نوتنغ هيل غيت.. مهرجان كاريبي في قلب لندن

نوتنغ هيل غيت.. مهرجان كاريبي في قلب لندن

على الرغم من ارتفاع حدة الدعوات في مجلس العموم إلى إلغاء مهرجان نوتنغ هيل، إلا انه بمرور السنوات يكتسب مزيدا من الشعبية.

في عام 1936 خرج مئات من السكان الكاريبيين الذين يقيمون في حي (نوتنغ هيل غيت) في قلب العاصمة البريطانية لندن للشوارع يحتفلون رقصا، وبعد ثلاثين سنة احتشد نحو المليون من البشر، ليتواصل مهرجان نوتنغ هيل ويتضاعف عدد المشاركين فيه خلال العامين الأخيرين لتنتشر حلقات الرقص الشعبية إلى الأحياء القريبة وليصبح الكاريبيون، بعد ذلك، أقلية في بحر الراقصين الذين يضمون مئات الآلاف من السياح فضلا عن البريطانيين. وفي آخر مهرجان شهده العام الماضي كان يتعذر على السلطات المحلية ضبط مفاتيح الأمن وضمان شفافية حركة المواكب وحلقات المحتفلين من غير خطة أمنية شديدة الحذر، وقبل الاحتفال بيومين قالت الصحف البريطانية إن سبعين ألف فرنسي دخلوا الحدود خلال يومين للمشاركة في مهرجان نوتنغ هيل غيت، ولم يتوان قائد الشرطة المحلية رودي س. غاي عن أن يحذر الجمهور من الانفعالات التي أودت العام الماضي بحياة مواطنين وجرح المئات، وقال إن الشرطة ستلجأ إلى الإجراءات الصارمة حفاظا على الأرواح والممتلكات، وفي صباح المهرجان، في التاسع والعشرين من أغسطس كانت كلمات السيد غاي قد تحولت إلى واقع، وقيل إن إقفال الشوارع والمداخل حال دون وصول مائتي ألف من الجمهور إلى الميدان.

(نوتنغ هيل) منطقة سكنية وتجارية تقع إلى غرب مركزالعاصمة لندن، وكانت حتى أواخر الخمسينيات مركزا لتجمع الأقلية الكاريبية المهاجرة، غير أنها منذ الثمانينيات تحولت إلى منطقة تجارية راقية فصارت تشكل امتدادا للقنوات التجارية المعروفة في وسط العاصمة مثل (ماربل ارش) و(بادنغتن) و(اجور رود)، ودخلت في موضوعات الكتاب والفنانين والشعراء بوصفها قطعة مضطربة من عوالم الحداثة والإرهاصات والتأمل، وليس من دون مغزى أن تلهم عوالم الحي الكاتب المعروف ريتشارد كيرتس لتأليف قصة فيلم، يحمل اسم المنطقة (نوتنغ هيل) والذي أخرجه بداية العام الماضي 1999 روجر مايكل، ولعب بطولته كل من هيوغرانت وجوليا روبرتس.

وفي هذه المنطقة القريبة من حي (كونيزوي) المعروف بوصفه واحداً من أكبر التجمعات العربية في العاصمة البريطانية، تزدحم المقاهي والمطاعم والأسواق الراقية والشعبية أيضا، إلى جانب المكتبات والمحلات التي تتاجر بالأنتيكات والسجاد الإيراني الفاخر، كما تزدحم بدور العرض السينمائي، وهي المنطقة التي تتوسط الطرق ما بين ضواحي لندن الغربية ومركز المدينة الصاخب بالحركة والحياة التجارية.

عندما بدأ مهرجان (نوتنغ هيل) عام 1964 كانت هذه المنطقة تعد بعيدة عن المركز والأحياء الراقية، فكانت مستقراً للأقليات الكاريبية والأفارقة السود الذين كانوا يعملون في شتى المهن المتواضعة، كما كانت هذه المنطقة تزخر بمطاعمهم ومقاهيهم التي تشهد تجمعاتهم الصاخبة.

