قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

ليس النقد مجرد تصور، ولكنه نشاط حفري يتناسق وذهنية النص، عبر نغمية هارمونية تعمل على الفرز والتمييز والتفنيد والتقييم، تماماً، كما تؤدي صيحة التحذير أيضاً. لذلك فإن عملية التحكيم النقدي، تبدو مهووسة بالجوهر على الدوام، وهي فوق ذلك حالة نصية تقدمية نشطة، تميل للسعي الاستكشافي، كما تزعم أنها مرآة النص وقوته الفنية. بمعنى أن النقد ضد التزييف الجمالي، وهو وحده المؤهل للحكم في شئون القيمة داخل النص. على أن هذا المبدأ المعرفي للنقد لا يمكن أن يستمر- كما أفهمه - دون إدراكنا الحيوي للأوضاع الأدبية المعاصرة، ومدى تعقيدها، والحس الشائه الذي صار يغلب الغيبوبة على الإيقاظ، بدلاً من التعامل مع الإنتاج الأدبي بشرف التحرير والتقدم، لا بحماسة الاجترار الضحل للأنماط الفنية المألوفة.

من هذا المنطلق كانت قراءتي لـ 24 قصة تلقيتها باعتزاز من مجلة العربي كي اختار منها ما يليق، وتبعاً لنضجها وتأثيرها، وللمعياريتين الأسلوبية والرؤيوية.

ولقد كان الطابع العام لمعظم القصص فارغ المعنى مع الأسف. لكننا بالطبع لا يجوز أن نقلل من طابع المثابرة التي اتسمت بها عديد قصص بالرغم من مظاهر تخلفها الفني هنا وهناك. وبالمقابل ثمة نصوص لها سحرها الخاص إذا ما قورنت بأخرى، بل وهنالك الحرص على عدم الجمود المدرسي في الكتابة، بالرغم من توافر السطحي واللامثير في السرد الخامل غير الحيوي داخل كثير من هذه النصوص.

ويبدو معلوماً أن مسابقة العربي بالتعاون مع الـ bbc لا تسلط الضوء على الكتاب المحترفين الباهرين، بقدر ما تلفتنا إلى المواهب الجديدة في إطار من المحاولات والحلم، ما جعل هذه التجربة القديرة محور إعجاب للمتابعين وللمهتمين، لأنها تنبع من احترام للمستقبل، عبر دفعها لعجلة الإنتاج القصصي العربي، بعيداً عن الغطرسة النقدية التي تنزع من النفوس الشابة جذوة البدايات وكيفية الاستمرار الإبداعي اللائق . لذلك صارت «قصص على الهواء» أكثر فاعلية وأكثر فائدة وهي تشيد بنماذج كتابية متطورة أو تستحق التطور، فيما تتيح الفرصة لتنمية الخبرات وخدمة المفاهيم الذهنية الحديثة في النقد، بصفته يمثل عوناً وليس العكس بالتأكيد.

على أن فن القصة برأيي هو فن تصوير الأفكار المجردة، كما أن الكتابة تمثل نظرة داخلية عميقة لأبعاد الماحول عبر الذات. ولقد وجدت 4 قصص من مجمل القصص المنظورة، أكثر تطوراً على الصعيد التقني، مثلما الاستطاعة اللغوية التي تدب فيها حرارة الإبداع، وكذا معنى احترام الفرد ككيان أساسي.

1 - قصة «مشهد رتيب» للمغربي المبدع هشام بن الشاوي، قصة الزخم الإنساني المقهور. وهي -إذ تصور حالة الذات الجماعية في الاغتراب - تكتسب خصائص الأشواق الفردية المستلبة ، في عالم مكرور بلا قيمة كما يتراكم التشيؤ فيه. والواضح أنها سردية الاحتجاج اللاهث بمكابدات العصر، ووعي اللامعقول، والإحساس الرهيب بأننا في عالم ينقض على الأحلام.. في هذه القصة- وعلى درجة لافتة من المهارة والوعي -يبدو التآلف السردي متماسكاً والفكرة، لكن التداعي الحر سرعان ما يفقد أثره دون أن يسجل مفارقته الفنية المنتظرة مع الأسف، وهنا لا تكون المتعة السردية كافية بالطبع.

