شعرية محمد عفيفي مطر

شعرية محمد عفيفي مطر

في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي ولد أهم ثلاثة صاغوا ملامح التجربة الحداثية في الشعر المصري الحديث أسبقهم وأولهم صلاح عبدالصبور (1931 1981) وثانيهم وثالثهم ولدا في عام واحد، هو العام 1935 الذي شهد ولادة كل من محمد عفيفي مطر وأحمد عبد المعطي حجازي، وقد انضموا جميعا إلى قبيلة شعر التفعيلة الشعر الحر، ابتداء من منتصف خمسينيات القرن العشرين على وجه التقريب.

كان رائدهم صلاح عبد الصبور الذي تبعه الاثنان، في أفق حداثة القصيدة الحرة الذي سبقتهم إليها نازك الملائكة (1922 2007) مع السياب (1926 1964) والبياتي (1926 1999) وبلند الحيدري المولود في العام نفسه الذي شهد ولادة زميليه السياب والبياتي وأخيرا، يأتى أدونيس المولود سنة 1930 - مدّ الله في عمره - وكانت التجربة المصرية التي رادها الشعراء الثلاثة المولودون في الثلاثينيات هي التي ضمت في العقد نفسه بدر توفيق المولود سنة 1934، وفاروق شوشة المولود سنة 1936، ومحمد إبراهيم أبو سنة المولود سنة 1937 وهم الرواد البارزون لحركة الشعر الحر في مصر، سواء من حيث الإنجاز والاستمرار، لكن من الحق القول إن الثلاثة الأُول هم الذين تولوا مرحلة التأسيس، خصوصا صلاح عبد الصبور الذي لا أزال أعتبره قيمة إبداعية استثنائية، ولا شك أن ولادة كمال نشأت سنة 1923 سبقت ولادة صلاح عبد الصبور بثماني سنوات، ومحمد مهران السيد (1927 1981) سبق ولادة صلاح بأربعة أعوام، وفوزي العنتيل (1929 1981) سبق بعامين وقس على هؤلاء غيرهم من الذين وُلِدوا في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، ولكن يظل صلاح عبد الصبور ومعه أحمد حجازى ومحمد عفيفي مطر، هم الثلاثة الأكثر تأثيرا وتأسيسا على السواء، خصوصا بعد عبد الرحمن الشرقاوي (1920 1987).

وقد بدأ صلاح خطاه في مجرى رومانسي أقرب إلى ناجي (1898 1953) وعلى محمود طه (1902 1949)، ولكنه سرعان ما هجرهما إلى نزوع عقلاني، قاده إليه ت. إس.إليوت (1888 1962) الذي بدأ صلاح بنقضه، بعد مجاوزة الرومانسية، من منظور يساري، ولكنه عاد إلى التوازي معه، والتأثر به، بعد أن أغوته الوجودية، وانصرف عن الماركسية إلى نوع من الليبرالية وجودية الطابع، ابتداء من «أقول لكم»، فقد:

«كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
والجمال في النظام»

وأما حجازي فقد بدأ من غربة القروي في المدينة، ولكنه ما لبث أن ترك هذه الغربة عندما اعتنق أفكار البعث التي قادته إليها أفكاره القومية التي جعلت أهم قصائده منتسبة إلى هذه الرؤية القومية بامتياز وعندما هجر التيار القومي، في منفاه الباريسى، أجبل واستعصى عليه الشعر، وظل صامتا لسنوات عدة، خصوصا بعد نشر ديوانه «أشجار الإسمنت» الذي أتبعه بقصائد قليلة أعقبها الصمت الذي زايله أخيرا بوعوده التي نرجوها، أما محمد عفيفي مطر فقد بدأ من مكابدات البدايات التي كانت مغلفة بالرومانسية التي تتجلى في التعاطف مع الفقراء فردوس بائعة المانجو، دمعة على قبر قتيل مجهول، إلى مغنية ضريرة أو تتجلى في «مكابدات كيخوتية».