من التظاهرة إلى الكرنفال

ذات يوم من أواخر صيف عام 1964 قررت بعض هذه الأقليات الخروج في تظاهرة سلمية احتجاجا على سياسة التمييز العنصري التي تمارس من قبل بعض البيض ضدهم، وكعادة الكاريبيين فإن تظاهرتهم هذه التي استمرت يومين اقترنت بالموسيقى والغناء والرقص بالأزياء الشعبية التقليدية، كما أن الموسيقى كانت تعزف بواسطة آلات ـ هي الأخرى ـ تقليدية.

وعلى مدى سنوات قليلة كان يشارك بضع مئات من الكاريبيين في هذا المهرجان وسط إجراءات أمنية مشددة بسبب ما شهدته السنوات الأولى من مصادمات بين بعض البيض المتطرفين عنصرياً والأقليات الكاريبية، فقد تعالت نداءات برلمانية وحكومية بعضها طالب بإلغاء المهرجان، بينما طالب البعض الآخر بتطويره وتنظيمه ليكون واحداً من المميزات اللندنية التي تعكس التناغم الإثني، والقومي، والديني الذي تشهده بريطانيا، وإذا كانت الحكومات البريطانية المتتالية قد مالت للاختيار الثاني وسمحت باستمرار المهرجان، فإن أصواتا بريطانية لاتزال ترتفع من أجل منع مهرجان (نوتنغ هيل) الذي أصبح اليوم واحداً من أوجه لندن الزاخرة بالحياة، بحجة أن المهرجان فرصة لحدوث المشاكل رغم أن الشرطة البريطانية أكدت خلو فعاليات المهرجان من أي مشاكل حقيقية خاصة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولايزال الكثير من البريطانيين يترفعون عن زيارة (نوتنغ هيل) خلال يومي المهرجان وينظرون إليه بوصفه انفلاتا عن القيم التقليدية الإنجليزية.

وتقول (كيلر هولدار) المديرة التنفيذية للمهرجان إن التحضيرات لإقامة كرنفال (مهرجان نوتنغ هيل) تسبق قيامه بثلاثة أشهر على الأقل، حيث يبدأ العد التنازلي لانطلاقته، ويتطلب ذلك تهيئة الشاحنات الكبيرة التي تتحول إلى ستوديوهات ومسارح متجولة تقل الراقصات والراقصين الذين يرتدون الأزياء الكاريبية التقليدية، بينما يصطف الموسيقيون وهم يعزفون الموسيقى التقليدية.

وتضيف هولدار قائلة: إن المهرجان أصبح تجمعاً متناغماً للمتحدرين من بلدان مختلفة، بالإضافة إلى أنه احتفال بكل ما هو جميل وناجم عن التنوع الثقافي في المجتمع البريطاني، إذ تشترك خلاله الفرق الموسيقية بأزياء أعضائها الغريبة الزاهية الألوان التي تمثل بلداناً وثقافات متعددة خاصة من جزر الكاريبي الشهيرة بعزف (الستيل باند) أو البراميل الكاريبية التي تصدر أنغاما موسيقية متميزة، كما تشارك فرق متحدرة من شعوب أمريكا الوسطى والجنوبية، مثل البرازيل المعروفة بكرنفالاتها الصاخبة، وفرق رقصة (السامبا) الشهيرة.

يخصص اليوم الأول من المهرجان، وحسب تقاليده المعمول بها، لفرق الأطفال الذين يجوبون شوارع منطقة نوتنغ هيل والمناطق المحيطة بها بواسطة الشاحنات أو بمجموعات ترتدي أزياء غريبة تؤدي رقصات تقليدية خلف هذه الشاحنات التي تطلق، وبواسطة مكبرات صوت ضخمة، موسيقى صاخبة، مع أداء الرقصات الشعبية، وعادة يشارك الكبار في اليوم الأول.

أما فعاليات اليوم الثاني، والتي تعد ذروة المهرجان، فهي للكبار، وهنا استعراض حقيقي للأزياء والموسيقى والرقص حيث يشعر المشاهد بأنه في واحدة من المدن الكاريبية لما يرافق هذه الفعاليات من نشاطات أخرى تتمثل بإقامة أسواق لبيع الأزياء والصناعات التقليدية إلى جانب سوق تقدم فيه أشهى وأشهر المأكولات الكاريبية.

