روّاد ورائدات في فضاء الإنترنت (الجزء الثاني)

روّاد ورائدات في فضاء الإنترنت (الجزء الثاني)

تناولنا في هذه الزاوية، العدد الماضي، عددا من أبرز رواد مجال الإنترنت والحاسب الآلي الذين كان لهم الفضل في التوصل لفكرة شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) كما نعرفها اليوم، والذين تراكمت تجاربهم وخبراتهم، واحدا بعد الآخر، وجيلا بعد جيل في دلالة مهمة على فكرة أهمية تراكم البحث العلمي، وتواصله بين الأجيال المختلفة. هنا نتابع رصد بعض أبرز رواد المجال في العقود الثلاثة الأخيرة الذين اقتربوا من فكرة الإنترنت بشكل عملي حتى استطاعوا أن يحولوا أحلام جيل الرواد في هذا المجال إلى حقيقة واقعة، تشهد عليها اليوم عشرات الملايين من أجهزة الحواسب الآلية التي يستخدمها البشر في أرجاء العالم، بتطوير الاستفادة من الحواسب الآلية من كونها مجرد آلات تقوم بإجراء الحسابات والمعادلات الرياضية بسرعات غير اعتيادية، لكي تصبح أداة للاتصال وتوفير المعلومات، المخزنة في العديد من الوسائط الافتراضية والمواقع الإلكترونية، ليستفيد منها العالم اليوم في كل مكان بشكل غير مسبوق، بل أصبحت الشبكة اليوم بمنزلة شبكة اتصال هائلة تربط الأفراد والمؤسسات والحكومات ببعضها البعض، بشكل لم تعرفه البشرية من قبل. واليوم وبعد أن تحقق الحلم على الأرض بدأت وكالة ناسا الفضائية الأمريكية في تحقيق حلم آخر بأن يكون الإنترنت له وجوده في الفضاء الخارجي، وهكذا العلم لدى العلماء الحقيقيين، لا يهدأ حتى يحول الأحلام إلى حقائق.

بوب ميتكالف
حلول لأزمة تراكم البيانات

يعتبر بوب ميتكالف Bob Metcalfe أحد الوجوه البارزة، الذين حققوا شعبية وشهرة كبيرتين، خلال الثمانينيات بين المتخصصين في هذا المجال، وفي أقسام دراسة الحاسب الآلي والبرمجة في الجامعات الأمريكية المختلفة.

كما أنه يعد واحدا من أشهر من اختلفوا مع جامعة هارفارد التي درس بها وتخرج فيها، خصوصا بعد أن فشل في أولى محاولاته الحصول على رسالة الدكتوراه التي أعدها حول موضوع «شبكة أربانت» الشهيرة، ودورها التقني في تأسيس فكرة شبكات المعلومات، إلا أن هارفارد رفضت الرسالة، وعلق المشرفون عليها بالقول بأنها «تفتقر للجانب النظري بالقدر اللازم». وهو ما أثار غضبه كثيرا آنذاك على الجامعة التي كان قد تخرج فيها في الأساس دارسا للهندسة الإلكترونية والإدارة، إضافة لحصوله على رسالة الماجيستير من الجامعة نفسها في مجال التطبيقات الرياضية. في ذلك الوقت عرض عليه أحد مراكز الأبحاث (PARK) أن يعمل لديه آنذاك وأن يؤجل دراسة الدكتوراه، وقد بدأ نجمه يلمع حينما انتدبه المعهد إلى جامعة هاواي، لعلاج إحدى مشكلات الاتصال في أجهزة الحواسب بالجامعة، والخاصة بالشبكة الداخلية للجامعة والتي عرفت باسم Aloha Net.

كانت المشكلة تتمثل في تعارض إرسال البيانات، من جهازين في الوقت نفسه، حيث كانت التقنية المستخدمة تعتمد على البث الهوائي، بطريقة البث المستخدمة نفسها في الإذاعة. وقام ميتكالف بابتكار وسائل بث بترددات مختلفة تسمح دائما بأن ينتظر أحد الترددات قليلا، لفترة وجيزة جدا بثا آخر.

وكانت هذه المشكلة المحورالذي قدم بوب ميتكالف رسالته للدكتوراة بناء عليها حيث عالج في رسالته المشكلات التي تواجه شبكات الحواسب الآلية في وقت بث العديد من البرامج والبيانات من العديد من الأجهزة في وقت واحد بما يشكل عبئا على الشبكة ويعيق عملها لفترة أو يبطئ من حركة البيانات. ولاحقا حين عاد مرة أخرى إلى معهد الأبحاث الذي يعمل به PARK، بدأ في ابتكار تقنية الاعتماد على كابلات التليفون في بث الشبكات الإلكترونية داخليا بدلا من موجات الراديو، وعرف باسم Ethernet، وذلك في العام 1979، وهو ما أتاح لعلوم الإنترنت فرصا كبيرة في تطوير تفاعلها مع بعضها البعض بشكل أكثر كفاءة، وأكثر سرعة.