مكابدات قروي

لكن هذه المكابدات لم تخل من البذرة التي أخذت تتحول، تدريجيا، إلى ابتداء مختلف في طريق مغاير، لم يبدأ من وعي القروي الضائع في المدينة، كأنه طفل رمته خاطئة، فلم يعره العابرون في الطريق حتى الرثاء، وإنما من وعي مغموس في تراب القرية وخرافاتها الشعبية، وتدينها الذي لا يخلو من تأثير التجمعات الصوفية الشائعة في قرى ذلك الزمان البعيد، وحضور المسجد الذي يفرض تجلياته العملية التي تتماس مع الطقوس والشعائر الدينية، التي لم تكن تخلو منها موالد الأولياء الصالحين، وهي الطقوس والشعائر التي جسّدها الفرع الذي انبثق من البذرة الشعرية داخل محمد عفيفي مطر، ابن قرية رملة الأنجب، مركز أشمون، محافظة المنوفية الواقعة ما بين دلتا النيل، المحافظة نفسها التي ينتسب إليها أحمد حجازي المولود مع محمد عفيفي مطر في العام نفسه، لكن ما أبعد الفارق بين الاثنين في المنزع والاتجاه، فقد ظل مطر ملتصقا بأرض القرية، وعيه مسكون بها وطقوسها ومعتقداتها الدينية والخرافية على السواء وما إن وصل إلى عامه الخامس والعشرين، حتى أخذ ينشر الشعر في المجلات الذائعة في ذلك الزمان، ويعمل مدرسا في مدارس قرى محافظة كفر الشيخ القريبة في امتداد الدلتا، بعد أن تخرج في معهد المعلمين المتوسط، واحترف مهنة التدريس التي جاءت بعد أن أغوته القراءة، وقادته إلى الشعر الذي أعاده إلى تراب القرية وعمّده بميراثها الروحي الذي تغلغل وجدانه الشعري، ودفعه إلى الإعلان عن توجهه الشعري مع عامه الخامس والعشرين، في ما يشبه القصيدة البيان، التي تعلن عن حركة التوجه نحو الأفق الشعري الذي انجذب إليه الشاب الواعد الذي كان قد حصل على الثانوية العامة، والتحق بقسم الفلسفة من جامعة عين شمس، حيث عبدالرحمن بدوي ومحمد عبد الهادي أبو ريده ونازلي إسماعيل وفؤاد زكريا، وقبلهم محمود الخضيري وغيره من الذين أوقعوا محمد عفيفي مطر في غواية الفلسفة بوجه عام والتصوف الإسلامي بوجه خاص.

ولا أعرف هل كان أكمل محمد عفيفي مطر عامه الخامس والعشرين قبل تخرجه في قسم الفلسفة أم لا؟ فقد عمل قبل دخوله إلى الجامعة وبعد تخرجه فيها، مدرسا للفلسفة التي كانت أكثر من كونها علوما يقوم بتدريسها لأعوام عدة، وإنما كانت أفقا للتأمل، ودافعا إلى الإبحار الذي لم يتوقف في أقانيمها وتواصل الأمر عبر مسيرة حياتية، ابتدأت من مدارس مدينة كفر الشيخ التي كانت أشبه بالقرية الكبيرة التي تذكره بالقرية الأم «رملة الأنجب» التي صاغ أسطورتها الخاصة، ورأى الكون فيها كما رآه نجيب محفوظ في الحارة التي أحالها رمزا للكون بأسره. وما أعرفه أنه في عامه الخامس والعشرين، أي في سنة 1965، كتب قصيدته - البيان التي لم تخل من أصداء «أقول لكم» لصلاح عبد الصبور، تحديدا، ويلفت الانتباه - في قصيدة «الملكة واللوردات وآخرون» مقطعها الأول بعنوان «بيان» حيث نقرأ:

«أنا طفل طري العود سرت سنين فوق الجسر عريانا
تفوح خطاي نارنجا وليمونا
وعشت بقريتي
خمسا وعشرينا
أسامر كوكبا في الغيم مسجونا».

ويلفت الانتباه - في القصيدة نفسها - المقطع الثالث، وعنوانه «فلاسفة وشعراء»، حيث نقرأ عن شيخ مطرق تتحدث الأيام في عينيه:

«ويستوحي جنون الريح آيات وأشعارا
ويستوحي سكون الليل أفكارا
ويسمع في قطيرات الندى حكما وأسرارا
ويهدم هذه الدنيا ويبنيها».

