أحياء بين الواقع والخرافة سمير رضوان

يمتزج الواقع بالخرافة في وصف كثير من الأحياء، خاصة الحيوانات التي يرد ذكرها في التراث القصصي الشعبي. وتتناول هذه المقالة مثالين لهذه الحيوانات، محاولة إبراز جوانب الواقع ونصيب الخرافة فيهما، وذلك على ضوء المعارف العلمية.

يزخر القصص الشعبي من التراث العالمي- خاصة الهندي والفارسي والعربي- بأنواع شتى من الأحياء يمتزج فيها الواقع بالخرافة والحقيقة بالخيال. والقصص المختلفة لمغامرات السندباد مثلا تحدثنا عن حصان يطير بجناحيه أو أفعوان متعدد الرءوس أو تنين ينفث اللهب. والخيال ليس مقطوع الصلة بالواقع دائما، كما قد يتبادر إلى الذهن. على أن نصيب الخيال في هذه الأحياء كثيرا ما يجور على نصيب الواقع. ويصدق ذلك أيضا على آراء العلماء الأولين. فقد كان الفلاسفة في عصر أفلاطون وما بعده يؤمنون بأن كل الحيوانات على الأرض ما هي إلا تقليد قاصر لحيوانات "مثالية" قليلة العدد. على أن العلم الحديث كشف عن أن التنوع بين الأحياء هو القاعدة وليس الشذوذ.

التنين نافث اللهب

يرد وصف هذا الحيوان الغريب في قصص "ألف ليلة وليلة"، كما أنه صور في بعض أفلام الخيال العلمي على أنه تنين ضخم الجثة، عدواني، ينفث اللهب من فتحتي أنفه، يسعى مترنحا على طرفيه الخلفيين القويين وهو يضرب بذيله السميك عن يمينه وعن يساره. وقد تكرر هذا الوصف بصورة فيها قدر كبير من التشابه في الروايات المختلفة عبر آلاف السنين، وذلك في مناطق متفرقة من العالم. ويعتقد الكثيرون من الباحثين في الآداب وعادات الشعوب أن تشابه الروايات يمكن أن يضفي قدرا من المصداقية على وجود هذا الحيوان. ذلك أنه يصعب التصور أن الأخيلة في الأزمنة والأماكن المختلفة يمكن أن تتوافق بالمصادفة على هذه الصورة، ولا يفسر هذا التوافق غير أن هذا الحيوان قد عاش في تلك الأزمنة والأماكن من العالم. غير أن باحثين آخرين يرون أن التنين نافث اللهب هو من نتاج الخيال البشري. هناك فروض مختلفة يطرحونها لتفسير السؤال: ما الذي ألجأ الإنسان إلى ابتداع حيوانات كهذه؟ هؤلاء يعتقدون أن الخوف البشري مقرونا بغريزة الإحساس بالتفوق هما اللذان حركا خيال الإنسان لإقحام هذه الصورة على الوجود. ولعل مواجهة الإنسان للمرة الأولى بحيوان مثل التمساح مثلا - الذي يشبه التنين إلى حد كبير - قد أرعبته. فلما نجا من هذه المواجهة رأى أن يعزو ذلك إلى شجاعته وتفوقه على الوحش. لذلك أضفى على التمساح من الصفات ما يجعله أكثر قوة. فأصبح التمساح تنينا. وهناك من الباحثين من يرى أن المسألة أساسها اكتشاف بقايا عظمية لحيوان منقرض أشعلت خيال البعض حتى تصور العظام لحيوان على هيئة التنين.