ونتيجة لهذا الابتكار غير المسبوق أنشأ بوب ميتكالف شركته الخاصة لتسويق ما عرف لاحقا باسم الشبكات المحلية أو LAN s، او Local Area Network التي عدت بمنزلة نقلة كبيرة في مجال توصيل شبكات الإنترنت في وقت لاحق.

دوجلاس إنجلبرت
مخترع فأرة الحواسب الآلية

يعد دوجلاس إنجلبرت Douglas Engelbart واحدا من الرواد الكبار في مجال علوم الحاسب الآلي، بسبب أفكاره الاستباقية التي كانت لافتة في الستينيات، وبينها فكرته السباقة عن تصميم برامج لاستخدام الكمبيوتر في عقد اجتماعات بين أطراف تبعد عنها الجغرافيا عن طريق شبكة اتصال على الحاسب الآلي، On Line Conferences ، بالإضافة لإسهامه المهم في تصميم الفأرة Mouse، لتسهيل التعامل مع أجهزة الكمبيوتر، والتي ابتكرها في نهاية الستينيات، لكنها لم تستخدم تجاريا إلا في مطلع الثمانينيات.

ولد في أوريجون Oregon، بالولايات المتحدة في العام 1925، والتحق في العام 1942 بجامعة أوريجون لدراسة الهندسة، حيث تخصص في الهندسة الكهربية، وتعطلت دراسته بسبب الحرب العالمية الثانية؛ حيث كان قد تطوع بالقوات البحرية وسافر للفلبين لمدة عامين في إحدى محطات الرادار الأمريكية هناك، وخلال تلك الفترة قرأ كتاب الرائد فانيفار بوشVanivar Bush المعروف باسم As We May Think ، وقد ألهمه هذا الكتاب كثيرا، استكمل دراسته بعد عودته، وحصل على إجازته في العام 1948، والتحق بالعمل في ناسا في العام اللاحق. ومنذ قرأ كتاب بوش، استولت عليه فكرة كيفية أن يحقق بعمله ما يفيد البشرية من أجهزة الحواسب الآلية، خصوصا في عالم كان يتجه للتعقد يوما بعد آخر، وتحت هذا اللون من التفكير انجز رسالة الدكتوراه في عام 1955، والتحق ليعمل في جامعة بريكلي أستاذا مساعدا في قسم الهندسة الكهربية. ولكن طموحاته كانت تتزايد في مجال البحث، فتوقف عن التدريس، والتحق بمعهد ستانفورد للأبحاث كباحث في مجال علوم الكمبيوتر. وكتب في الستينيات بحثا نظريا بعنوان Augmenting Human Intellect: A Conceptual Framework، أو «تطوير العقل البشري: إطار مفاهيمي» تناول فيه مختلف الأفكار المتعلقة بتصوراته حول كيفية استخدام الحواسب الآلية في تطوير جميع مجالات الحياة وخصوصا بالنسبة للمصممين، والعلماء، والباحثين، والتوصل لحلول سريعة في شتى التعقيدات والصعوبات الأكاديمية، وغيرها من مناحي الحياة.

في عام 1963 أقام معهدا للأبحاث خاصاً به، وعمل بين الستينيات والسبعينيات على فكرة إقامة مؤتمرات حية عبر الفيديو والبث المباشر باستخدام الكمبيوتر، وأقام أول اجتماع عبر هذا الوسيط الجديد، والذي شارك فيه جمع من المتخصصين، بحيث تجمعوا في مقرين يبعد كل منهما عن الآخر حوالي 50 كيلومترا.

وابتكر نظاما يقوم على الاتصال الشبكي بين أجهزة كمبيوتر مختلفة (NLO) في تلك الفترة، ولتسهيل استخدامه ابتكر الفأرة أيضا، وهي الإنجازات التي كان ينظر إليها بدهشة شديدة في تلك الفترة في أواخر الستينيات. واستمر في مجاله البحثي طويلا وصولا للألفية الجديدة.

فينتون سيرف
الأب الفعلي للإنترنت

يعرف فينتون سيرف (اسم شهرته فينت سيرف) بأنه واحد من الذين أسهموا في بناء شبكة «أربانت» ARPANET، الأمريكية التي كان لها دور كبير في جميع الأبحاث الخاصة بتطوير فكرة الشبكات الداخلية عبر أجهزة الحواسب الآلية، وأحد الذين تعاملوا مع الجهاز الأول للحاسبات الذي صممته IBM، ولاحقا كان له دور أساسي في تنفيذ بروتوكول تعاون بين عدد من الشركات التي أنشأت شبكات اتصال داخلية، بحيث تمكن من توسيع اتصال هذه الشبكات وعمل شبكة خارجية تتصل بها كل تلك الشبكات الداخلية، وهو ما أسهم في منحه لقب «أبو الإنترنت».