وما يلفت الانتباه في الأسطر السابقة هو اقتران الحكمة بالأسرار من ناحية، والشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر، الذي يهدم الدنيا ويبنيها، لافتا الانتباه، ضمنيا، إلى عدد غير قليل من العناصر الأربعة التي جعل منها، بعد سنوات عديدة، عناصر أربعة تتكون منها ملحمته الكونية «رباعية الفرح» (لندن 1990)، وهو المدى نفسه الذي تحولت فيه قدرة الهدم والبناء إلى «صنعة الخلق والتهديم» في قصائد لم تكتب إلا بعد سنوات عديدة، مشيرة إلى المقطع الأخير من القصيدة التي تنبني على سبعة مقاطع، تشير دلالة العدم فيها إلى أسطورة الخلق الكوني، ولكن على لسان شاعر لا يزال في البداية، يعلن للجميع عن أفقه الخاص:

«سأبحث من خلال الموت عن أغنية الميلاد
سأدفن مهجتي في الأرض كي تنمو بخضرة عود
وسوف أعيش تفردي في الأرض
أترك ضجة الأعيادْ
وأحيا عزلتي سفرا بحرف كتاب».

هذا ما قاله محمد عفيفى مطر سنة 1965، مرهصاً بحضور شاعر مختلف متفرد ومتوحد في آن، شاعر لا تبهره أضواء المدن الكبرى، ولا النظريات الكبرى التي كانت سائدة: الماركسية، الوجودية، القومية.. إلخ. في ذلك الوقت، حين كان شعر صلاح عبد الصبور سائدا بوصفه نموذج الحداثة الشعرية المصرية, بعد أن أصدر «الناس في بلادي» (1957) التي هلل لها اليسار و«أقول لكم» التي هاجمها اليسار (1961) و«أحلام الفارس القديم» (1964). وكان ذلك في الوقت الذي كان حجازي يغني لعبدالناصر الذي كان صلاح يراه دكتاتورا، ولا يرى فيه محمد عفيفي مطر المخلص المنتظر الذي يكمل دورة الفصول.

غواية أدونيس

وكان أدونيس في ذلك الوقت يغوي الجميع باكتشاف قارة الأعماق، بعيدا عن قارة الأعالي، مبحرا صوب أندلس الأعماق، حيث أقانيم اللاشعور وأقاليم الروح، كي تتسع الرؤيا التي تضيق بها العبارة، وذلك عبر دواوينه «قصائد أولى» (1957) و«أوراق في الريح» (1958) و«أغاني مهيار الدمشقي» (1961) و«كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» (1965). وكان هذا التوجه مخايلا لمحمد عفيفى مطر، لا لكي يمضي في إثر أدونيس، وإنما لكي يبحر في موازاته، مستخدما المصادر الصوفية التي قادته إليها ثقافته الفلسفية، وتدريسه علوم الفلسفة ودرسها المتعمق على السواء، فوقع على الحلاّج والسهروردي المقتول وغيرهما من المتصوفة الذين تتعدد منازعهم، لكن تجمعهم غواية الكشف، وبهجة الحدس، وأحوال الصوفيين مواهب وإشراقات. هكذا، فرغ عفيفي مطر «من دفتر الصمت» (1968) وانتقل إلى «ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي» (1969) وهو وجه الفيلسوف اليوناني الذي علمه أسرار العناصر الأربعة التي يتركب منها الكون، كما ألقى إليه بسر كيفية صدِّ قوة الرياح الدائبة التي تهب على الأرض وتقتلع الزروع، كما علمه شعائر تحويل سير الرياح، وكيف يجعل الموسم جافا بعد غزير المطر، أو يحيل الصيف الجاف إلى أنهار تفيض من السماء، وبعث الميت من العالم السفلي إلى الحياة، وأهم من ذلك كراهية صور الكائنات الفاسدة هكذا ينطق عفيفي مطر من وراء قناع أمبيذوقليس قائلا:

«الحق قد يقال مرتين
فمرة يقوله العراف ومرة يقوله السياف
يقوله العراف منفجرا بوهج الخرافة
ممتلئا بطحلب السيمياء والعرافة
مطلسما في عقد الأعشاب والحروف
يقوله مضببا في الرمز أو مغمغما في كتب التعزيم
أو راقصا مخترقا حواجز التحريم».

