يبدو للبعض أن
الدراسات المستقبلية هي رجم بالغيب، ويعتقد البعض الآخر بدقة هذه الدراسات التي
قامت على أسس علمية. ولقد شدني إلى كتاب "روسيا سنة 2010" اسم أحد مؤلفيه، فقد قام
بتأليفه دانيل برجن وثان جوستافسون، والأول كتب كتابا شهيرا هو (الجائزة) الذي تحدث
فيه عن نشوء وتطـور صنـاعة النفط. وبرغم أن الكتب في هذا المجـال الأخير كثيرة، إلا
أن كتابه قد حصل على أوسع شهرة بسبب كثافة المعلومات فيه ودقته ويسر كتابته، لذلك
عندما وجدت أن الكتاب الذي نحن بصدده عن روسيـا سنة 2010 قد اشترك في تأليفه هذا
الكاتب، تيقنت أنه قد يكون كتابا جيدا، ولم يخب يقيني.
دراسة المستقبل
دراسة ليست هينة أو يسيرة، وفيها من الخيال بقـدر ما فيها من العلم، لذلك يقول
المؤلفـان إنه ليس هناك إجابات صحيحـة لأسئلة تتعلق بالمستقبل، بل هناك طـرق للبحث
عن إجابات صحيحة، وهو ما يتبناه المؤلفان في هذا الكتاب.
ومن المهم القول
إن البحث عن مستقبـل روسيا جاء بمبـادرة من شركات نفط غربيـة كبرى، فهذه الشركـات
والمصـالح الاقتصـاديـة الكبـيرة لم تعد صاحبـة رأس مال تريد توظيفه من أجل مردود
سريع، بل أصبحت تبحث في قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية خاصة بهذه المنطقة أو تلك
وتضع تصورات لمستقبلها على المدى المتـوسط والطـويل قبل أن تقـرر وضع استثماراتها
هنا أو هناك.
المفاجأة في
التاريخ
بعد أن تقدمت
السـن برئيس الوزراء البريطاني الأسبق انتوني ايدن (كان رئيس وزراء بريطانيـا في
الخمسينيات) وضع كتابا يحوي تجربته السيـاسية، فنظر إلى فشل الشعوب في توقع الأزمات
في القرن العشرين على أنها ظاهرة كلاسيكية، وكتب يقول: "من المستحيل أن نقرأ تاريخ
ما حدث في القرن العشرين ولا نخرج برأي أنه كان هناك دائما مسئولون يتخذون القرارات
بخطوة واحدة متأخرة.. وكانت هذه الخطوة المتأخرة دائما، هي الخطوة القاتلة". معنى
هذا الكلام أن الحوادث الكبرى (تفاجئ) السياسيين والمسئولين، في الوقت الذي لو
دققنا النظر في مقدماتها لوجدنا أن احتمال توقعها كان ظاهرا للعيان ولكننا (اخترنا)
عن قصد أو دون قصد أن نتعامى عنها!
سقوط الاتحاد
السوفييتي وبناء روسيا الحديثة سوف يصبح مثالا للمفاجأة في التاريخ، يقول المؤلفان:
وكثيرا ما تأتي الأحداث الضخمة في التاريخ كمفاجأة. في ربيع 1914 كانت أوربا تبدو
أقرب إلى حالة السلام منها إلى الحرب في أية سنة سابقة. وكانت وحدات الأسطول
البريطاني تقوم بزيارات مجاملة للموانئ الألمانية، ومع ذلك في أغسطس 1914 وفي أقل
من ستة أسابيع من اغتيال الأمير النمساوي "فيردناند" في سراييفو قامت الحرب العظمى
الأولى، وكان أن قتل ثلاثة عشر مليون إنسان ودمرت مدن وتغيرت حدود دولية وسقطت
إمبراطوريات قبل أن تتوقف تلك الحرب.
الهجوم على ميناء
بيرل هاربر الأمريكي الذي أدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية كان أكبر
صدمة ومفاجأة في التاريخ الأمريكي الحديث، فقد كان مفاجأة كاملة لمتخذي القرار في
واشنطن وقلب الرأي العام الأمريكي رأسا على عقب. وفي سبتمبر 1973 صرح رئيس الوزراء
الياباني بأن أزمة عالمية في الطاقة لن تحدث إلا بعد عشر سنوات، ولكنها حدثت بعد
عشرة أيام فقط من ذلك التصريح. فقيام حرب غير متوقعة- أكدت إسرائيل لكل أصدقائها
أنها لن تقوم- وهي- حرب أكتوبر 1973 أدى إلى ازدياد أسعار النفط بعدها مباشرة.