التنين والديناصور

ويعتقد باحثون آخرون أن التنين إن هو في الواقع إلا أحد الديناصورات التي كانت تعيش على الأرض منذ 290 مليون سنة، والتي انقرضت جميعها لأسباب ما زالت مجهولة إلى اليوم، منذ 65 مليون سنة. ونذكر هنا أن المتخصصين في أصل الإنسان يعلمون يقينا أن نوع الإنسان المفكر يستحيل أن يتجاوز عمره على الأرض خمسة ملايين سنة، وهذا في أكثر التقديرات مبالغة. بل هناك أدلة على أن الإنسان بصورته الحالية لم يظهر في إفريقيا - أول قارة استوطنها بشر - إلا منذ مائة ألف سنة فقط، ولم يستوطن أوربا إلا منذ خمسة وثلاثين ألف عام. ومن ثم - ومع افتراض أن التنين كان فعلا أحد الديناصورات - فمن المستحيل أن تكون الروايات المتواترة عنه مبنية على رؤية العين. إذ الثابت أن جميع الديناصورات قد انقرضت قبل أن يظهر الإنسان بعشرات الملايين من السنين. على أن البعض يرون أن أجدادنا في عصور ما قبل التاريخ ربما عاصروا حيوانات تشبه التنين لفترة وجيزة انقرضت بعدها. فعلى سبيل المثال لقد اكتشف علماء الجيولوجيا المعاصرون في أستراليا بقايا متحجرة لحيوان طوله خمسة أمتار، يشبه التنين، عاش وانقرض قبل 20 ألف سنة فقط. ومن المتصور أن الإنسان قد أضفى على مثل هذه الحيوانات عبر الأجيال بعضا من الصفات الخرافية مثل قدرتها على أن تنفث اللهب.

الحياة والنار

من الوجهة العلمية يمكن قبول التنين بجميع صفاته المذكورة على أنه نوع حيواني عاش ثم انقرض، إلا قدرته على إطلاق اللهب من الأنف أو الفم. فهذه تدخل في باب الخرافة. فليست للكائنات الحية في الإجمال سوى قدرة محدودة على تحمل بعض الارتفاع في درجة الحرارة. وفي جميع الأحوال يندر أن يكون لكائن حي قدرة على تحمل درجة حرارة فوق نقطة غليان الماء أي 100 درجة مئوية. أما النار فلا طاقة لحي بها أبدا. ومن ثم يستحيل عليه أن ينفثها من داخله. وكل الأحياء التي تتحمل قدرة من الارتفاع في درجة حرارة تقترب من نقطة الغليان كلها كائنات دنيا وحيدة الخلية، ومعظمها أنواع من البكتيريا تعيش في التربة، أو في مياه الينابيع الحارة، أو بالقرب من البراكين. أما الكائنات الكبيرة معقدة التركيب كالحيوانات والإنسان فلا تتحمل الحرارة القريبة من درجة غليان الماء. وقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة في علم الكائنات الدقيقة أن هناك أنواعا لم تكن معروفة من قبل من البكتيريا تقطن قيعان المحيطات على أعماق مئات الكيلومترات بالقرب من براكين حية تحت الماء. وتتجاوز درجة الحرارة في هذه المناطق نقطة غليان الماء بكثير. حيث من المعروف أن درجة غليان الماء ترتفع بالضغط الذي يسببه هنا عمود الماء الهائل فوق منطقة البركان. وما زالت قدرة هذه الأنواع على تحمل درجة الحرارة المرتفعة تحير العلماء، وإن كانت هذه الدرجات تنخفض كثيرا عن حرارة لهب النار. خلاصة القول أن علم الأحياء لا ينفي احتمال أن يكون حيوان شبيه بالتنين قد عاش في الماضي ثم انقرض، ولكن حقائق العلم تجافي تماما ادعاء أن تكون لمثل هذا الحيوان أو لغيره قدرة على أن ينفث لهبا يحرق به أعداءه، كما يتوارد في التراث الشعبي. الإنسان الوحشي أما المثال الثاني للأحياء التي يمتزج في وصفها الواقع بالخيال فهو يتعلق بمخلوق يثير اهتمام الباحثين وغير المختصين على حد سواء. يعتقد كثيرون من الدارسين والعامة أن الإنسان الوحشي - أي جدنا البري - على عكس ما يؤمن به معظم المختصين، ما زال موجودا على الأرض، ولم ينقرض بعد. ولقد تعددت الروايات أيضا في أمر هذا المخلوق، وفي أنحاء متفرقة من العالم. في آسيا - وعلى وجه التحديد في منطقة جبال الهيمالايا- يتردد بين العامة أن هناك آدميا بريا يطلقون عليه أسماء مختلفة مثل "رجل الجليد" وآخر اسمه "اليتي" ( Yeti ) وقد نشر العلماء الأمريكيون عام 1951 م صورا لآثار أقدام في الجليد يعتقدون أنها لهذا الجد البري. وقد وجدوا هذه الآثار في مناطق شتى متفرقة بالقرب من نيبال وهضبة التبت. وإذا انتقلنا إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية وجدنا أن الهنود الحمر يتوارثون روايات عن آدمي مشابه يطلقون عليه اسم "ذو القدم الكبيرة" ( Big foot ) كما يتردد بين سكان منطقة منغوليا أن هناك آدميين بريين غريبي الأشكال والأطوار، فيهم من هيئة الحيوانات الكثير. وهم يروون أن الآدميين البريين يأكلون ثم يرقصون رقصات بدائية لا مثيل لها في المنطقة، وكثير من هؤلاء يحملون ملامح القرود، ولكنهم - طبقا للروايات - ليسوا قرودًا.