في حين يبدو النص كوحدة عضوية للتشظي بهذيان لا مضمون له، بالرغم من النوستالجيا المتواترة بذكاء، ورومانسية الحفريات الواضحة فظاعتها على الذاكرة والروح.

2 - قصة «اغتصاب عنقاء» لـ«المصرية» مروة حسن عبد السلام، قصة الاحتجاج الرومانسي للواقع الغامض، تمثل تصويراً منفعلاً للعجز والتناقض الإنسانيين، وتحديداً فإنها لوحة صادقة التلقائية للعواطف المنهارة في ظل الفوضى وتعقيدات المؤثرات الاجتماعية الخ. لكنها بالرغم من موروثيتها السردية وعدم تحررها من الخمول الفني، تتسم بأشجان حلمية منسابة بين لهفة المغامرة وقسوة متاحات المادة، كما تتسم بجمالية الضجر الساخط على عدم تحقق الكينونة وسط عالم بمثالية ضبابية، يقود إلى الوحشة و التصدع والفراغ.

3 - «الجنسية الهولندية» للعراقي يوسف هداي الشمري.. وهي قصة تنم عن كتابة هادئة ومن دون فجوات في غالب سياقاتها. أي أنها محكمة وذات تصاعد دراماتيكي لافت. فيما تكشف عن موهبة ستنتج الضوء مستقبلاً من خلال امتلاكها الجيد لأدواتها السردية. على أن ثمة ترهلاً لايخفى وعدم تكثيف هنا وهناك يكاد يفسدها نوعاً ما، بالرغم من أنها تشتغل بمكابدة ووعي واضحين على احداثيات الاغتراب المعاصر في ثنائية الوطن والمنفى، لتجسد -وعلى نحو منغمس في الألم- تلك الانتفاضات الرهيبة بإمكانات الذات الفردية وبالتالي قدرتها على التحقق ولو في غير إطارها القيمي الأول، مع اعتبار فكرة الخلاص هنا مهمة وجودية أسمى لهذه الذات المعذبة بالطبع، والسبب: تشيؤ فكرة الوطن وتبدلات الإحساس به نظراً للاستبداد والقمع واضمحلال مبدأ المواطنة وصولاً إلى تعطل آليات الإبداع والتخلق والإنتاج والدمقرطة.. إلخ.

----------------------------
مشهد رتيب
هشام بن الشاوي (المغرب)

نفس المشهد الكالح يطالعني، كل صباح وكل مساء، بل وفي أيّ وقت. أبصق بلا لعاب. نفس الوجوه الكئيبة، تصطدم بها عيناي حين أغادر البيت - مرغمًا- لابتياع أيّ شيء.

أجسادهم لا تفارق كراسي المقهى، وأعينهم تطوق كل شيء.. نفس الزبائن يغتالون الوقت بتفاهاتهم اليوميّة.

أمني النفس بالرحيل إلى مكان لا يعرفني فيه أحد، ومغادرة هذا الحي البائس.

وبعيدًا عن بيتنا، أتدرب على التشرّد، وحيدًا.

***

جيراننا البؤساء -عفوا الأعزاء!- يسألون أبي كلما التقوه: «لم لا يقعد ابنك في الدكان؟».

حل طوباويّ لمشكل شاب ضائع، كما الملايين. هكذا ببساطة، وكأنّ كل أحلامي أن أسجن خلف منضدة، وسط حي يقتات أهاليه على التدخل في خصوصيات الآخرين. لسوء الحظ أنني لست من هواة الاسترخاء على الكراسي و...!!.

«أبي بلا شخصيّة! لو كان رجلا حقيقيّا لصرخ في وجوههم: «راقبوا نساءكم، وبناتكـم»، «لا شأن لكـم» به.. هو رجل في كل الأحوال»، قلتها لأمي، فاتهمتني بالوقاحة.

تجنّبـًا للقيل والقال، لذت بعزلة البيت.. لا أغادره إلا في اتجاه مكتب البريد.

