من يوميات دفتر الحرب والسلام.. الأبعاد الكبيرة للعدسات الصغيرة

من يوميات دفتر الحرب والسلام.. الأبعاد الكبيرة للعدسات الصغيرة

1 - لوجستيات زمن الاستقلال المجيد
اعتدت على المشي للتريّض صباحاً في حديقة عامة قريبة من بيتي، تحمل اسم بطل عربي قومي، اعتبر الساعة اليتيمة التي أقضيها لوحدي هناك طقساً أساسياً مهماً لضبط عيار صباحاتي. ولكنني لم أكن راضية أبداً عن مستوى النظافة وحالة المرافق في حديقة تحمل اسم بطل كبير مثله. «هذا لا يليق أبداً»، صاحت في داخلي المواطنة الصالحة «الوضع لا يمكن السكوت عليه».

بحثت عن مسئول الحديقة في كل مكان، وجدته، هو شاب طيب، تحيط به هالة هندوسية رائعة من الإحباط الخالص. إذا كانت الحوارات تأخذ شكل «الديالوج» عادة، فإن ما تبادلناه من الحديث كان «مونولوجاً» حقيقياً من طرفه. كل من أعرف من المحبطين مفوهون هم خطباء مفوهون.

ما العمل الآن؟ شمّرت عن ساعدي، وأخذت آلة التصوير ثم قضيت صباحاً كاملاً أقوم بأعمال تصويرية فدائية لا يعلم مداها إلا الله «كما أنني لست فخورة جداً بالحديث عنها، فالتفاصيل ليست ظريفة أبداً». ما يهم هو أنني سجلت، بعيون جاسوسة فاتنة من برلين الحرب الباردة، كل أوجه الإهمال في الحديقة. ثم رجعت إلى البيت وكتبت رسالة أزعم أنها قطعة فنية في فن الشكوى. اتصلت بعد ذلك بالمختار، علماً بأنني لا أعرف ما هي وظيفة المختار بالضبط (لطالما اعتبرت المختار كائناً أسطورياً أشبه بشخصيات الميثولوجيا الإغريقية. وللحق، لنتصارح، مَن منكم رأى مختاراً من قبل؟ ثم إنني لا أعرف كيف يُخاطب المختارون، وكل ما أستطيعه هنا هو أن أستحضر ما أتذكره من حوارات فيروز في مسرحيات الرحابنة وهي تخاطب «مختار المخاتير»).

طال الأمر، ويبدو أنني أزعجت مختارنا الطيب كثيراً، حتى أنه بعد أن كان يرد على اتصالاتي بنفسه صار يحيلني إلى سكرتيره. «لا ألومه»، قال زوجي. «يمكن لك أن تكوني لحوحة إلى درجة الملل أحياناً.. لم أطر فرحاً بهذا التعليق. يا عزيزي، وهل يملك القلقون الحيلة سوى الإلحاح في مواجهة الرائقين وذوي الصلاحيات؟

بعيداً عن سرد تفاصيل عمل الآلة البيروقراطية، يكفي أن أقول إن أوضاع الحديقة قد تحسّنت.

صارت أرض المعركة ممهدة.

2 - اجتياح الفلاسفة الصغار:

كل ذلك كان في أيام السلام الجميلة الغابرة، عندما كنت أمشي في الحديقة لوحدي.

أنا الآن صرت أصطحب ولديّ الصغيرين للتنزه معي في الحديقة، ويالها من تجربة أثّرت تماماً في منظوري للأمور. في البداية، ندمت على لحظة الطيش التي قررت فيها اصطحابهما. كان يوماً غير سعيد عندما تسرّعت في ذلك، لقد حوّل هؤلاء الغزاة البرابرة مساحة السلام الوحيدة في يومي المجنون أصلاً إلى أرض معركة حقيقية: آليات مدرعة (دراجات)، قتال، صراخ، أسلحة.

والأسئلة، كمية الأسئلة التي لا تنتهي. يا إلهي، كم هي عالية سقف توقعات الصغار الجغرافية من الأم:

يتوقع مني أن أعرف دائماً أين ركن الصغير دراجته؟ أين فقد أخوه حذاءه؟ أين موقع بيت كريستوفر كولمبوس من الحديقة؟ من أيّ الأشجار أكلت Snow White ؟ وتحت أيها دفن كنز القرصان Jack Sparrow ؟ في أي جحر يعيش Bugs Bunny ؟ ثم ما هي المسافة التي تفصل بيننا وبين بيت Johnny Bravo ؟ إن بيته لا يمكن أن يكون بعيداً «فعلى باب بيته تقف قطة مثل تلك الواقفة هناك تماماً».