والعراف هو الوجه الآخر من الشاعر في هذا السياق، فهو نقيض السياف والسلطان على السواء، ونصير الفقراء بقدر ما هو التجسيد العملي للحدس الشعري الذي يفعل في الكون ما تفعله الكيمياء والسحر، وذلك من خلال طقس الإبداع الشعري الذي يخترق حواجز التحريم، كى ينطق الحقيقة التي يراها في مكابداته، ولا يملك أن ينقلها إلا رمزا ومجازا، فقد تعلم هذا النوع من الشاعر الدرس الصوفي الذي أوجزه النفري بقوله: «إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» فلا مفر مع اتساع الرؤيا من إعادة بناء علاقاتها، بحيث تبدو أشبه بطلسمة في عقد الكلمات والحروف والتراكيب، كأنها طحلب السحر والخرافة، حيث الغموض الرهيف هو القاعدة، والأصل في التعبير هو الإيماء لا التصريح، والاستعارة المكثفة لا الكفاية المبسطة هكذا يغدو الشعر كشفا عن كل ما يظل في حاجة إلى كشف من الوجه المعتم للكون، وتغييرا للوجود بتغيير وعي وشعور من هو منوط به فعل هذا التغيير، وهو الإنسان الذي يبدأ منه كل شيء وينتهى عنده كل شىء.

صانع طقوس الأداء

والفاعل في ذلك كله هو الشاعر الذي يتقمص أقنعة القطب الصوفي والساحر البدائي والعارف الذي لا يغيب عن علمه شيء، صاحب الرؤيا التي تضيق عنها العبارة، وصانع طقوس الأداء الشعري في المدى الرمزى للكلمات التي تغدو مرآة للعالم وبديلا عنه، حيث الحِلم يحل بديلا للواقع، والخيال يحتل موضع المنطق، واللاشعور يلتبس بالشعور، ولكن بما لا يجعل العلاقة تنفصم بين هذا المؤدى ومن يتوجه إليه بالأداء، الشاعر والشعب الذي يدعوه إلى أن يؤدي معه شعيرة التحرر من الأغلال التي تعرقل التحقق الإنساني الكامل للطرفين هكذا نقرأ:

«هذا أنا
أبدأ رسم الطقوس
دس على جبهتي
عيناي رمح مغمَّسٌ في الشموس
وفي ضلوعي جعبة للسهام
والأرض من تحتي حصانٌ شموس
والبرق خبزٌ شعائري
والأفق طيرُ الغمام
وسكتى حُلمٌ طائف بالرءوس
فابدأ معي - يا أيها الشعب - رسم الطقوس».

صحيح أن الصورة تتسلل إليها ملامح مسيح مصلوب، ولكن هذا المسيح المثخن بالطعنات، الذي تتكسر السهام على ضلوعه، فتبدو الضلوع جعبة للسهام، أو تتحول الضلوع نفسها إلى جعبة للسهام، لو أخذنا بظاهر التشبيه المحذوف الأداة الذي يفضى إلى استعارة تستبدل بحضور المسيح المثخن بالطعنات حضور الفارس الذي ينهب الأرض بحصانه الجموح، حاملا رموز الخصب كأنها علامات الحلم، أو الحلم نفسه، وذلك بما يجعل لهذا الفارس حضورا كونيا، يمارس فيه المخلص الذي تتخذ أشكاله شكل طقوس أسطورة الخصب بعد الجدب، والحرية بعد العبودية، داعيا أشياعه إلى رسم الطقوس معه ويعلم هذا المخلّص (المسيح، الفارس، الداعي، الهادي، القائد) أن الخلاص بعيد، وأن أبواب التحرر بعيدة، لكنه بحدسه يشم ريحها في برعم رواه مطر بريء أو قصيدة ممزقة.

ولن نبالغ لو قلنا إن صورة الشاعر تتداخل وصورة المخلص التي ظلت تتكرر في قصيدة الخمسينيات الحداثية على هيئة مسيح مرة، أو صانع أسطورة يتقمص ملامح تموزية ثانية، أو نبي يحمل سيفا ثالثة، أو إلها وثنيا يشارك طقس الخليقة مرة رابعة، أو زعيم يخفي وجهه وراء قناع أشبه بقرين أخيرا وبين هذا التعدد، وفي سياقه، ينتسب الشاعر الذي ترسمه دواوين محمد عفيفي مطر إلى صانع الطقوس الذي يتحول حضوره نفسه إلى طقس من طقوس الخصب وشعائره ولذلك يقول عن نفسه:

«في قلبي نهر يرمي طميا من سبعة ألوان
يتحدر عبر جبال القمر السبعة، يعزف موسيقى الفيضان
فيغوص الصوت إلى أعماق الطمي الحيّ
تتهدل أشجار الرمان
بالثمر الأشقر والأزهار
وتحط الأطيار النيلية في أشجار السنط
تطير الأبخرة الأرضية
ويحط يمام الصيف على المئذنة القزحية
وأنا أهبط عبر فصول الطمي الحي».