توافق الأوصاف

ومرة أخرى يرى بعض الدارسين أن التوافق الوصفي في الروايات المختلفة إن هو إلا دليل على وجود هذا الإنسان الوحشي - جدنا البري - حيا في مناطق جبلية معزولة يصعب الوصول إليها. وتتفق الروايات المختلفة على أن هذا الآدمي قد يبلغ 240 سم في الطول، وأن جسده مغطى تماما بشعر كث يتراوح لونه بين الرمادي والبني، وأن جبهته مختزلة، ولحيته كثيفة، ونابيه بارزان بروز نيوب الكلاب، والفاكهة هي غذاؤه الأساسي.

آدمي شبه وحشي

وبينما الجدل ما زال محتدما حول مدى صدق الروايات عن الآدمي البري، لا يجادل أحد في أن هناك أقواما تمثل في أساليب حياتها وعاداتها مرحلة بين الوحشية والاستئناس. ومن أمثلة هؤلاء سكان أستراليا الأصليون، وسكان المناطق المعزولة من شمال التبت في آسيا الذين تتجلى بدائيتهم بالذات في أساليبهم الخاصة بعلاج الأمراض. فهم ما زالوا يؤمنون - تماما كما كان أجدادنا البدائيون يؤمنون- بأن الأمراض تسببها الأرواح الشريرة، وينصب العلاج على طرد هذه الأرواح من جسد المريض، وذلك عن طريق الرقص طبقا لطقوس معينة، تستمر طوال الليل على دقات الطبول، وترانيم المنشدين. ويتميز الطبيب هنا بلباسه وبمجموعة من الأجراس الصغيرة المعلقة في ثيابه لتحدث جلبة في أثناء الرقص. وفي أثناء العلاج لا بد أن يصدر خنزير بري صرخات متعاقبة ترهب الأرواح الشريرة.