يالخيبة أمل الصغار في هذه الأم التي لا تعرف حتى الحقائق البديهية الواضحة، مثل حقيقة أن المسافة من سور الحديقة إلى تلك الشجرة تعادل ارتفاع أربع عشرة سيارة مطافئ زرقاء، «إذا ما جاء عملاق قوي هارب من المدرسة وصفها فوق بعضها البعض!».

أخلق لهم الإجابات الخيالية والسريالية دائماً، ولكن واقعية الأطفال يمكن لها أن تكون قاسية أحياناً. «في المرة القادمة، سوف نأتي إلى هنا مع بابا، بابا يعرف مكان كل شيء». قال أكبر الصغار هامساً لأخيه، الذي كان يستمع باهتمام المتآمرين إلى الحكمة التي تقطر من شفاه هذا الذي يدرس في الصف الأول. «نعم، وخصوصاً إذا أحضر معه جهاز تحديد المواقع GPS الذي لا يفارقه أبداً». خطر لي أن أجيب ساخرة، ولكنني لم أفعل. تطلّب الأمر مني صبر أجيال كاملة من الأنبياء، أيوب وداود وسليمان معاً، حتى لا أفصح عن سر حجر الفلاسفة هذا الذي يحول صورة الآباء في عيون صغارهم من مجرد سواح حائرين إلى أبطال قاهرين لأعتى الخرائط. إهانة، سكتُ عنها على مضض.

كثيراً ما حاولت - عبثاً - تحويل هذه الطاقة المجنونة إلى أنشطة إيجابية، من قبيل خدمة المجتمع، صممت لهم لعبة «مَن يستطيع ملء الصندوق قبل الآخرين؟». قواعد اللعبة بسيطة: من يلتقط أكبر كمية من الأوراق والقراطيس الملقاة على امتداد الحديقة، فيرميها في صندوق القمامة هو الفائز (أطمئنكم، الاحتياطات الصحية متوخاة).

أشعر أن هؤلاء الدهاة الصغار على علم تام بخطتي، هذا هو تفسيري الوحيد لكوني الفائز الأول دائماً في هذه اللعبة، وحماسهم واندفاعهم لتحيتي كلما فزت، على غير المعتاد.

الأمر جد مريب: هؤلاء الذين يملأون بدموعهم الحارة حمولة أساطيل كاملة من ناقلات البترول كلما هزموا في اللعب، من أين جاءتهم هذه الروح الأولمبية المفاجئة؟

3 - من ذاكرة الدهشة لكتيبة الطليعة الكشفية:

صار للحديقة أبعاد قياسية. للأطفال عيون تعمل وفق إحداثيات مختلفة، هي أشبه بعدسات صغيرة بقدرات تكبيرية مدهشة.

عندما تكون طفلاً، فإن الأشياء تأخذ أحجاماً جاليفرية لا يراها إلا الصغار، ويكون للأحداث أثار درامية مسرحية لا يقدّرها سواهم. إليكم قاموس الأطفال الحدائقي:

بحيرة: بركة المياه المتجمعة أسفل براد الماء العطلان.

جبل: ركام مخلفات البناء وراء غرفة الحارس.

وحش: حيوان صغير خائف لا تلمح سوى عينيه من بين أجمة كثيفة.

جزيرة: الحجر المطمور بمياه الصنبور المكسور.

لوحة: رسومات الجرافيتي على دورات المياه.

شجرة: عشبة صغيرة نمت بين أحجار الممشى.

كنز: قطعة بلاستيكية صغيرة لامعة (تذهب أرجح النظريات إلى أن سقطت من الصاروخ الذي أقل سوبرمان في رحلته التاريخية من كوكب كريبتون إلى كوكب الأرض).

نمر: القطة المخططة العرجاء ذات النظرات المليئة بالمرارة.

جريمة قتل: الخنفساء المقتولة دهساً بنعومة وتسطح هندسيين (أداة الجريمة: «كعب نسائي عال، يا مستر هولمز؟»، «هممم، أمر بديهي يا عزيزي واتسون»).

ورث الصغار هذه الرؤية الفريدة للأشياء عن جدتهم. أمي، هي فنانة، تسحرها التجليات الصغيرة للطبيعة أكثر من جوانبها الكبيرة الطاغية. مهما كانت مستعجلة (وهي نادراً ما تكون كذلك، أقول لكم)، تجد أمي الوقت دائماً لتقف بضع دقائق تتأمل خلالها النباتات العنيدة التي تصر على النمو محطّمة إسفلت الشارع أو أحجار الطريق، أو لتدرس أشكال الزروعات الصغيرة التي تظهر حول بركة المياه المتجمعة تحت ميزاب قديم.

«مااامااا.. تعالي بسرعة: بيبي ديناصور». (سحلية).