ومن المؤكد أن «هبوط» الشاعر في طقوس الخصب السابقة، في الأبيات، ليس شبيها بهبوط أورفيوس بحثا عن يوريديكي، ولا حتى تموز بحثا عن عشتار، وإنما هبوط إله للخصب النهري، يعزف موسيقى الفيضان كل ربيع، مطلقا صوته طقسه إلى أعماق الطمي الحي لنهر مثل النيل، فيملأ الخصب كل شىء، وتتكاثر علاماته على الأرض كالأطيار النيلية التي تحط على أشجار السنط التي تسدل أغصانها على النهر الذي يهبها الحياة، فتشمخ كمآذن القرى التي يحط عليها المساء مع الغروب الذي يغوص في الطمي الحي لتعاود الشمس الظهور في صباحها النيلي هذا الطقس التكويني يتكرر في تجليات كثيرة، مؤكدا صورة الشاعر صانع الطقوس، وذلك على نحو ما نقرأ في «قصيدة البحر»:

«دخلنا في عروق العالم الرمليّ
في بوابة البحر
سمعنا العالم التحتي يضحك في كهوف الملح والظلمة
وأسكرنا عبير طيب من نطفة الأشياء
رقصنا رقصة التكوين في الرحم الهيوليّة».

وخيوط الطقس الشعري لافتة بما تصنعه من علاقات تتواشج فيها ما يصل أسطورة الخلق والتكوين بلحظة من لحظات الكشف الصوفي، في تماس مع حضور الماء الذي هو عنصر من عناصر الكون الأربعة التي تتخلق من تجانسها نطفة الأشياء في الرحم الهيولية للكون، أو كهوف الملح والظلمة التي لا تتناقض مع عبير طيب يقود إلى نوع من «السكر» الذي يشبه نشوة الصوفي، حين تتنزل إليه الحقيقة من المحل الأرفع، أو يهبط هو إليها، منسلا عبر حبات الرمل ليشهد نطفة التكوين المائية ولا غرابة، والأمر كذلك، أن يرتدي «الشاعر» صانع الطقوس قناع الحسن بن الهيثم رمزاً آخر للشاعر ويؤكد من خلاله:

«أعرف ما ينطقه الماء وما تكتمه الأرض الحزينة
والأغاني المطفأة
والرياح المرجأة
وأصم الأذن عما هو كائن
وأرى في كل شيء قائم غربة ما سوف يكون».

هنا، يلتحم الأسطوري بالسياسي، ونرى ما تهدف إليه طقوس التكوين، أو شعائر الولادة الجديدة، وكيف تتوجه هذه الشعائر إلى تأكيد بذور المستقبل الكامن في رحم الحاضر، منسية، مغمورة بالتراب، لكنها باقية، كامنة، منتظرة المياه المخصبة التي تحيل التراب إلى طمي، والبذور إلى أفرع وأغصان، والمشاعر إلى أفعال متعلقة بتحقيق الخلاص من جدب الطبيعة، وظلم الإنسان (الحاكم) لأخيه الإنسان (المحكوم) في الوقت نفسه ولهذا يبدأ محمد عفيفي مطر إحدى قصائده بقوله:

«الشمس تشرب البحر لكي تموت
والأرض - في فجيعة العالم - تأكل البيوت
والشاعر الكاهن والقصيدة العلامة
شرنقة تحبل بالقيامة».

------------------------------

إنّ الذي سَمَكَ السّماءَ بَنى لَنَا
بَيْتاً، دَعَائِمُهُ أعَزُّ وَأطْوَلُ
بَيْتاً بَنَاهُ لَنَا المَلِيكُ، ومَا بَنى
حَكَمُ السّمَاءِ، فإنّهُ لا يُنْقَلُ
بَيْتاً زُرَارَةُ مُحْتَبٍ بِفِنَائِهِ،
وَمُجاشِعٌ وَأبُو الفَوَارِسِ نَهْشَلُ
يَلِجُونَ بَيتَ مُجاشعٍ، وَإذا احتبوْا
بزُوا كَأنّهُمُ الجِبَالُ المُثّلُ
لا يَحْتَبي بِفِنَاءِ بَيْتِكَ مثْلُهُمْ
أبداً، إذا عُدّ الفَعَالُ الأفْضَلُ
مِنْ عِزِّهمْ جَحَرَتْ كُلَيبٌ بَيتَها
زَرْباً، كَأنّهُمُ لَدَيْهِ القُمّلُ

الفرزدق

 

 

جابر عصفور