***

كلما رأيت ساعي البريد الكهل، بدراجته النارية الصفراء، وحقيبته الجلدية اعترضت سبيله، أسأله وهو يخترق شارعنا الكئيب إن كان في حوزته أية رسالة باسمي.. مكرهًا أخاطبه. إنه

لا يبتسم أبدًا، مثل أبي تمامًا، وكأنّ كل هموم العالم اقتسماها سوية، أي بؤس باذخ أن تصبّح على سحنة عابسة؟! تفوو! حتى المباني في حيّنا متجهمة. وحدها جارتنا تطلق سراح عصافير ابتسامات جذلى كلّما لمحتني، وأنا أحاصر ساعي البريد، حين يقترب من أحد البيوت المجاورة.. تبًّا لهذا القلق، إنه يجعل الحياة بلا طعم، والنوم عصيّا، والزمن بطيئًا بشكل مقزز، فأثور في وجه أيّ كان، بلا سبب!!..

ليت رسالة واحدة تصلني من أولئك الذين أراسلهم. ليتهم يطلبون مني ألا أزعجهم بمراسلاتي، أو ينصحوني بألا أضيّع وقتي في انتظار ما لا يأتي.

***

ابتسامات جارتنا صارت ذات معنى، وأنا أتجاهلها. تكاد تنقلب إلى ما يشبه ضحكة مكتومة، تخنقها بيدها البضة. أرجو ألا تسخروا مني إن صارحتكم بأني استفسرت عن هذه الابتسامات الحمقاء والحركات الغريبة،

(لا أنكر أني غبيّ عاطفيًّا)، بيد أن صديقي الكاتب نصحني بأن أتفادى الأمر برمته، و أن أبحث عن أخرى، وقهقه، مشيرًا إلى نفسه بزهو: «ينصح الخبراء في هذا المجال بألا تصاحب بنت الجيران وألا تتزوجها أيضا...!!».

يخيّل إليّ أن ثمة فرقاً شاسعاً بين الواقع والروايات والأفلام؟

بالأمس، كنت مع صديقي الكاتب، الذي تفاجأت به بائعًا متجولا... يحمل بعض نسخ مجموعته القصصية الجديدة، يعرضها على رواد مقاهي الكورنيش باعتبارهم زبائن مميزين...

- أستاذ، ألديك اهتمام بالقصة؟

منهم من كان يسأل حتى يتأكد، فلأول مرة يسمع «مجموعة قصصية»، ثم يعتذر.. ومنهم من يعتذر بإشارة من يده، دون أن يلتفت إليه متظاهرًا بأنه ينظر إلى الناحية الأخرى.

عرفت منه، فيما بعد، أنه قام بإحراق كل النسخ، في لحظة يأس، ونعته أحد أصدقائه الكتّاب بالجنون، وبأنه مريض نفسانيًّا.

لم يعقب، اكتفى بالصمت..

أوف! حكاية صديقي الكاتب جعلتني أخرج عن الموضوع، كالعادة. عمومًا، كثيرون لاحظوا أنني صرت شارد اللب، زائغ النظرات هذه الأيام... المهم، لم أهتم بجارتنا، لأن الحبّ يكون حلوًا في بداياته فقط، والعهدة على صديقي الذي يكتب قصصًا تشبه كتابات محمد زفزاف، ولا أريد أن يعكر الحب صفو حياتي، فيكفيني ما أكابد!...

***

في ذلك الصباح الخريفيّ، غادرت فراشي بسرعة متجهًا نحو الباب، بعد أن سمعت هدير محرك دراجة ناريّة أليف، وقرعـًا خفيفـًا على الباب. لمحت ظرفـا أبيضَ، ارتجّ قلبي، وأشرق فرح في عيني، يئست من أن يصافح أعماقي...

أخيرًا... وصلتني دعوة لاجتياز امتحان. يا الله!!.

بعد أسبوع، سأغادر هذه المدينة الكئيبة. ربّما أودّع هذا الحي، إلى الأبد. فتحت الظرف بسرعة، وجدت الرسالة باسم شخص آخر، غاص قلبي في أعماقي، وعقدت الدهشة لساني، قلبت ظهر الرسالة، إنه نفس عنوان بيتنا، لكن المرسل إليه...