ويسبق اليومين، يوم هو بمنزلة التمرين على المهرجان إذ تخرج فيه بعض الفرق مساء وكأنها الإعلان عن المهرجان الذي يحفظ موعده ليس البريطانيون فحسب، بل وبقية الأوربيين الذين يحضرون خصيصاً إلى لندن لمشاهدة فعاليات أكبر مهرجانات قارة أوربا.

وقد حافظ منظمو المهرجان على موعده في نهاية شهر أغسطس وعلى أن يكون في عطلة نهاية الأسبوع، السبت والأحد، وتلحق به عطلة بريطانية (بنك هوليدي) وترجمتها الحرفية (عطلة البنوك)، ففي بريطانيا إذا تعطلت البنوك فهذا يعني أن تعطل كل الشركات والمؤسسات والدوائر الحكومية والخاصة، وتكون هذه العطلة في العادة يوم الاثنين لتشكل مع عطلة نهاية الأسبوع إجازة طويلة تمتد ثلاثة أيام.

التحرر من التقاليد

منذ وقت مبكر من مساء يوم الأحد 29 أغسطس وبينما كان ما يقرب من ثلاثة ملايين متفرج بانتظار انطلاق المهرجان، صدحت الموسيقى الصاخبة وانطلقت الشاحنات من (نوتنغ هيل)، قبلها تهيأ الناس المتعاطفون مع المهرجان وارتدى بعضهم أزياء غريبة، بينما حمل الجميع صافرات تباع قبل وخلال أيام المهرجان للمشاركة في إضفاء المزيد من الصخب للأجواء الاحتفالية.

وإذا كان المهرجان فرصة لاستعراض ثقافات وفنون وأزياء وحضارة شعوب الكاريبي وأمريكا الجنوبية، فإنه في الواقع فرصة لغالبية البريطانيين والأوربيين للانطلاق والتحرر من القيود الاجتماعية، لهذا تتحول جميع شوارع نوتنغ هيل والمناطق المحيطة بها وعلى مدى ثلاثة أيام إلى مسارح للرقص والغناء والفرح، ففي هذه الأيام يحرم الحزن و(التعبيس) ويكون مسموحا فقط بالفرح والضحك والغناء.

وبينما تدور الفرق والشاحنات في الشوارع المخصصة للمهرجان، إذ تقطع حركة سير السيارات تماما في هذه الشوارع باستثناء تلك المشاركة في فعاليات المهرجان، فإن مئات الألوف من الأطفال والشباب والكبار الذين يصطفون على جوانب الطرق أو الذين يطلون من شرفات وشبابيك بيوتهم يتمايلون رقصاً على أنغام الموسيقى.ويرتدي الأطفال، والنساء أزياء على أشكال فراشات أو طيور، أو حيوانات أسطورية، إذ تحرص كل فرقة على أن تكون هي المميزة لتحصل على جائزة أفضل فرقة من حيث الأزياء والرقص والغناء والتي تمنحها عادة لجنة تحكيمية تعتلي منصة في منطقة تتوسط منطقة فعاليات المهرجان.

كرنفال ثقافي أيضاً

البيض من البريطانيين الذين كانوا يقفون ضد هذا المهرجان صاروا اليوم يشاركون في فعالياته التي لم تعد تقتصر على الأقليات الكاريبية، بل وجدت مؤسسات خيرية وشركات تجارية في فعاليات مهرجان نوتنغ هيل فرصة مثلى للإعلان عن نشاطاتها وخير مكان للترويج، بل إن فرقا موسيقية وراقصة بريطانية من البيض شاركت خلال العامين الأخيرين بنشاطات المهرجان إلى جانب مؤسسات خيرية مثل جمعيات رعاية الأطفال والمسنين، وجمعيات مكافحة مرضى السرطان والإيدز، ووضعت هذه الجمعيات مواقع لها في سوق المهرجان لبيع بعض القمصان التي تحمل الشعارات الخاصة بالجمعيات إلى جانب الترويج لبعض الأطعمة لجمع الأموال لصالح برامجها الخيرية.

