و«العربي» تدخل المطبعة تواترت أنباء رحيل كوكبة عربية من المبدعين والمفكرين، رأت أن تنعيهم إلى الأمة العربية، وهم الذين قدموا خلاصة ثقافتهم، وتبر عمرهم للساحة الفكرية والفنية في أوطانهم وخارجها. وإذ نسجل في هذه العجالة حزننا لرحيلهم نعد قراءنا الكرام بأن نعيد مجددا إلقاء الضوء على نتاجهم الفكري، وهم الذين مثلوا بريادتهم مثالا يقتدى، مثلما أصبحوا بنتاجهم نموذجًا يُحتذى.

نسر الشعر الأبي: أحمد السقاف

يعد أحمد السقاف من هامات الشعر والأدب في الكويت، وقد ولد في العام 1919، ودرس العلوم العربية والدينية، ثم أكمل الثانوية العامة، والتحق بكلية الحقوق. عين مدرسا بالمباركية العام 1944 ثم في المدرسة الشرقية مدرسا ومديرًا العام 1946م. وقد حرص الأديب الكبير والشاعر الفذ على أن يكون مثلا لطلابه في مدارس الكويت، فكان نموذجًا للروح الوطنية الحقة، مثلما كان مثالًا على النفس العروبية الشامخة، ونبراسًا يضيء تراثها الإسلامي العظيم.

أصدر مجلة كاظمة العام 1948 وأنشأ النادي الثقافي القومي العام 1952، ونقل إلى دائرة الأوقاف العام 1954، ثم إلى دائرة المطبوعات والنشر العام 1956، حيث كلف بالسفر للتعاقد مع من يقع عليهم الاختيار لإصدار مجلة ثقافية في الكويت، فسافر في ديسمبر 1957 إلى بعض الأقطار العربية، وفي مصر تعاقد مع الدكتور أحمد زكي وبعض الفنيين والمحررين لإصدار «العربي» بدءًا من ديسمبر 1958م. عين السقاف وكيلا لوزارة الإرشاد والأنباء العام 1962، وفي العام 1966 عين عضوا منتدبا للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي بدرجة سفير. العام 1990 قدم استقالته ليتفرغ لأعماله الشعرية ومؤلفاته الأدبية والفكرية، وكان عضوا في رابطة الأدباء وأمينها العام حتى العام 1984.

أصدر العديد من الكتب في اللغة والشعر والأدب. تقدم مسيرة السقاف لنا نموذجًا للدور الريادي الذي يؤديه المثقف التنويري. ففي نهضة الكويت الحديثة، لم يدخر أحمد السقاف جهدًا في إنشاء آليات المناخ الملائم لبث روح التنوير عبر الأندية الثقافية والاجتماعية والمجلات العلمية والأدبية والدوريات الفكرية، مع إغناء المكتبة العربية بدواوينه الشعرية ومصنفاته الفكرية وإصداراته الأدبية، ومؤلفاته هي: المقتضب في معرفة لغة العرب، أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية، الأوراق في شعراء الديارات النصرائية، حكايات من الوطن العربي الكبير، تطور الوعي القومي في الكويت، العنصرية الصهيونية في التوراة، شعر أحمد السقاف، قطوف دانية.. عشرون شاعرًا جاهليًا ومخضرمًا، أحلى القطوف... عشرون شاعرًا أمويًا ومخضرمًا، الطرف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار، أحاديث في العروبة والقومية، أغلى القطوف...عشرون شاعرًا عباسيًا.

المُعارِك الفكري: د. أحمد البغدادي

على صفحات الفيس بوك عبر الكثير من المثقفين عن حزنهم باستبدال صور سوداء بصورهم الشخصية تعبيرا عن مدى الحزن، ومدى الخسارة التي لحقت بالثقافة العربية برحيل المفكر والكاتب الكويتي د.أحمد البغدادي الذي يعد أحد أبرز أسماء الفكر الليبرالي المستنير في الكويت، بل وفي منطقة الخليج، وفي ساحة الثقافة العربية. كما يأتي الحزن على رحيل الفقيد، من كون المنطقة العربية اليوم تبدو أكثر احتياجًا من أي وقت مضى لاستعادة قوتها العقلية المستنيرة في زمن يموج بالخواء الفكري والسياسي.

والدكتور أحمد البغدادي (1951- 2010)، يعد من أكبر الناشطين في الحركة الليبرالية الكويتية، درس في قسم العلوم السياسية في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت، وحصل على الليسانس في العام 1974، وحصل على الماجستير في الفكر السياسي من جامعة كلارك في الولايات المتحدة في العام 1977، ثم حصل على دكتوراه في فلسفة الفكر الإسلامي من جامعة أدنبره في العام 1981.

