إلى أن نلتقي أنور الياسين

إلى أن نلتقي

مازلت مستيقظا

لا أنسى المرة الأولى التي وقفت فيها أمام منوم مغناطيسي. كنا في سهرة بأحد الفنادق وكان المنوم يقوم باستعراض استطاع فيه أن ينومِّ كل الذين صعدوا إلى المسرح ويجعلهم يقومون بحركات بهلوانية غريبة. ثم التفت إلينا وتحدى أي واحد من الحضور أن يصعد إلى المسرح حتى يسيطر عليه. وبدون أن أملك السيطرة على نفسي نهضت. وقفت في مواجهته فحدق فيّ بعينيه النافذتين. كانتا تشعان ضوءا غريبا لعله انعكاس للمصابيح الساطعة من حولنا. أمسك يدي وضغط عليها لعلي استرخي فلمٍ استرخ. حدق في ليرغمني على إغماض عيني فلم يستطع. حاول مع أخرى وحاولت أن أساعده فلم نقدر معاً. ظللت صامداً رغما عني وعنه وأخيراً قال لي في امتعاض واضح: أنت لست موهوباً..

في البداية أحسست بزهو خفي لاكتشافي أنني شخصية قوية من الصعب السيطرة عليها. مؤقت في ذهني أحداث أحد الأفلام العربية القديمة. فقدت فيها البطلة أعز ما تملك لأنها وقعت تحت تأثير منوم مغناطيسي شرير تنهدت في راحة لأن هذا المنوم لم ينتهك عذرية أسراري الخاصة ولم يدخل في تلافيف عقلي الباطن..

كان الطبيب الفرنسي مارتان شاركو هو أول من حاول أن يحول التنويم المغناطيسي إلى علم معترف به. واتخذه "فرويد" وسيلة لاكتشاف الصدمات النفسية التي عانى منها المريض واختفت في اللاوعي الداخلي وبقيت على السطح أعراضها. ثم كفر "فرويد" بهذا العلاج باعتباره تقنية سيطرة تتطلب من المريض خضوعاً تاما لسلطة المنوم. وحاول الدكتور جوزيف ولبون أن يوفق بين الآراء المتعارضة بالقول إنه من المستحيل أن يفرض على الواقع تحت تأثير المنوم المغناطيسي شيئا يمكن أن يتعارض مع حسه الأخلاقي والديني.

هكذا إذن.. لا أحد ينام رغما عنه. النوم فعل إرادي يتحول الشخص بموجبه إلى "موضوع" مستلب. وعادة ما يكون شخصاً يسعى للهروب من اضطراباته النفسية التي تجعله يفقد السيطرة جملي ذاته بسهولة. ولكن المدهش أن هذه الصورة قد تغيرت كثيراً مع تقدم أبحاث التنويم في مجال علم النفس. فلم تعد الشخصية القابلة للتنويم مضطربة أو ضعيفة ولكن أصبحت موهوبة، إيجابية، قادرة على الاستغراق في التخيل، قابلة للتعلم ولخوض التجارب، تملك شجاعة البوح بمكنون النفس. بينما الشخصية غير القابلة للتنويم: سلبية غير موهوبة، عنيدة بطريقة تجعلها منفعلة ضد العالم.

لقد تبدد الزهو المؤقت الذي أحسست به تماما. ورغم أنني اكتشفت أن الأشخاص الذين قام المنوم بتنويمهم على المسرح كانوا جميعا من موظفي الفندق وأن هذا العرض كان كله زائفا ومتفقا عليه إلا أنني تمنيت لو استطعت أن أنام، أن أتصرف ولو لمرة واحدة بعفوية، دون ضابط أو رقيب، أن أخفف من وطأة الأشياء التي تثقل روحي وأتمرد قليلا على قيود التقاليد والتربية والأهم من ذلك أن أتعرف ولو للحظة عابرة على الشخصيات الأخرى التي يقال إنها تشاركني نفس البدن. ولكني لم أنم.

ومازلت مستيقظا حتى الآن.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات