الفكر الاقتصادي العربي.. من التبعية إلى الاستقلال
قلّت الدراسات التي تسعى إلى تقييم الدور الذي يلعبه الاقتصاديون العرب في تحديد ومعالجة أهم القضايا الاقتصادية والاجتماعية العربية ومدى تناولهم للاقتصاد السياسي العربي بالشكل المناسب والفعال. فالحقيقة أن الأدبيات الاقتصادية العربية بقيت محصورة ومتواضعة، ولم يبرز من بين الشريحة الواسعة من الاقتصاديين العرب خلال القرن الماضي إلا اسمان أوثلاثة، وعلى رأسهم د. برهان الدجاني وكذلك د. يوسف صايغ، وقد سعيا طوال حياتهما الفكرية والمهنية إلى شد انتباه القيادات العربية إلى أهمية إنشاء الروابط الاقتصادية والتجارية والمالية العضوية بين الأقطار العربية، من أجل التعويض عن الإخفاق في تحقيق دولة الوحدة الاقتصادية العربية، كما تطرقا إلى التشوهات الاقتصادية المتعاظمة، قطريا وقوميا.
سنتناول أولا - في هذا المقال التقييمي للفكر الاقتصادي العربي - تحديد الأهداف الرئيسية الثلاثة التي يجب أن تسعى مجتمعاتنا العربية إلى تحقيقها لكي نتمكن من تقييم فاعلية الفكر الاقتصادي العربي وتأثيره الإيجابي أو السلبي في بلوغ هذه الأهداف والتغلّب على التحديات الكثيرة التي يواجهها العرب قطريا وقوميا.
أولا- القضايا العربية الرئيسية
إنّ القضية المركزية للمجتمعات العربية، منذ انهيار السلطنة العثمانية، كانت الأمل في تحقيق دولة الوحدة بين جميع الأقطار التي نالت استقلالها بمسارات مختلفة وفترات زمنية متباينة بعد أن مزّق المستعمر الأوربي الشعوب العربية إلى أنظمة حكم مختلفة، بل وفي بعض الأحيان متناقضة.
وعندما فشلت تجارب الوحدة ما بين 1985 وأواخر الستينيات بين قطرين عربيين أو أكثر، تقلّص الطموح إلى تحقيق التضامن العضوي السياسي والاقتصادي في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية. ومن أهم هذه التحديات:
- القدرة على الدفاع عن النفس، وهو معيار أساسي من معايير القابلية على الحياة بكرامة لأي مجتمع.
- توزيع عادل لثروات وموارد المنطقة العربية، داخل كل قطر وبين الأقطار.
- الترقي في العلوم والقدرات التقنية والإبداعية في مجال كل أنواع الإنتاج الحديث.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأهداف أو القضايا الثلاث مرتبطة بعضها بعضًا ارتباطًا عضويًا، إذ لا يمكن تحقيق الواحدة منها من دون تحقيق الهدفين الآخرين. وأزيد على ذلك ضرورة بناء نظام فكري متماسك يطمئن إليه جميع العرب من كل الاتجاهات السياسية، ومن كل المذاهب الدينية أو غير الدينية، ويبنى على هذا النظام الفكري نظام معرفي متكيف مع حاجات المجتمعات العربية، كما يعكس التراكم المعرفي هذا عبر تجارب هذه المجتمعات خلال تاريخها. ويمكن أن ينطبق هذا الأمر على أي قطر منفرد من الأقطار العربية. لكن لسوء الحظ حتى الآن مازلنا نحن كعرب منقسمين، ننتهج أنظمة معرفية مختلفة ومتناقضة في بعض الأحيان، وأنظمة قيمية تتفرع عن الأنظمة المعرفية في حالة صدام حاد فيما بينها في بعض الأحيان. وهذا ما يكرّس استحالة بلوغ الأهداف الثلاثة المذكورة، هذا مع الإشارة إلى أن القضايا أو الأهداف الرئيسية الثلاثة تكون أسبابها الموجبة سلسلة من التحديات الداخلية والخارجية وفي كثير من الأحيان التشابك في ما بينها.
أ - التحديات الداخلية
من أهم التحديات الداخلية، الاقتصادية والجغرافية والديمغرافية والاجتماعية، العوامل التالية:
* التباين الشديد بين المدينة والريف منذ أقدم الأزمنة.
* التباين الشديد بين المناطق الصحراوية والمناطق الريفية والمدنية والمناطق الجبلية.
* التباين بين أهل البحر القاطنين على الشاطئ وأهل البر والداخل القاري.
* الهوة الشاسعة في المدن بين النخبة المتعلّمة والوجهاء وأصحاب المال والتجارة من جهة، وعامة الشعب في المدن والأرياف واستمرار جيوب الأمية من جهة أخرى.
* التركّزالمتباين للثروات الطبيعية بين قطر وآخر، المائية والطاقوية بشكل خاص - وهي ثروات مهمة للغاية، وبالرغم منها لانزال نشكو من نقص في تزويد المواطنين داخل القطر الواحد وبين الأقطار بالمياه العذبة القابلة للشرب والغاز.
* ضرورة بناء صناعات حديثة وبشكل خاص صناعات حربية.
* ضرورة تنشيط التبادل التجاري في ما بين الأقطار العربية.
* سوء توزيع الدخل وتراكم ثروات هائلة داخل كل قطر واستمرار جيوب الفقر المدقع والأمية والتهميش.
هذه العوامل مجتمعة ولّدت نموذج «تنمية مشوهة» أطلق عليها د.يوسف صايغ في أحد مؤلفاته تسمية «التنمية العصية»، وهي عبارة بليغة تعكس مدى العجز الاقتصادي الجماعي العربي، وقد تناولت في أحد مؤلفاتي إشكالية «التنمية المفقودة». ومن نتائج هذه التشوهات وهذا العجز الجماعي، قطريا وقوميا، في بلوغ الأهداف الرئيسية الثلاثة التي سبق ذكرها، نسب بطالة تعد من أعلى النسب في العالم وهجرة أدمغة تفرغ المجتمعات من قدراتها الفكرية والعلمية التي من دونها لا يمكن إعادة بنائها. هذه حلقة مفرغة أوجدناها نحن كعرب بفعل أيدينا.
ب - التحديات الخارجية، أهمها:
* الإرث العميق والثقيل من الفترة الاستعمارية كزرع الكيان الصهيوني وتكريس صدارة المصالح القطرية على حساب التعاضد العضوي بين الأقطار لمجابهة التحديات الخارجية، وهذا ما يبرّر استمرار علاقات تبعية اقتصادية وسياسية تجاه المستعمرين القدامى أو النفوذ الأمريكي الجبار والحامي الرئيسي للسياسات الصهيونية العدوانية تجاه كل من الشعبين اللبناني والفلسطيني.
* الاستعمار كان لديه أطماع في خيرات المنطقة العربية، وهذه الأطماع مازالت مستمرة تحت ستار العولمة ومنطقها، إذ إنّ في نظام العولمة من يحصل على الطاقة يصبح لديه ميزة تفاضلية كبيرة، ونحن بالطبع لا نستعمل هذه الميزة التفاضلية لإطلاق حركة تصنيع لأنّ معظم إنتاج الطاقة مصدّر إلى الخارج ولا يتم استغلاله داخل الأٍطر العربية وتوظيفه في عملية التنمية فيها. فلو صدّرت بريطانيا 90% من إنتاج ثروتها الفحمية إلى دول أخرى، هل كانت ستبصر الثورة الصناعية النور فيها؟
* يبقى لدى العرب النفط مصدّرا إلى الخارج، مما يعيد إنتاج المشكلات نفسها التي تتلخص فيما يمكن أن يُسمى تكريس النمط الريعي في النمو الاقتصادي الذي يجعل من الاقتصادات العربية اقتصادات متكلة اتكالاً مطلقا، أو مرتهنة ارتهانا مطلقا بتطورات أسعار النفط. والمشكلة المتفرعة عن هذا النمط أنه حتى الاقتصادات العربية التي ليس لديها نفط، أصبح نموها مرتبطاً بتطور أسعار النفط، وذلك بسبب هجرة العمالة إلى الدول العربية المنتجة للنفط، منذ حدوث انفجار في أسعار النفط في بداية السبعينيات من القرن الماضي وقيام الثورة النفطية. إذن، عندما تعود أسعار النفط وتنخفض انخفاضا ملحوظا يعود العاملون في الدول المصدّرة للنفط إلى أوطانهم.
وحتى المساعدات التي أصبحت بعض الدول العربية الفقيرة تتكل عليها من الدول الغنية بالنفط تتأرجح حسب تطور أسعار النفط، وحسب يسر ميزانيات دول الخليج.
ج - ارتباط العوامل الداخلية بالخارجية
نرى من خلال ما تقدّم ارتباط التحديات الداخلية بالتحديات الخارجية، مكونّة حلقة مفرغة أنتجت نموذج تنمية عصيا، تنمية مفقودة، تنمية مستحيلة إذا ما أخذت كلمة تنمية بمعناها الحقيقي كما حددناه في ما سبق، أي ازدهار كل فئات المجتمع، وتماسكه، وإيجاد وتعزيز وتنمية القدرات الدفاعية والقدرات الإنتاجية وإبقاء العقول العربية متجذرة في الوطن. لكن التشوّه الأكبر في هذه الحلقة المفرغة يكمن في التعامل مع عقود أولادنا على أنها بديل عن النفط، أي مصدر ريع مالي، فيتم تصديرها إلى الخارج حتى تدر علينا تحويلات مالية. وبذلك خلقنا عنصراً إضافياً لما أسميه اقتصاد الريع.
وبهذا المنطق الأناني ضعيف النظرة تذهب قدرات المجتمعات العربية هدراً، إذ تحصل الدولة القطرية على فتات القيمة المضافة الكائنة في القدرات البشرية والعقول العربية عبر التحويلات، أما الجزء الأكبر من القيمة المضافة فيستفيد منها البلد المضيف وليس البلد الأصل والأهل والدولة، وهم الذين تكبدوا تكاليف تربية أولادهم في أعلى المستويات من العلم والكفاءة.
ثانياً- قصور الاقتصاد السياسي العربي في تناول معمّق للقضايا البنيوية الاقتصادية والاجتماعية
في الحديث عن تطور أدبيات الاقتصاد السياسي العربي، يمكن القول إنه قد تم عبر مرحلتين أساسيتين، طغى في الأولى العنصر السياسي على العنصر الاقتصادي. أما في الثانية، فقد انعكست الآية، إذ أصبح الاقتصاد النظري والكمي والشكلي يهمّش العنصر السياسي أو يهيمن عليه.
أ - مرحلة طغيان العنصر السياسي والنظري على العنصر الاقتصادي الواقعي والتنظيمي
عصر النهضة ثم عصر القومية العربية المتأججة خلال عصر النهضة، منذ بدايتها في القرن التاسع عشر، ومن ثم خلال عصر القومية العربية المتجسدة في أدبيات الأحزاب السياسية المختلفة المنادية بوحدة العرب، تم طرح أهم القضايا الفكرية الاقتصادية، وقد تميّزت هذه المرحلة بالسمات الرئيسية التالية:
- انقسام حاد بين أنصار الرأسمالية وأنصار الاشتراكية.
- الإيمان الدوغماتيكي بأن التنمية لن تتحقق خارج إطار الوحدة العربية الكاملة الاندماجية الطابع.
- عدم الاهتمام بقضايا التربية وعدم ربطها بقضايا توطين العلم والتكنولوجيا.
- الإيمان الساذج بأن تلك القضايا تحل تلقائيا عبر توطيد نظام قانوني - اقتصادي رأسمالي أو اشتراكي.
- منطق المطالبة بتعديل أسعار المواد الأولية، والنفط بشكل خاص، لزيادة المواد المالية لشراء المزيد من التجهيزات الرأسمالية ذات المحتوى التكنولوجي العالي.
- قيام التهم ضد الشركات متعددة الجنسيات والقوى الاستعمارية لمنعها الأقطار العربية من الحصول على التكنولوجيا وانعدام النظر إلى تجارب الدول الأخرى التي نجحت في اكتساب العلم والتقنيات الصناعية الحديثة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ومالطا وسنغافورة على الرغم من قلة مواردها الطبيعية وتأخرها الاقتصادي بالنسبة إلى الدول المتقدمة صناعيا.
