هل انتهى عصرالخيال العلمي؟.. د. أحمد أبوزيد

هل انتهى عصرالخيال العلمي؟.. د. أحمد أبوزيد

أصبح الواقع الحالي الذي نعيش فيه الآن أقرب إلى أن يكون ضربا من الخيال العلمي, نتيجة للاكتشافات العلمية المذهلة وإلإنجازات التكنولوجية التي تتجدد باستمرار وبسرعة فائقة, بحيث يصعب ملاحقتها واستيعاب أبعادها ووظائفها في الحياة قبل أن تختفي لتحل محلها اكتشافات وإنجازات جديدة تماما, تزيد من الحيرة والبلبلة, بحيث أصبحنا نبدو كما لو كنا نتحرك في إطار إحدى روايات الخيال العلمي, التي نشارك جميعنا في تأليفها وصياغتها بشكل أو بآخر، ونساير أحداثها التي تؤلف في واقع الأمر جزءا من نشاطنا وتفكيرنا، وتتولى تشكيل حياتنا الفردية والجماعية.

لقد أصبحنا نتقبل مايمكن أن يكون خيالا صرفا على أنه واقع عياني ملموس، ولم نعد ندري أين الحقيقة من الوهم والخيال، وكادت تزول الحدود الفاصلة أو التي كانت تفصل حتى الماضى القريب بين ماكان يعتبر حقيقة واقعية وما كان يعتبره العقل البشري نوعا من الخيال أو الوهم، أو صورة من صور الفانتازيا التي يصعب تصديقها، فضلا عن إمكان تحققها حتى في المستقبل البعيد. ولكن الواضح أن ماكان يبدو وهما أو خيالا يتحقق الآن على أرض الواقع، حتى قبل أن يتمكن العقل من التفكير فيه.

وقد ترتب على ذلك أن جانبا كبيرا مما يعتبر كتابات في الخيال العلمي أصبح يدور حول أفكار وأحداث قائمة الآن بالفعل، أو يتوقع حدوثها في المستقبل القريب، وبذلك ضاقت النظرة إلى المستقبل، كما ضاق نطاق ومجال الأحداث التي تعرضها هذه الكتابات عما كان عليه الوضع في أعمال الرواد الأوائل، من أمثال جول فيرن Jules Verne أو إتش. جي. ولز H. G. Wells، وارتبطت معظم الأعمال بما هو مألوف ومعروف من نتائج توصل إليها الكشف العلمي نتيجة ارتياده لآفاق كانت مجهولة تماما حتى وقت قريب.

ولقد شهدت الفترة من الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن الماضي العصر الذهبي للخيال العلمي في أمريكا وأوربا، وتمثل ذلك في ظهور عدد كبير من أروع الأعمال في ذلك المجال الخصب والمثير، بحيث أصبح كثير منها من الكلاسيكيات التي أبدعها عدد من أهم كتاب الخيال العلمي في تلك الفترة الزاهرة من أمثال إيزاك آزيموف وراي برادبوري وفردريك بوهل وجون ويندام وغيرهم كثيرون. ثم جاءت بعد ذلك مايعرف باسم الموجة الجديدة في الخيال العلمي أثناء الستينيات والسبعينيات على الخصوص، وفيها ازداد ارتباط الكتاب بمشكلات العصر الناجمة في الأغلب عن التقدم العلمي والاكتشافات الجديدة في مجال علوم الحياة Biosciences والاتصال وارتياد الفضاء، كما شهدت ظهور عدد من المجلات الشعبية والدوريات الجادة التي كثيرا ماكانت تتطرق للأسباب والنتائج السيكولوجية والاجتماعية المترتبة على الكشوف العلمية التي تتجاوز كل الخيال الإبداعي، وربطت بين الخيال والواقع وصبغت الخيال بصبغة واقعية واضحة.