وسقوط الشاه سنة 1979 كان مفاجأة كبرى- على الأقل لمعظم المراقبين الغربيين- فقبلها
ببضعة أشهر شرب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر نخب راحة السلام (طهران) في
الشرق الأوسط في منطقة هي الأكثر اضطرابا في العالم! وبعدها ببضعة أشهر فقط سقط
نظام الشاه وجاء بديل له يناقضه في كل السياسات. وسقوط الشاه نفسه، غير المتوقع،
شجع الاتحاد السوفييتي وقتهـا على الدخول النشط في افغانستان، الأمر الذي تبين أنه
كان كارثة على الاتحاد السوفييتي نفسه بعد ذلك بسنوات قلائل، في نهاية القرن
العشرين - يقول الكاتبان- سوف نحاول ألا نكون متأخرين خطوة حتى لا تفاجئنا الحوادث
ونحن غير جاهزين ولا ملمين بالأحداث، لذلك فإن محاولة توقع مسار دولة كبرى كروسيا
لا يهم الروس وحدهم ولا الشعوب المحيطة بهم فقط، بل يهم العالم أجمع. وأضيف: ويهمنا
نحن العرب ومن يعيش معنا في الشرق الأوسط الذي امتد مفهومه ليصل إلى قلب آسيا
والجمهوريات الإسلامية في منظومة الاتحاد السوفييتي السابق.
ولأن ما سوف
يحدث، أو لا يحدث، في روسيا له أهمية بالغة بالنسبة لنا نحن العرب، فعلينا بقراءة
الكتاب - الذي بين أيدينا- قراءة دقيقة.
محدودية
التوقع
كيف يمكن لنا أن
نتصور روسيا سنة 2010، كيف ستكون روسيا والعالم آنذاك؟ كما يحدث دائما في زمن
التغير العظيم والكبير فإن الحوادث السريعة والمتلاحقة تفقدنا القدرة عن فهمها
الفهم الصحيح وعلى فهم أنفسنا تجاههـا. في مثل هذه الأوقات- يقترح الكتاب- هناك
مطلبان اثنان للتفكير الواضح: الأول هو التخيل، والثاني هو الانضباط. ويبدو للوهلة
الأولى أن هذين المطلبين متناقضان، إلا أنهما متكاملان، فإطلاق العنان للتخيل عملية
مهمة، كما أن الانضباط العلمي يكمل العملية الأولى ويحدد مسارها. هذان الشرطان
يسميهما الكتاب: شروط وضع سيناريو دقيق لما يراد منا أن نعرفه في
المستقبل.
يقول الكاتبان
إنه ليس لديهما الرغبة ولا القدرة على تقديم تفسير واحد لما سوف يكون عليه مستقبل
روسيا، حيث يجب وضع خيارات متدرجة بأي ثمن، لأنها سوف تغلق الباب أمام التفكير
الخلاق. وعلى العكس من ذلك فطموح الكتاب أن يحدد مجموعة من القناعات جديرة
بالتصديق، جميعها يمكن أن يكون إطارا لتنظيم المعلومات المتدفقة والكثيفة القادمة
من وقائع الثورة الروسية الثانية، وعلى العكس من الموقف الغربي الماضي القائل بأنه
لا توجد أخبار جديدة من موسكو، فإن هناك الكثير الجديد القادم من هناك.
اختيار سنة 2010
لم يكن اعتباطا، فعند ذلك التاريخ تكون قد مرت خمس وعشرون سنة منذ تسلم ميخائيل
جورباتشوف للسلطة، والذي بدأ مجموعة من العمليات أدت في نهايتها للوصول إلى الثورة
الروسية- الثانية- كما يسميها الكتاب (ولا بد هنا من فتح قوس والقول إننا في
"العربي" قد نبهنا إلى الاحتمالات الكبيرة للتغير في الاتحاد السوفييتي وقتها وبعد
ثلاثة أعوام من قدوم جورباتشوف إلى السلطة). في سنة 2010 تكون التأثيرات من الفترة
الانتقالية قد مرت والكثير من عدم اليقين قد تغير، وقتها سيكون في السلطة جيل آخر
غير جيل التغيير والذي هو الآن في نهاية عمره السياسي.