بقايا وحشية في إنسان اليوم

يبدو أن في كل إنسان منا قدرا من البدائية - لم ينقرض بعد - توارثناه عن أجدادنا البريين. وإلا بماذا نفسر مثلا حلقات الزار الشائعة في مصر لعلاج الأمراض، وما يتعلق بها من اعتقاد أن المرض سببه جن يسكن جسد المريض؟ على أن بدائية الإنسان المتحضر تتجلى في صور أبلغ من ذلك. يستوي في ذلك إنسان القرون الماضية بإنسان القرن العشرين. خذ مثلا النقوش الرائعة التي تركها قدماء المصريين على جدران معابدهم لآدميين رءوسهم حيوانية، والصور الأخاذة التي نسجها أوربيو القرون الوسطى على سجاجيدهم الأثرية المعروضة في متاحف العواصم الأوربية لأناس وحشيين يفترسون حيوانات حية. كما أن هناك روايات في أكثر المناطق الأوربية تقدما - تماما كما في غيرها من المناطق المتخلفة - عن آدميين بريين يقطنون الكهوف في سلسلة جبال الألب، وتتفق في أوصافها مع أوصاف الإنسان الوحشي في التبت مثلا، بل وكثيرا ما تتفوق عليها في الغرابة، فالنساء وجوههن كأقنعة منحوتة من جذوع الشجر. ولعل هذه المعتقدات هي التي يعبر عنها سكان قرية مثل "إلتساخ" الألمانية في قلب الغابة السوداء، في احتفالات شعبية مع بداية الربيع من كل عام. حيث يرتدي الكبار والصغار حللا غريبة صارخة الألوان، ويحملون على وجوههم أقنعة من خشب منحوت على هيئة وجوه حادة الملامح مزودة بقرون، وعلى الجانب الآخر يكون هناك مجموعة من الشباب الأقوياء - يرتدون ملابس سوية - ولا يضعون أقنعة على وجوههم، يطاردون المقنعين وهم يطرقون طبولهم بعنف، والمقنعون يهربون أمامهم في كل حدب وصوب.

رأي العلم

يتفق علماء الأحياء على أن جميع الحيوانات والنباتات المستأنسة قد نشأت من أصول وحشية برية. وبالرغم من أن الأصول البرية لكثير من الأنواع قد انقرضت، والكثير منها ما زال في طور الانقراض، فمازالت أصول الكثير من النباتات والحيوانات تعيش إلى اليوم في بيئاتها الطبيعية البرية، كما أن العلماء مازالوا يكتشفون أصولا لأنواع لم تكن أصولها معروفة. من أمثلة الأصول البرية المعروفة: الخيول والخنازير البرية والحمار الوحشي والشعير البري. لذلك لا شك عند العلماء في أن الإنسان ظل بريا منذ هبط إلى الأرض إلى أن عرف الزراعة واستقر إلى جانبها، وذلك في حقبة متأخرة نسبيا، ثم آل إلى ما آل إليه اليوم. وتدل النقوش التي تركها الإنسان البري على جدران الكهوف على أنه تدرج في مراحل عدة، من ضمنها مرحلة الصيد التي كان يحصل على غذائه فيها كما تحصل عليه وحوش اليوم. بل هناك من الشواهد ما يدل على أن الإنسان يمكن أن يتوحش بعد استئناس. ونذكر هنا على سبيل المثال قصة قيس بن الملوح (مجنون ليلى) الذي هجر قبيلته بعد اقتران ليلى بغيره، وهام في البادية، وتوحش، وبالمثل يعتقد كثير من العلماء في وجود أناس بدائيين يعيشون في أوربا في مغارات منعزلة، ولكنهم يرجحون أن هؤلاء هم نسل لأوربيين "مستأنسين" عاشوا في القرون الوسطى ولاذوا بالجبال والغابات هربا من الحروب التي صاحبت نشر المسيحية في أوربا في ذلك الزمن. خلاصة القول: لا شك في أن الجد البري للإنسان عاش متوحشا ردحا طويلا من الزمن على سطح الأرض، وفي أن إنسان اليوم هو من أحفاده. كما لا جدال في أن كثير من الأقوام مازالوا إلى اليوم أقرب إلى التوحش منهم إلى التحضر والاستئناس. ومع ذلك يصعب التصور أن إنسانا وحشيا من نسل الجد البري مازال مختبئا في كهف لا يصل إليه أحد على الرغم مما بلغته وسائل الاتصال اليوم، ومن الرحلات الاستكشافية التي لا تنقطع. أما الوجود المؤكد للإنسان الوحشي فهو وجوده في داخلنا نحن، بقايا متفاوتة الأقدار فينا ورثناها عن آبائنا ونورثها أبناءنا.