نشأ فينت سيرف في لوس أنجلوس، ودرس الرياضيات في جامعة ستانفورد، لكنه أبدى ولعا بدراسة علوم الحاسب الآلي، ونبغ فيها، بل إنه قررأن يعاود الدراسة مرة أخرى لمزيد من التخصص في العام 1965، بعد التحاقه بإحدى شركات الكمبيوتر كمهندس متخصص في البرمجة، واستطاع أن ينجز رسالة الدكتوراه في موضوع كان قد بدأ العمل عليه خلال عمله في «أربانت» وهو ابتكار لجهاز حاسب آلي عرف باسمSnuper Computer.

وبسبب هذا الابتكار أبدى سيرف اهتماما أكبر بفكرة الشبكات الافتراضية وكيفية تحقيق الاتصال بينها على أوسع نطاق ممكن، وكان أحد قادة «فريق الشبكات»، وهو فريق تكون من أربع جامعات، بينها جامعة ستانفورد التي تخرج فيها، من المتخصصين في مجال دراسات شبكات الإنترنت، عملوا لفترة طويلة على ابتكار شبكات داخلية وقاموا بمحاولة عمل اتصال فيما بينها، ومحاولة حل المشكلات التي كانت تعترضهم وتبادل الخبرات.

لكنه كان قد بدأ يشعر أن النتائج تأخرت وفقا لطريقة البحث، وهو ما جعله ينادي بنظام عام للبحث، وتعرف لاحقا على بوب كين Bob Kahn، الذي مثل معه فريقا بحثيا طرح سؤالا مهما عن كيفية التوصل إلى طريقة تؤدي إلى ربط شبكات عديدة حتى مع اختلاف الطريقة التي تبث بها كل شبكة من شبكات الكمبيوتر. بمعنى آخر كيف يمكن اتصال جهاز يبث عن طريق القمر الصناعي مع جهاز آخر يبث عبر موجات الراديو، وثالث متصل بكابلات التليفون؟ وقد كان هذا السؤال هو الدافع الرئيسي لأول خطوة باتجاه أول ابتكار حقيقي لفكرة شبكة الإنترنت كما نعرفها اليوم.

استغرق العمل لتحقيق كل هذا التطور منذ العام 1973، وصولا لعام 1978، وكانت حصيلته أن أطلق اسم «أبو الإنترنت» على فينت سيرف. عمل نائبا لمدير شركة «جوجل» الشهيرة. واليوم انضم سيرف إلى وكالة ناسا الفضائية للعمل على مشروع إطلاق شبكة إنترنت في الفضاء الخارجي، وهو المشروع الذي يعمل عليه اليوم فريق كبير من المتخصصين وبينهم أبو الإنترنت على الأرض، وربما قريبا يصبح أبو الإنترنت في الفضاء الخارجي أيضا.

تيد نيلسون
نظرية النص الافتراضي التشعبي Hyper Text

يعد تيد نيلسون واحدا من أكثر العاملين في مجال علوم الكمبيوتر إثارة للجدل، فعلى مدى ثلاثين عاما أو ما يزيد طرح عشرات الأفكار والابتكارات في هذا المجال، لكن أيا منها لم يتجسد في شكل مشروع حقيقي قابل للتنفيذ، بالإضافة لما عرف عنه من أفكار وسمته بالغرابة في تطرفه للانحياز ضد السائد من الأعراف والتقاليد والسلطات السائدة في المجتمع الأمريكي.

لكنه استطاع أن ينجز إنجازين مهمين: الأول عرف باسم «زانادو» Xanadou، وهو مشروع مكتبة إلكترونية يتم تحميلها على شبكة معلومات بحيث تتسع لكل ما صدر في العالم من كتب. أما الإنجاز التالي فهو صياغته لمصطلح النص التفاعلي أو التشعبي، Hyper Text، وقد اصطلح هذا المصطلح على النصوص التي تتفاعل فيها النصوص المكتوبة مع الصور، وتحيل على روابط إلكترونية أخرى.

ولد تيد نيلسون في نيويورك وكان والده مخرجا سينمائيا وأمه ممثلة في مجال السينما أيضا، مما جعله يعيش طفولة قضى أغلبها معزولا، حيث تولى جده وجدته رعايته، وهو ما جعله ينزع للتفكير بطريقة غريبة عن المجتمع والحياة.