في أقل من ثانية، وجدتني أركض في الشارع بحثًا عن رسالتي، التي قد تصل إلى عنوان آخر، خطأ... لم أنتبه إلى أنني كنت أركض في الشارع بثياب النوم، وسمعت ضحكات انفلتت، هذه المرّة، من جارتنا. لم أبالِ بها، ولم أنتبه إلى أنني انتعلت فردتي صندل مختلفتين وجدتهما أمامي، إحداهما لأمي والأخرى لأختي. لم أكن أبصر غير الكهل كئيب السحنة وهو يبتعد، وأنا ألعن اليوم الذي رأيته فيه، مرقت بجانبي سيارة، اصطدمتُ بمقدمتها. حاولت أن أواصل ركضي، لكن ألمًا فظيعًا استبد بركبتي، وفي المستشفى، لم أكن أفكر سوى في رسالتي الضائعة، وقد خيّم على روحي حزن طاغٍ، والطبيب ينصحني بملازمة الفراش، وعدم التحرك بسبب كسر ركبتي، وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء، وفكرت في أن أسأله: لماذا تبتسم كأبله؟!

***

يتأرجح جسمي الضئيل من فوق العكازين، تخترق مسامعي ضحكات من فوق الكراسي متشفيّة.. أتوقف برهة، وأنا أسمع ولا أسمع شيئـًا مما يقولون عني. ألتفت خلفي.. جارتنا الجميلة، وكذلك ابتساماتها المشرقة اختفت.. في ثرثرتهما الصباحيّة، أخبرت جارتنا أمي بأن جيراننا انتقلوا إلى مدينة أخرى.

ويغدو كل شيء من حولي... مقفرًا كئيبًا، وكأني في مقبرة مهجورة.

----------------------------
اغتصاب عنقاء
مروة حسن عبدالسلام - مصر

بيدين مرتعشتين، توصد باب الحمَّام. ترتكن إليه لبرهة مغمضة الأجفان. تنصت لصوت أنفاسها الذابلة. تقف أمام المرآة الكبيرة وتتجرد من كامل ثيابها. تتخلص من كل ما يربطها بالإنسان المتحضر. تكفكف دموعها السوداء وتبتلع غصاتها المُرة. تزج بنفسها وراء قضبان الماضي، ويدور عمرها شريطًا سينمائيًا في قلب المرآة. ما زالت تذكر يوم أشفقت على عصفورها الملون من وحدته، فطيَّرته من نافذة شرفتها، لتغتصب حياته حجارة أولاد الجيران. ويوم أخطأت معلمتها في المدرسة بسبب تشابه الأسماء ومنحت درجاتها النهائية إلى زميلتها في الفصل. ومساء أُودع أباها المستشفى لأنه... ما عاد يتذكرها. تذكر زهرة أرهقتها الأحضان ومزقت وريقاتها الشفاه الشهوانية، فكفنتها بين دفتي مذكراتها. وليلة تجعدت فيها صفحة البحر وهي ترمي إكليلاً جنائزيًا لحبيب لم يفِ بوعد بالخلود. ولحظة غروب رأت فيها أمها بورقة عتقها من أبيها، وتنبس لها ببنت نهاية: "خلاص. الحدوتة خلصت".

تحاول أن تنفض رأسها من الذكريات المدوية. بالأمس، قالوا لها إن جسدها موبوء بالأشباح. أحست لحظتئذٍ أن الصقيع قد نبت في عروقها وتحت جلدها. تقف تحت رذاذ (الدش) اللاهب. يُغيْر الماء الساخن على جسدها. يذيب خطاياها. وأقنعتها. يختلط بالوجوه المتلاطمة. يوحي لها أن تعصر قلبها. يتدلى بين مشانق أصابعها. تسقط على ركبتيها نادمة. تحاول لم شتات ذكرياتها الذي ذاب مع الغبار والأوراق المتناثرة وخيوط الأمل العنكبوتية. الذكريات غالية. أثمن ما في حياة الإنسان. بحلوها ومرها غالية. وها هي تُهدَر في بالوعة الفناء والنسيان. عشق لدى الناس أن يمتهنوا النسيان. أن يطمسوا الأعوام بأقدامهم. أن يعلنوا المشاعر عرجاء.

مع تكثف ذكرياتها على زجاج المرآة، تنسحب روحها إلى أكثر أركان جسدها ظلمة وعتمة. تتهاوى جفونها. تقبر نفسها في أعماق تسكنها الغربة.