4 - النظرية الخلدونية في الحرب:

للحق، كانت تجربة اصطحاب الأطفال إلى الحديقة لوحدي، من دون وحدات دعم وإسناد لوجستي، تجربة قاسية. ولكنني بعد تقييم هذه التجربة الصعبة من جانبها الفلسفي، استمرأت مرارتها وتكرر اصطحابي لهم إلى الحديقة. الأعمال الفدائية، في النهاية، هي أحد بنود الجدول اليومي المعتاد للأمهات، التي من ضمنها محاولة كتابة يوميات دفتر الحرب والسلام، هذه في خضم مقاطعات غير بشرية أبداً (لا تدعوني أحدّثكم عن التناقضات الصارخة التي ترد ضمن كراسة مهنة الأم، فأنا إن بدأت لن أنتهي).

ولكنني لاحظت أن تطوراً داروينياً غريباً قد طرأ على شخصيتي: لقد نمت لدي ملكة جديدة فاجأتني تماماً.

أنا، الشهيرة بين أهلي وأصدقائي بالسرحان وضعف الانتباه إلى درجة تستدعي التعاطف الإنساني (يشهد بذلك قفل باب مكتبي التعس الذي تبدأ طقوس عذاباته الصباحية بمحاولاتي العنيدة والمستمرة لفتحه بمفتاح السيارة)، صرت - بدفق إلهام سماوي، مفاجئ - أنتبه لكل ما هو حولي وأفكر ملياً فيه، أصبحت أرى الأشياء الصغيرة بعدسات الأطفال المكبّرة.

تفسيري الوحيد لهذا التغيير المفاجئ يجد أساسه في كتاب قديم، كتب في المغرب الأوسط منذ حوالي سبعمائة سنة. في مقدمته، خرج ابن خلدون بنظرية اجتماعية يعرفها السوسيولوجيون جيداً: المهزوم يقلد المنتصر دائماً في عاداته وطبائعه، أنا مهزومة، والصغار منتصرون.

5 - السلام: الكشف الصوفي

أياً ما كانت مستويات ضميري، هذا الذي يختلف الناس في تقديرهم لعمقه، فقد غاص درس الصغار فيه غزيراً.

خلال أوقات تريّضي في الحديقة، تحول ما كان يبدو لي تافهاً ولا يستحق الانتباه فبدأ يأخذ أبعاداً قيمية جديدة. صارت لمفردات الحديقة معانٍ عميقة ذهنياً. كان الأمر بالنسبة لي أقرب إلى أن يكون كشفاً صوفياً:

أصبحت اللوحة المعدنية الصدئة التي تحمل اسم البطل القومي الذي سميت الحديقة باسمه بمنزلة أثر تاريخي يزار، شيء أشبه ما يكون بنصب الجندي المجهول. صرت إذا مررت عندها أبطئ سيري، فأستحضر وجود هذا البطل وأبدي شيئاً من الاحترام، الذي وإن كان مسرحياً إلا أنه مستحق.

صارت الخنافس المدهوسة تستحق نظرات بيولوجية فاحصة تشبه تلك التي تشع من عيون العاملين بالتجارب التشريحية والمختبرية (تحذير: هذه ممارسة لا أنصح بها لضعيفي القلب وسريعي الاشمئزاز. صدقوني، التحدي كبير).

صرت ألاحظ أن الزجاجات المكسورة تنشطر وتتكاثر بالانقسام، مثلها كمثل الأميبا، لتحول إلى شظايا مزججة بألوان باهرة لا تليق إلا بنوافذ الكاتدرائيات الأوربية العتيقة.

ورسومات الجرافيتي التي يرسمها المراهقون على دورات المياه من الخارج صارت لوحات فنية رائعة تستحق وقفات تقدير متحفية (مع ما يعنيه ذلك من تطبيق لمتتالية النقاد الجسدية، عقدٍ الذراعين على الصدر وميل العنق إلى الجنب وتقطيب الجبين مع صر العينين للتركيز). كم هو محزن أن هؤلاء الفنانين الخائفين لا يجدون متنفساً لإبداعات فنهم الثائر إلا على حوائط دورات المياه المهجورة».

ومصدر إحباطاتي اليومية على مدى سنتين متتاليتين، السيدة الأربعينية الجميلة التي تمشي يومياً في الحديقة، والتي لسبب يعلم الله أنني أجهله، تصر على عدم الرد على تحياتي الصباحية السرمدية كلما تقاطعت طريقانا (أؤكد لكم أنني أجتهد للتنويع في تحياتي البائسة: «صباح الخير»، «صبّحك الله بالخير»، «مرحبا»، «السلام عليكم». طيب رد، أي رد، همهمة أو حتى شبح ابتسامة بحق الإله ومن أجل الكرامة الإنسانية المهدرة على طرقات الحدائق العامة؟)، هذه السيدة عذرتها، فقد تحوّلت إلى إحدى شخصيات روايات أنطون تشيخوف، ماريا إلينا أو أيفانا إيفانوفتش، أو عداهما من فاتنات قلقات معذبات في حالة انتظار دهري، ينتظرن تلك الرسائل التي لا تصل أبداً. بطلات رقيقات مشغولات بأنفسهن وهمومهن عن الدنيا وما فيها.