مصدر زاخر بالمعلومات

كانت الدول الكبرى قد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية تنظر إلى كتابات الخيال العلمي كمصدر زاخر بالمعلومات التي يمكن الاسترشاد بها في المهام العسكرية والحربية وفي مجال تكنولوجيا المعلومات والصناعات الحربية، كما ازداد الاهتمام في الوقت ذاته بالبحث عن تأثير التجارب والاكتشافات المفترضة والخيالية على مسار الإنسانية، مما أعطى أعماقا وأبعادا تحليلية جديدة لم يكن لها وجود في الكتابات السابقة، بما فيها كتابات العصر الذهبي للخيال العلمي، مما قد يوحي بارتباط كتابات الموجة الجديدة وما بعدها بازدياد التوجه نحو استغلال حقائق العلم ومستجدات التكنولوجيا ومشكلات العصر في الإبداع العلمي الخيالي، مع الابتعاد عن أوهام الفانتازيا والاهتمام بتحليل الواقع الاجتماعى والسياسى بأسلوب كثيرا ما يخفي وراءه مشاعر واتجاهات ومواقف الرفض، أو على الأقل التمرد على الآخر، وبذلك أصبح لأعمال الخيال العلمي وظيفة اجتماعية شاملة قلما كانت تظهر في الأعمال السابقة. وليس من شك في أن الخيال كان يلعب دائما دورا أساسيا في تقدم الإنسان وتاريخ العلم والحضارة لدرجة أننا نجد عالما في مكانة وحجم ألبرت أينشتاين يقول «إن الخيال أكثر أهمية بكثير من المعرفة ،لأن المعرفة مقصورة على مانعلم وما نفهم بالفعل، بينما يضم الخيال العالم بأسره وكل ماسوف نعرفه وما سوف نفهمه». وكايسي كازان Kasey Kazan يقول في مجلة (Future Present, July 18, 2007) إن قوة واتساع وامتداد مجال الخيال الإنساني هي أمور أساسية وضرورية بالنسبة للعصر الذي نعيش فيه ربما بدرجة أكبر مما كان عليه الوضع في العصور السابقة، وإلى الحد الذي قد يكون فيه خلاصنا النهائي.

أسرع من الخيال

يقدر العلماء أن أصول الجنس البشري ترجع إلى مايقرب من مائتي ألف سنة فقط، وهي فترة ليست بالطويلة إذا قيست بظهور بعض الأنواع الأخرى التي ترجع إلى مايقرب من ثلاثة ملايين سنة، ولكن خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا استطاع الخيال الإنساني أن يرتاد الكثيرمن جوانب الكون ويهتك أسرارها، ويثير كثيرا من التساؤلات حول ما لم يستطع اكتشافه، ولكنه فتح بذلك مجالات واسعة أمام الكشوف التي تحقق بعضها بالفعل، مما ساعد على انتشار مقولة إن الخيال العلمي هو المقدمة التي تمهد الطريق أمام الحقائق العلمية. ولكن هل يصدق ذلك على واقعنا المعاصر الذي يشهد كل تلك التغييرات والاكتشافات المتتالية في كل جوانب الحياة، بحيث يكاد يكون من الصعب الإحاطة بها، فضلا عن التفكير فيما عسى أن يأتى به الغد دون حاجة إلى إعمال المخيلة حول ذلك؟ يبدو أن مايتحقق بالفعل على أرض الواقع أسرع وأسبق من تخيل إمكان حدوثه.

تغيرات جذرية

وقد يكون من المغالاة الحديث عن انتهاء واختفاء العصر الذهبي للخيال العلمي وإن كان من الواضح حدوث تغيرات جذرية في السنوات الأخيرة في طبيعة هذه الكتابات والموقف العام منها. فقد اختفى عدد كبير من المجلات الشعبية التي كانت تنشر القصص القصيرة المثيرة التي كانت تخاطب في العادة القارئ العادي، وبخاصة من الشباب الذين تجذبهم المغامرات والمخاطر والمجازفات المصاحبة مثلا لرحلات ارتياد الفضاء الخيالية أو التجارب شبه العلمية التي تؤدي إلى حدوث تغيرات في التكوين البشري، على ماتمثله خير تمثيل رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» المشهورة, ولكن ظهرت على الجانب الآخر مجلات ودوريات أكثر عمقا وجديّة ولها طابع علمي واضح يخاطب العقل وليس المخيلة أو المشاعر والانفعالات على ماكان عليه الحال منذ ظهور أدب الخيال العلمي. وصاحب ذلك - كما تشير بعض الكتابات التي ترصد وضع هذا النوع من الكتابة في الخارج - تراجع الكثير من برامج الخيال العلمي في التلفزيون واستبدال برامج علمية جادة بها سواء أكانت تدور حول إنجازات علمية وتكنولوجية واكتشافات تحققت بالفعل ولها نتائج مثيرة للخيال والتأمل، أو حقائق علمية تستدعي التفكير حول ماقد يترتب عليها في المستقبل من نتائج مفترضة أو متوقعة. فنقطة الانطلاق في كتابات الخيال العلمي الآن هي الحقائق العلمية الثابتة والمؤكدة، بينما يقتصر دور الخيال على وضع الخطة أو الحبكة الأساسية التي يتم في إطارها اختيار العناصر العلمية وترتيبها وعرضها وتصورالنتائج التي قد تترتب عليها.

