه من القشرة السطحية للخبز المتعفن في حلق المريض.

وقديما استعمل أهالي ما بين النهرين قشرة الصفصاف الغنية بحمض الصفصاف من أجل تخفيض حرارة المريض. وفي عصرنا هذا فإن الإسبرين المشتق من هذا الحمض هو الخافض للحرارة والمضاد للألم الأكثر استعمالا. أما بالنسبة لخاصيته المضادة للالتهاب وخاصيته المميعة والمضادة لتخثر الدم فإن الإسبرين يكتسب اهتماما عالميا جديدا في نهاية القرن العشرين.

الاستخدام العقلاني للدواء

ومن خلال هذه المعلومات القديمة والحديثة تعترضنا عدة تساؤلات:

1 - ألا يعتبر الدواء، أي دواء على الإطلاق، أساسيا بالنسبة لصحة المريض؟

2 - هل صحيح أن الدواء الأحدث هو الأفضل؟

3 - أليست هناك أدوية أفضل من الأخرى؟

وقد أجابت منظمة الصحة العالمية عن هذه التساؤلات منذ عقد من الزمن. فلقد ثبت لديها أن هنالك 220 صنفا فقط من الأدوية واللقاحات يمكن اعتبارها أساسية في الممارسة الطبية تم إثبات خواصها العلاجية الجيدة، ومنذ ذلك التاريخ تبنت معظم دول العالم النامي القائمة النموذجية للمنظمة فصممت على وقف الهدر في استعمال الأدوية. وينفق العديد من هذه الدول ما بين 20 إلى 30% من ميزانياتها الصحية المتواضعة على استيراد الأدوية من البلدان الصناعية. وإذا كان بعض هذه الأدوية يتسم بالفعالية فإن البعض الآخر ليس له أي تأثير علاجي على الإطلاق.

وقد شكلت السوق العالمية لمبيعات الدواء 100 مليار من الدولارات سنويا، 85% منها في الدول الصناعية التي تقوم بتصدير قسم كبير منها إلى الدول النامية، وبدون أن يكون هنالك رقابة حقيقية على نوعية الأدوية المصدرة. وكان قد صدر تقرير في أواخر عام 1985 من جمعية "العمل الصحي الدولي" يفضح سلوك الصناعة الدوائية الأوربية تجاه بلدان العالم النامي والإفراط الشديد في تصريف وتصدير مختلف الأدوية إليها. وقد أفادت التقارير أيضا أن 73% من المواد المضادة للالتهاب لا تتصف بميزات دوائية هامة وثابتة المفعول، مع أنها باهظة الثمن وأغلى بكثير من أدوية أخرى أثبتت جدواها.

وضمن هذا السياق وبفعل الضغوط التي مارستها الجمعية الدولية للمستهلكين والمنظمات المحلية في أوربا وهيئة الأمم المتحدة، اضطرت السوق الأوربية المشتركة للتراجع عن تصدير الأدوية المحظورة في بلدانها، ويفرض أحد القرارات المتخذة إعلام الدول المستوردة بمعلومات تفصيلية عن الأدوية المصدرة. وتنص الوثيقة أيضا على المفهوم الجديد للأدوية الأساسية، وعلى ضرورة التقيد بأنظمة وقرارات منظمة الصحة العالمية حول جودة الأدوية الصيدلانية المطروحة في التجارة العالمية.