في ذاكرتها الخلفية، تتوه في أدغال الماضي. أشجار محتبكة يومًا وراء يوم. تلمح حصانًا أسود. لا تعلم كيف تميزه عيناها وسط الظلال السوداء. لكنه موجود هناك... في انتظار أن تمتطيه لتجري وراء قطعان يسمونها الأمل تارة والإيمان تارة أخرى. تسمع عويل الهاوية عاليًا. منذرًا. تشعر بأيادٍ تدفعها. تجذبها. تعريها من دروعها. تشد أوتار روحها. تزيل خيوط العنكبوت التي تغطي كل (براويزها).

تقوم متثائبة من جلستها الجنينية. كما اعتادت كل خمسمائة عام. مرة من بعد مرة من تحت الرماد. تخفق بجناحيها المثقلين بغبار الاغتراب والشظايا والأسْر. وتنتظر، على قارعة الذكريات، أن تنعتق من زمانها بعد خمسمائة عام أخرى.

----------------------------
الجنسية الهولندية
يوسف هداي الشمري - العراق

وسط أمستردام، وفى شقتي المعلقة في الطابق السابع بعمارة بنيت حديثا للمهاجرين، وبينا كنت أهم للخروج، عثرت على الرسالة التي انتظرتها طويلا. جاءت بها البشرى بموافقتهم على منحى الجنسية الهولندية. كم كان حلما رائعا أن تحصل على حق المواطنة في بلد اوربى، يحفظ لي كرامتي.... كرامتي.... كرامتي.

شاربان كثان ورأس ضخم وكف كبيرة انهالت على خدي الأيمن بكل ثقلها محدثة صوتا أشبه بالطلقة.

أول إهانة توجه لي. لا أعلم ما الذي ذكرني حينها بزوجتي. جالت عيناي تبحثان عنها في زوايا الصالة وخلف الأبواب المواربة. إن لم تكن رأت المنظر فأنها بالتأكيد سمعت الصوت المدوي الذي هوى على وجه زوجها. لمحتها أخيرا. ثمة دمعة تملأ مقلتيها. لعلها ترثى لحالي. لربما خالتنى امرأة مثلها وهى تراني أصفع كفا.

سبق لي وأن صفعتها مرارا. ترى، هل شمتت بى؟. هل اعتبرته قصاصا عادلا؟. نظرات الاحتقار تلوح لي من عينيها. وقد تكون نظرة عطف أو استهانة.

غرف التعذيب لم تزل صورها عالقة بذهني. وآثار آلاتهم حفرت نقوشا بجسمي المهشم.

الهواء الآتي من النافذة المفتوحة تهدهدنى أطايبه، وأنا أرنو إلى الوردة المرفقة مع الرسالة. لعل نسيم البحر يذهب عنى لفح شمس تموز التي لوحتنى بلهيبها طيلة ثلاثين عاما، قضيتها بين الحقل والجيش وأعمال البناء الشاقة في بيتنا الطيني.

على ضفة النهر، كانت طفولة بائسة ترسم خطوطها جداول صغيرة اشتقت من رافد عظيم. أيام الحصاد، تخرج كل العائلة في عمل شعبي. الكل يزرع، رجال ونساء، شيوخ وشبان. كلهم يعملون في الزراعة ولا يجنون غير التعب. خيرات أراضينا، وثمرات حبوبنا التي نبذرها موسم الزرع، تذهب لأناس لا نعرفهم ولم نرهم. يسرقون جهدنا وأرضنا وكل خيراتنا.

منذ الساعة صرت هولنديا، لي حق الترشيح، والانتخاب، و الدراسة، والعمل. أي عمل كان، شريطة ألا يتعدى حقوق الآخرين.

أين غدا خلفتنا أبو بدر؟. أحسن بناء في المدينة. كنت محظوظا إذ أعمل معه. قدم لي نصيحة لن أنساها.

_ ابتعد عن أعمال البناء، فان فقرها يلازمك طوال العمر.

وماذا أفعل وأنا أرى زوجتي وطفلي الوحيد يجتران جوعهما بصمت ثقيل.

يجب أن أعمل حتى أوفر لأسرتي الحياة الكريمة. كم هي مضحكة هذه الكلمة....

لا يوجد فقر في هولندا. مظاهر الغنى واضحة على وجوه الهولنديين. فقيرهم من لايملك سيارة. أما الجوع..... هناك في....

 

 

فتحي أبو النصر