والأوراق الممزقة الملقاة على الأرض صارت تحمل أحياناً - إذا ما أخذنا الوقت لنقرأها - دلالات عميقة: بطاقة «شركة حكاية للأفراح» (يالها من تتمة أسطورية لقصة الحب التي تدور على بعد ست نخلات مني. أخذت البطاقة ودسستها في جيبي. بعد أن ترك العاشقان الشابان مكانيهما، وضعت البطاقة بوضوح، على المقعد الذي كانا يجلسان عليه، بين كوبين ورقيين للقهوة تركاهما خلفهما. مَن منكم حاول أن يلعب دور القدر؟).

والعشبة الصغيرة النابتة بين أحجار الممشى صارت تستحق أن أبطئ مشيي، المتسارع لغير هدف، لتقدير طاقة العناد المهولة هذه التي أتاحت لمثلها من الصغار والضعاف شق طريقها للحياة بالرغم من قسوة الصخور الصلدة الباردة.

والشباك الحديدي القديم المكسور الملقى بجانب السور تحول إلى صورة ذهنية لقضبان زنازين العالم كله، التي يقبع خلفها بائسون محرومون، في هذه اللحظة، من هذا النور الذي يغمرني، أنا لست معنية بفلسفات الثواب والعقاب الآن، ما يعنيني هو تسجيل حالة المعاناة القائمة هناك، مستحقة كانت أم غير مستحقة.

وغناء ماريا كالاس في السماعات التي أضعها في أذني، وهي المغنية التي أحبها ولكنني أسمعها ولا أسمعها في نوبات سرحاني الكاريكاتوري المعتاد، صار أرخم، حقاً أرخم. لقد تضاعفت مساحات صوتها وامتدت فكشفت عن تفرّده الاستثنائي: جوقة ملائكية من السماء. مَن يلوم أوناسيس في عشقه لهذه السيدة؟ (أما أنا، فكلما سمعت مغنية أوبرا تذكرت بطلة مغامرات تان تان، بيانكا كاستافيور، «كروان ميلانو المغرّد»).

ظهر لي، بجلاء، أن الجمال يأتي في أقل القوالب حجماً، وأن هناك معنى «جميلاً» لجميع الأشياء، حتى أكثرها تفاهة.

كيف لم ألحظ كل هذا الجمال من قبل؟
وما معنى هذا الكشف الجديد؟
هل صغرت، فصرت أشبه الأطفال؟
أم هل كبرت، فصرت أشبه أمي؟
أم لعل أمي لم تكبر أصلا؟
وهل يكبر الفنانون؟

اذكروا بالخير جان جاك روسو. كان الرجل ينادي بأهمية العودة للطبيعة, والاحتكاك بها بانتظام لتحسين صحة العقول والأبدان معاً. سادت نظريته لفترة ثم اندثرت. يمكنني الآن أن أسوق لهذه النظرية، بحماس الفلاحين المخلص، ولكن وفق متطلباتي الحضرية الخاصة، شروطي هي أن تحمل الطبيعة التي نعود إليها آثاراً مدنية تصلح للتأمل (أوراق، نفايات، أكواخ، لا يهم).

هذه هي حدود طاقتي، أنا - بالنهاية - أدين بولاء عسكري لمدن العالم كلها.

6 - البيان رقم واحد:

من هنا،
من حديقتنا العامة المهملة،
وفي غمرة واحدة من انتباهاتي المحيطية النادرة.

من بين الأبطال القوميين، والخنافس المدهوسة بهندسة الكعوب العالية وقسوتها، ودورات المياه المزيّنة بإبداعات الفنانين الوجلين، والديناصورات الصغيرة، وبطاقات الأفراح الممزقة، والقطط العرجاء المليئة بالمرارة. والكنوز الرخيصة، والعشاق المجهولين، والزجاجات المكسورة ذات الشظايا الباهرة التي لا تليق إلا بنوافذ الكاتدرائيات الأوربية العتيقة، وعلى خلفية من صوت بيانكا كاستافيور، كروان ميلانو المغرد، ومن بعد ياردتين من صديقتي العجولة التي مازالت تأبى، بأنفة عربية فخورة، رد تحياتي الصباحية الخائبة، أحييكم.

وأسألكم: متى غيرتم عدساتكم آخر مرة.

 

 

 

مشاعل عبدالعزيز الهاجري