تفاؤل الفجوة بين الواقع والخيال

فالعناصر الخيالية تتراجع وتنكمش في الكتابات الحديثة أمام الحقائق العلمية، مما يعني تضاؤل الفجوة بين العالم الواقعي الحقيقي وعالم الخيال, وإن كان ذلك يفرض تحديات جديدة على كتّاب الخيال العلمي، تتمثل في أبسط مظاهرها في ضروة الإلمام بقدر كاف بالاكتشافات العلمية وأبعادها المختلفة ووظائفها في الحياة، مع معرفة التفاصيل الدقيقة الخاصة بطريقة عمل تلك الاكتشافات ومجال استخدامها والآثار التي سوف تترتب عليها. فكاتب الخيال العلمي في الوقت الحالي كاتب شبه متخصص في العلم إلى جانب قدرته على الإبداع الخيالي. وقد تحولت العلاقة القديمة بين العلم والخيال إلى عكس ماكانت عليه. فبعد أن كان عنصر الخيال هو الغالب والأكثر وضوحا في أعمال «الخيال العلمي» انقلب الوضع إلى النقيض تماما واحتلت الحقائق العلمية مكان الصدارة، وتحول الخيال إلى نوع من التفكير النظري الذي يرتكز على تلك الحقائق.

وكثير من كتابات الخيال العلمي الآن تحمل قدرا هائلا من المعلومات العلمية الوثيقة التي قد يكون القارئ غافلا عنها أو عن بعض مقتضياتها ونتائجها. فالقصص والروايات التي تدور حول إمكانات امتداد فترة حياة الفرد إلى عقود كثيرة مثلا تعتمد أساساعلى المعرفة الوثيقة بالبيولوجيا وعلوم الحياة، والوسائل الطبية الكفيلة بالمحافظة على أنسجة الجسم وما إلى ذلك, أى أن التفكير في الموضوع تفكير علمي في أساسه ويمكن أن تكون له تطبيقات تجريبية. وقد سبق أن تعرضنا في أكثر من مقال في هذا الباب (مستقبليات) لتجربة العالم الإيراني الأمريكي اصفندياري في هذا المجال، وظهور مؤسسات متخصصة في العمل على الاحتفاظ بالجسد بعد حالة الوفاة توطئة، لبث الحياة فيه من جديد. فعناصر العمل العلمي الخيالى مستمدة الآن - في الأغلب - من العلم ومن الواقع العياني وليس من التأمل النظري أو من الخيال غير المحكوم.

حول الحياة الأبدية

وعلى ذلك فإن استمرار الكتابات في مجال الخيال العلمي رهن - إلى حد كبير - بمعرفة الكتاب قوانين العلم وتفاصيل الإنجازات العلمية ومتابعة ماتحرزه العلوم البيولوجية وارتياد الفضاء وغيرها من تقدم والنتائج التي سوف تترتب على تحقيق تلك التوقعات. فإحدى المشكلات التي يتعرض لها بطريق مباشر أو غير مباشر كتّاب الروايات حول الحياة الأبدية للإنسان على سبيل المثال هي ماذا ستكون عليه صورة العالم إذا امتدت حياة البشر إلى مالانهاية، وأمكن التحكم في ظاهرة الموت؟ أو ماذا سيكون عليه الوضع إذا شاع استخدام الروبوتات في الحياة اليومية, وأمكنها أن تحل محل الإنسان في تسيير أمور الحياة؟ وهكذا. ففي مثل هذه الأحوال كما يحدث الآن بالفعل يقوم الخيال على أسس من الحقائق العلمية التي تعطي العمل الإبداعى بعدا واقعيا يضفي عليه كثيرا من المصداقية. فالعلم هو الذي يوجّه الخيال الآن بل ويتحكم فيه ويرسم له الطرق والمجالات التي يستطيع أن يرتادها دون أن يتعارض أو يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة. بل إن الأمر لم يعد يحتاج في كثير من الأحيان إلى الاعتماد على الخيال الإبداعي البحت في تصور ماسوف يكون عليه المستقبل في بعض المجالات التي تشهد تغيرات متلاحقة ومفاجئة، تجعل كتّاب الخيال العلمي يلهثون وراءها للإحاطة بها وفهم أبعادها، وكيف يمكن تسخيرها في إبداعاتهم (الخيالية)؟ وهذا ماتحققه الآن بالفعل وكالة مثل ناسا NASA التي ترسم الخطط العلمية وليس التصورات الخيالية أو الفانتازيا, ثم تعمل على تحقيقها من خلال التجارب الواعية. كما أن قصص رحلات الفضاء التي كانت تبدعها مخيلة جول فيرن أو إتش. جى. ولز الخلاقة حل محلها خطط علمية مدروسة ومحسوبة بدقة وعناية، دون إغفال كامل للتأمل والتفكير النظري والخيال المحكوم. وقد أشرنا من قبل إلى مقولة أينشتاين الشهيرة عن دور الخيال في حياة الإنسان.