الكاريبيون لا يتضايقون من مشاركة الشعوب الأخرى، بل على العكس يشعرون بالفرح لتعاطف ومشاركة الآخرين لفعالياتهم، وكالعادة نلحظ غيابا واضحا للعرب في هذا المهرجان الذي يمكن من خلاله تكريس الوجود العربي الكثيف في لندن خاصة وبريطانيا عامة، فلم تسع أي شركة أو بنك أو مؤسسة عربية أو حتى جاليات عربية لوضع شاحنة مثلا تطلق الأغاني والموسيقى العربية لتقول للآخرين (نحن هنا) باستثناء فعاليات فردية هنا وهناك مثل الترويج للكتب الإسلامية من خلال (مكتبة الدعوة الإسلامية) التي تقع في منطقة الفعاليات.

استنفار أمني

وإذا كانت بعض جرائم القتل أو السرقة قد حدثت في الأعوام الأولى من المهرجان والتي دفعت ببعض الجمعيات للمطالبة بإلغاء المهرجان مما أغضب الجاليات الكاريبية واللجنة المنظمة للمهرجان، فإن الأعوام الثلاثة الماضية لم تشهد أي حوادث إخلال بالأمن وذلك بفضل التعاون الكبير بين اللجنة المنظمة للمهرجان وشرطة لندن التي حشدت أكثر من عشرين ألفا من أفرادها سواء كانوا راجلين أو فوق خيولهم أو بواسطة دوريات سيارات الشرطة والتي أسهمت بضبط الجانب الأجنبي للمهرجان، وأكد أحد ضباط فرق الشرطة أنهم يعملون خلال أيام المهرجان أكثر من خمس عشر ساعة باليوم لينعم الناس بالأمن والاطمئنان، كما أن هناك حشدا من طائرات الهليوكوبتر التابعة للشرطة تحلق باستمرار في فضاء المنطقة لفرض المزيد من السيطرة الأمنية، وتنتشر كذلك الفرق الطبية والإسعافات الأولية لمساعدة الآلاف من الناس.مهرجان نوتنغ هيل صار رمزاً من رموز لندن ليؤكد على تنوعها الثقافي والعرقي، وكرس كتقليد ثقافي وحضاري يجتذب الآلاف من الأوربيين، وأيضا تحول إلى منفذ لاجتذاب المزيد من السياح الذين يفدون إلى لندن كل صيف من مختلف أنحاء العالم.

تقول ماريا كنايس من إسبانيا إنها تأتي كل عام مع زوجها إلى لندن في موعد قيام المهرجان، فهو بالنسبة لها رحلة سياحية، وفرصة للاطلاع عن كثب على فعاليات مهرجان (نوتنغ هيل).

أما مارك شلودر، ألماني، فإنه يؤكد حضوره فعاليات المهرجان كل عام ومنذ خمس سنوات ذلك أن هذا المهرجان بالنسبة له فرصة ثقافية وحياتية يقول: هنا استعراض لثقافات وحيوات شعوب بعيدة عنا، فلماذا لا نستفيد من الفرصة?

لندن وعلى مدى يومين تتحرر من تقاليدها الصارمة، الشوارع تتحول إلى مسارح في الهواء الطلق للرقص والغناء والعزف والتعارف والفرح، وبعد يومي المهرجان تعود منطقة نوتنغ هيل والمناطق المحيطة بها هادئة، ونظيفة بعد أن كانت خلال يومين ضاجة ومزدحمة بالغناء والموسيقى والطعام أىضاً.

في أحد احياء (نوتنغ هيل) تقيم الكاتبة الصينية تشونغ يانغ، وعلى شارعها الرئيسي يطل مقهى ديانا، وفي مقهى في الطابق الثاني من أعلى عماراتها بدأت حلقة من الفنانين والكتاب الإنجليز والإيرلنديين والأفارقة تلتقي يوميا لتسجل بداية حركة ربما سترى النور يوماً، هي في كل الأحوال إشارة لهجرة لا رجعة فيها إلى حي سوهو الذي احتكر طوال مائة عام تمردات أجيال الفنانين.

 

 

عبدالمنعم الأعسم

 
  




أزياء ذات تصاميم غريبة للمشاركين في المهرجان





مختلف الأعمار في كرنفال الألوان الذي تزادن به المدينة





أبناء الدول الكاريبية وأفراحهم التي تمنح العاصمة البريطانية حالة من البهجة





شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة ورموزها في العالم تزادن بها ساحات لندن





صغار وكبار في ملابس احتفالية زاهية





البائعون الجائلون وفرصة رواج بضائعهم الموجهة للطفولة خلال المهرجان