ب - مرحلة طغيان الاقتصاد على السياسة
بعد فشل التجارب الوحدوية العربية وحصول تباين حاد في مستويات الموارد المالية المتاحة بين الأقطار العربية المصدّرة للنفط والأقطار العربية الأخرى، ومن ثمّ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، حصل انقلاب كبير في موازين القوى بين الاقتصاديين العرب وأصبحت المدرسة الاقتصادية الليبرالية العربية منتصرة في المجادلات، وعمّ الفكر النيوليبرالي بسرعة فائقة، وانخرط جزء كبير من الاقتصاديين العرب في تطبيق الـ Washington Consensus، مما ساعد على تعميم نموذج الاقتصاد الريعي الذي يعمّق الاختلالات والتشوهات وسوء استعمال مصادر الريوع، ومن أهمها:
- الريع النفطي.
- الريع العقاري، خاصة في العواصم الكبرى والمناطق السياحية الرئيسية.
- ريع المساعدات العربية والدولية.
- ريع تحويلات المغتربين وهو ريع متفرع عن الريع النفطي في جزء كبير منه.
إن الريع هو ظاهرة طبيعية في الحياة الاقتصادية لكن المشكلة تكمن في كيفية استعمال الريع وتوزيعه: أين تذهب الأرباح الناتجة عن الريع أين تستثمر؟ هل تستثمر لإجراء عملية التراكم المعرفي وتراكم الخبرة في القطاعات التي لم ندخل إليها إلا بشكل هامشي أو فرعي؟ هل تستثمر لإبقاء الكفاءات العربية في وطنها، أم تستثمر بالعكس في تطوير جامعات تصبح هي الممر الواسع لهجرة الأدمغة؟ والجدير بالإشارة أن الجامعات العربية اليوم تتسابق فيما بينها لكي تهيئ الطلاب للهجرة إلى الخارج، وحتى اختيار مواد التعليم هي موجهة من قبل الطلب الخارجي على الاختصاصات، وليس من قبل الطلب الداخلي.
الخلاصة: نحو تطوير ثقافة اقتصادية عربية جديدة مستقلة فكريا
تبيّن مما سبق أننا لا نستطيع أن نكمّل المسار بالثقافة الاقتصادية المتدنية التي نتفاخر بها، خاصة عندما نعتبر أن تحويلات المغتربين شيء عظيم. فهي ليست كذلك. فلنذكر أولاً المعاناة الإنسانية في عملية الهجرة. الآلاف من العائلات مشتتة ومشرذمة في جميع أنحاء العالم، فما السبيل إذن إلى إقامة مجتمع متماسك وقوي في مثل هذه الظروف؟ الدكتور أنطوان زحلان قدم معطيات إحصائية تفيد بأن عدد الأدمغة العربية المهاجرة هو ضعف عدد الأدمغة الهندية والصينية مجتمعة التي هجرت وطنها.
ونحن ننظر في ثقافتنا الاقتصادية إلى تحويلات المغتربين على أنها إنجاز اقتصادي كبير، بينما هي دليل صارخ على الفشل الاقتصادي في عدم تمكن الدولة من سد حاجات الاقتصاد، وبالتالي تأمين فرص العمل للجيل الشاب في كل الميادين مما يؤدي إلى تفشي البطالة والاستغناء عن إبقاء أثمن قيمة للاقتصاد الوطني أولا وهي أدمغة أبنائنا، التي يتم تصديرها، إلى الخارج بأعداد هائلة. فإذا أردنا أن نبني اقتصادًا سياسيًا مختلفًا فهذه الظاهرة هي من القضايا الأساسية التي يجب أن تُناقش بكل جدية. وهي كانت تناقش فعلاً في السبعينيات على عكس حالنا اليوم، حيث أصبحت الأدبيات العالمية تعتبر أن ظاهرة الهجرة هي ظاهرة عظيمة وجزء لا يتجزأ من العولمة.
ولذلك، لابدّ من تأسيس علم الاقتصاد السياسي العربي الجديد، يأخذ في عين الاعتبار تشوهات ومكامن الضعف في الاقتصاد الحقيقي، ويعالجها بشكل جدي، ويساهم بالتالي في إحداث تغيير في الثقافة الاقتصادية السياسية السائدة، وكذلك في إنشاء نموذج تنموي بديل يُخرِج الوطن العربي من الوضع السيئ الذي يتخبط فيه من وراء مظاهر الرقي الشكلي والثروات الهائلة المكدّسة لدى البعض أو المتمركزة في الأحياء الراقية من العواصم العربية وأهم المدن الأخرى في أقطارها.
----------------------------
الفرزدق