التاريخ المستقبلي

فكتابات الخيال العلمي لم تعد مقصورة على تخيل إمكان قيام عالم جديد له مواصفات معينة مستمدة من رغبات الكاتب في تحقيق عالم أفضل مثالي والوسائل والأساليب والتكنولوجيات الكفيلة بتحقيق هذه التصورات النابعة من الأمل في وجود ظروف أفضل وأيسر، وإنما امتدت هذه الكتابات الآن إلى التعبير والكشف عن الآثار الاجتماعية والتكنولوجية التي سوف تترتب على هذه المنجزات على حياة الفرد وتصور قيام حياة ذات شروط أفضل. أي أن هناك الآن ميلا واضحا في معظم هذه الكتابات لوضع تصور لإطار يتحرك فيه المجتمع في المستقبل، وهو مايشار إليه في بعض الكتابات تحت اسم التاريخ المستقبلي Future History الذي قد يمتد إلى أحقاب طويلة، مع اتساع النظرة لتشمل العوالم والكواكب الأخرى وما تتعرض له تلك العوالم من تغيرات ومشكلات تنعكس بالضرورة على سكان هذا الكوكب، وهذا كله يستند إلى المعرفة الواقعية بالوضع الإنساني والنتائج المنطقية التي تنشأ عن ذلك الوضع.

والواقع أن هذه الأمور كلها سبق أن انتبه إليها منذ وقت طويل عدد من كبار الكتاب في العصر الذهبي للخيال العلمي. فإيزاك آزيموف Isaac Asimov الذي ربما كان أشهر هؤلاء الكتّاب بالنسبة للقارئ العربي يصف في كتابه الخيال العلمي الحديث Modern Science Fiction الذي صدر عام 1953 الخيال العلمي بأنه فرع من فروع الأدب يدور حول تأثير ووطأة التقدم العلمي على حياة الإنسان. ومنذ ذلك الحين استمر نمو وتقدم وتطور الأفكار التي تستند وترتكز على الحقائق العلمية، وإن لم تقتصر كلها على هذا النطاق الذي يتطلب على أي حال توافر إعداد خاص، ليس ميسورا لكل من يتعرض للكتابة في هذا الفرع الواسع المتشعب, وإن كان هذا لايعنى تخصص الكاتب في أي فرع من الفروع العلمية بالذات، لأن أدب الخيال العلمي - وشأنه في ذلك شأن كل أنواع الأدب الأخرى - يعنى في آخر الأمر بالشأن الإنساني من منظور معين، قد يكون جديدا وغريبا وغير مألوف ولكنه يدور في آخر الأمر حول الإنسان.

أزمة حقيقية

وتساعد ثورة المعلومات والتقدم في تكنولوجيا الاتصال كتّاب الخيال العلمي في الوقت الحالي على ارتياد مختلف مجالات العلم, وتوفر لهم المادة العلمية الدقيقة التي يحتاجون إليها من خلال الإنترنت وتبادل المعلومات بين المهتمين بالكتابة في هذا الضرب من الأدب. ومع ذلك فإنه يبدو أن كتابات الخيال العلمي التي تخاطب العقل وتثير التفكير وتستمد عناصرها من نتائج البحوث والتجارب العلمية الدقيقة وتهتم في آخر الأمر بالوضع الإنساني تواجه أزمة حقيقية من جراء النجاحات الهائلة التي تحققها كتابات «الحركة» و«الفعل» أو (الآكشن) - وهو التعبير الذي وجد طريقه إلى اللغة العربية وبخاصة في المجال السينمائي، وكذلك الأعمال التي تعتمد تحت مسمى الخيال العلمي- باستعراض الأمور الخارقة التي تفوق قدرات البشر أو اللجوء إلى أعمال السحر والخرافة التي تحدث في ثقافات أخرى وما إلى ذلك من الأمور التي تندرج تحت ما يطلق عليه أحيانا لفظ Cyberpunk ولذلك يشغل الكثيرون أنفسهم بإيجاد الحلول للخروج من هذا الوضع -المأزق الخطير - ولم تعد الجامعات تقنع في ذلك بتدريس أدب الخيال العلمي، بل إن بعض هذه الجامعات والمعاهد العليا - في الولايات المتحدة بالذات - بدأت تهتم بتدريس أساليب وطرق ومتطلبات وشروط الكتابة في هذا الفرع، وامتد الاهتمام إلى تدريب تلاميذ المدارس الثانوية على ممارسة الكتابة والتأليف فيه. فهل تنجح هذه الجهود في الإبقاء على ذلك الفرع من التفكير العلمي الإبداعي الراقي؟.

 

 

أحمد أبوزيد