التحق تيد بكلية سوارثمور التي حصل منها على شهادته الجامعية في الفلسفة، ثم التحق في العام 1960 بجامعة هارفارد، ليدرس علوم الكمبيوتر، وحاول خلال السنة الأولى له في الدراسة بهارفارد تصميم برنامج يماثل ما نعرفه اليوم باسم Word، المتخصص في الكتابة، ولكن بشكل أكثر بدائية, ولم ينجز التصميم في ذلك العام، لكنه ومنذ انتهاء ذلك الفصل الدراسي عكف على تطوير التصميم، وهو ما قاد في العام 1965 لصياغة تطبيقات ومصطلح النص التشعبي. تحولت لنظرية من أساسيات نظريات علوم الحاسب الآلي.

وفي العام 1967 صمم برنامج «زانادو» كأول برنامج لمكتبة إلكترونية تهتم بتخزين الأدب العالمي والإنتاج المعرفي في العالم في وسيط افتراضي، واعتمد في تصميمه بشكل كبير على الأفكار الأولية التي أنتجها فيرنارد بوش في هذا المجال.

ولم ينجح في إنهاء التصميم بشكل متكامل، ولكن أنجزه لاحقا تيم بيرنز لي.

تيم بيرنرز لي
شبكة باتساع العالم!

نحن جميعا نستخدم ثلاثة حروف كبداية لأي موقع إلكتروني نرغب في تصفحه على شبكة الإنترنت وهي «www»، لكننا لا نعرف ما ترمز إليه ولا مدلولها، والحقيقة أن هذه الحروف الثلاثة ترتبط بشكل وثيق باسم البريطاني تيم بيرنرز لي Tim Berners Lee، وهي اختصار لكلمة شبكة باتساع العالم أو شبكة عالمية أو World Wide Web، والتي يعود انتشارها على النحو الذي نعرفه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بينما بدأت فعليا على يد تيم بيرنز لي منذ العام 1980.

ففي ذلك الوقت كان لي قد أنهى دراسته في جامعة أوكسفورد ببريطانيا، والتحق بالعمل في مركز سيرنCERN، (مختبر الفيزياء الشهير في جنيف بسويسرا)، كخبير في البرمجة، ومن أجل تيسير عمله، حيث إن المختبر يتعامل مع باحثين من جميع أنحاء العالم، أنشأ برنامجا بعنوان «ذاكرة بديلة» لكي يتمكن من توفير أكبر عدد من البيانات والاتصال بالباحثين بأيسر شكل ممكن. وأنهى لي عمله في سيرن، وغادر، ثم عاد مرة أخرى في العام 1984، في منصب أعلى هذه المرة، حيث كان قد استطاع تطوير برنامجه الذي أنشأه قبل سنوات، بحيث حوله إلى شبكة عالمية بإمكانها أن توفر الاتصال بين أي جهاز حاسب آلي في أرجاء العالم، وبحيث يتيح لأي مستخدم للجهاز أن يحصل على المعلومات المتوافرة والمخزنة في تلك الأجهزة.

لكن العمل على تحقيق ذلك بأمثل شكل ممكن اقتضى جهدا كبيرا من لي، واستطاع أن يحققه بالفعل مع نهاية الثمانينيات ومطلع عام 1990، حيث كانت المشكلة التي تواجه المتعاملين مع CERN، على سبيل المثال هي، أنه إذا كان من يتعامل مع البيانات الخاصة بها من خلال أجهزة مبرمجة ببرامج مختلفة عن تلك المستخدمة في المختبر العالمي كان من الصعب عليهم توفير تلك البيانات.

وعكف تيم بيرنرز لي على ابتكار برنامج بسيط يتم تعميمه واستخدامه في أرجاء العالم، فصمم بروتوكول تحويل البيانات التشعبية Hyper text الذي أصبح يستخدم في جميع أجهزة الكمبيوتر لاحقا والمعروف باسم HTTP، ومع نهاية العام نجح في تصميم معرف للعناوين الإلكترونية Universal Resource Identifier URI، وفي العام نفسه نجح في وضع أول عنوان إلكتروني عرفه العالم في صيغته الجديدة التي تسمح لأي شخص في العالم الدخول للموقع الإلكتروني وتصفحه وهو عنوان البيانات الخاصة بالمختبر السويسري العالمي، وكان ذلك العنوان هو info.cern.ch ، وبذلك تحققت انتقالة عالمية كبرى في مجال البرمجة والحاسبات الآلية وشبكة المعلومات.

 

 

إبراهيم فرغلي




 





 





 





بوب ميتكالف





دوجلاس إنجلبرت





فينتون سيرف





تيد نيلسون





تيم بيرنرز لي