له العديد من المؤلفات التي اهتم فيها ببحث وتعميق مفهوم الديمقراطية، ومفهوم الدولة الإسلامية، ومراجعة المفاهيم التاريخية والسياسية للدولة الإسلامية، والبحث عن الأسس الفكرية التي تعرضت لمفاهيم الدولة الدينية في التاريخ المعاصر بشكل عام. ومن بين هذه المؤلفات: الديمقراطية.. معنى ومبنى. التصنيف السياسي لانتخابات مجلس الأمة 1999 (بحث بالاشتراك مع الدكتور فلاح المديرس)، تجديد الفكر الديني دعوة لاستخدام العقل: محاولة في قراءة عقلية للفكر الديني صدر العام 1999، حزب التحرير: دراسة في مفهوم الدولة الإسلامية. الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي. الشيخ عبدالله السالم، إنسانًا ورجل دولة. الفكر الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. الفكر السياسي لأبي الحسن الماوردي. دراسات في فقه السياسة الشرعية، وغيرها.

وقد خاض الدكتور البغدادي معارك عديدة مع المتشددين، الذين اختلفوا مع الكثير من آرائه كما هو شأن أغلب من التزموا بشجاعة الإعلان عن ضرورة إعمال العقل ورفع قيم الاستنارة والفكر قبل غيرها بوصفها قيماً إنسانية ودينية أيضا.

أبو الرواية الجزائرية : الطاهر وطار

رحل بعد 74 عاما على نفس تاريخ ميلاده، 15 أغسطس 1936، الطاهر وطار. وهو أبو الرواية الجزائرية، ويبدأ تاريخه المشرف بالتزامه بقضايا ثقافته الوطنية والعربية عندما التحق بصفوف جبهة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار. وهو صاحب روايات «اللاز»، و«الزلزال»، و«العشق في الزمن الحراشي» و«الشمعة والدهاليز».

في رواياته صور الطاهر وطار فضيلة الالتزام والوعي بالخصوصية الوطنية من أجل التحرر من الاستعمار. وهو يدين موقف من يسميهم الأمميين الذين لا يرون مشكلة في أن يحكم شعب غريب شعبًا آخر أو يحتله. وبذلك ينتمي الطاهر وطار إلى فلسفة الواقعية، حيث يؤمن بأن الأدب يجب أن يلتزم بقضايا الشعوب ويحرك الوعي الوطني الصادق.

عمل الطاهر وطار في الصحافة وأسس عددا من الصحف. كما سبق له أن شغل منصب مدير عام الإذاعة الجزائرية. ويقول عن نفسه: «أنا مشرقي لي طقوسي، وأؤمن بأن معتقدات المؤمنين ينبغي أن تحترم. فأنا تراثي، وبقدر ما يحضرني بابلو نيرودا يحضرني المتنبي والشنفري».

غازي القصيبي
وداع شعري في حديقة الغروب

برحيل الشاعر المفكر السعودي الدكتور غازي القصيبي (2 مارس 1940 ـ 15 أغسطس 2010) تخسر الساحة الأدبية والشعرية العربية شاعرًا وروائيًا ومثقفا مجيدا كتب في الشكلين الشعريين العمودي والتفعيلي، وعاصر كبار الشعراء العرب المعاصرين وصار واحدا منهم، فكتب لنا سيرته الشعرية في كتابه «سيرة شعرية»، وقدم لنا مختارات شعرية أعجبته في كتابه «قصائد أعجبتني»، بالإضافة إلى دواوينه الشعرية المتوالية.

لجأ القصيبي إلى تخوم الرواية فأبدع فيها عددا من الروايات بدأها بـ «شقة الحرية» والتي تعد من الروايات السيرية، وقد تحولت إلى مسلسل تلفزيوني. أتبعها برواياته: العصفورية، ودنسكو، وسعادة السفير، والجنيّة. وبحساسية الشعراء، ورؤاهم الكاشفة وبصيرتهم الثاقبة يرثي القصيبي نفسه في قصيدة من أعذب الشعر، ولكن ليس أكذبه، وكأنه الشاعر العربي مالك بن الريب الذي رأى موته فكتب قصيدته المشهورة. وقد أطلق القصيبي على قصيدته التي حملت عنوان آخر دواوينه، اسم «حديقة الغروب» إيماء إلى غروب العمر وقرب انقضاء الأجل الذي أحس به وهو في الخامسة والستين أي قبل رحيله الفعلي بخمس سنوات، ومن يدرينا فقد يكون الرحيل الحقيقي للقصيبي عن الحياة الذي أحسه شعريًا كان في هذه السن.

يقول الشاعر مخاطبا نفسه:

خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري

وكأنه يكمل في قصيدته «حديقة الغروب»، قصيدته «الحمى» التي كتبها في الثمانينيات، ويقول في مطلعها:

أحسُّ بالرعشة تعتريني
والموتُ يسترسلُ في وتيني

لم تكن حياة غازي القصيبي سهلة ولا مريحة ـ على الرغم من المناصب الكبرى التي تقلدها - أستاذًا جامعيًا، ومستشارًا قانونيًا، ووزيرًا لأكثر من وزارة، وسفيرًا لأكثر من سفارة - فهو منذ صغره وشبابه دخل في مكابدات وصدامات فكرية، دفع ثمنها نزفًا شعريًا وإبداعًا روائيًا.

«العربي»