في سنة 1950 كتب
جورج كيفن- أحد رواد الكتابات الأولى حول الاتحاد السوفييتي وقتها يقول: "نحن
نتعامل مع مادة غير صلبة وغير متوازنة" وإذا كـان ذلك تشخيصـا صحيحـا في الماضي عن
الاتحاد السوفييتي، فـإنـه لا يـزال غير بعيد عن الـدقـة في حـالـة روسيا الحالية،
لذلك لا بد من رسم خريطة عقلية لهذه المادة غـير الصلبة وغير المتوازنة، فهدف كتاب
روسيا سنة 2010 هو وضع إطار (للامتوازن) ورسم احتمالات توجه الثورة الروسية الجديدة
في الداخل وتأثـيرها في العالم، وللخروج من مصيدة التفسيرات الأحادية والبسيطة
والاستقطاب الحاد مع أو ضد. ولفتح آفاق الأذهان لأفكار مغايرة وجديدة، فلا بد من
رسم أكثر من سيناريو يحتمل أن تتحرك روسيا فيه، لذلك فإن الكتاب وإن مال للتفاؤل
فإنه لا يتجاوز احتمال التشاؤم أيضا.
روسيا على مفترق
الطرق
ينتهي القرن
العشرون بثورة أخرى في روسيا، بالضبط كما بدأ سنة 1905 بالثورة التي سميت "ثورة
الخبز"، فالأرض التي تسمى روسيا والتي تربط آسيا بأوربا بالشرق الأوسط، اهتزت بعد
هزيمة أسطولها من اليابان وفجرت هذه الهزيمة ما يكمن داخلها من متناقضات ولكن ثورة
1905 لم تنجح، ونجحت ثورة سنة 1917 عندما هاجمت جموع الثوار القصر الشتوي في
بطرسبورج، واستولى بعدها البلاشفة على الحكم، وفي العقود السبعة اللاحقة التي حرمت
روسيـا منها من السوق الحرة والديمقراطيـة في آن وضع الروس (البلاشفـة) أنفسهم
والعالم أمام تجربة في التسلط والتخطيط المركزي تحت شعارات إنسانية براقة من
العدالة والتوزيع العادل ومجابهة العسف، وبدا للكثيرين أن هذا هو المسار الطبيعي
للتاريخ، وفي التسعينيات عادت روسيا لنفس المكان في تقاطع الطرق الذي وقفت فيه سنة
1917. خيار روسيا وقتها فعل الكثير لتحديد الصراعات الدولية والإقليمية والداخلية
في مناطق عـديدة من العالم، وطبع شخصية القرن العشرين بطابع سيذكـره التاريخ. سقوط
الشيوعيـة وانحلال الاتحاد السـوفييتي سيذكره العالم أيضا كأهم تطـور في نهاية
القرن العشرين. لذلك فإن الخيار الذي تختاره روسيا لنفسها اليوم سوف يحدد الكثير من
معالم القرن الواحد والعشرين. من تناقضات التاريخ أن روسيا اليوم ليس لها اليد
المطلقة للخيار، فليست هناك نقـاط بداية ونقاط نهاية في مسيرة الشعوب، تراث
الشيوعية والاتحاد السوفييتي تراث قوي يشد بعض روسيا إلى الماضي، والتوق إلى الجديد
يشد بعض روسيا الآخر إلى التجديد واغتنام الفرص المتـاحـة. المشكلة الأسـاسية أن
روسيا ليست كاليابان أو ألمانيـا- في نهاية الأربعينيات- دولة مهزومة عسكريا تبدأ
من جديـد مع انقطاع نسبي عن تراث الماضي السياسي. فـالمصانع الروسية القديمة لا
تزال قائمة، وعدد محدود من القادة الجدد يدخلون السلطة، والكثير من حكام الأمس ما
زالوا يحكمون اليوم، حتى لـو علقوا على صدورهم شارات مختلفة وادعوا لفظيا أنهم
انفصلـوا عن الماضي. وبرغم أن الأيديولوجية الشيوعية قد ماتت فإن الشعوب التي تمثلت
الاشتراكية خلاصا لها لا تزال حية، وكذلك فإن الأراضي السوفييتية السابقة
(الإمبراطورية) برغم أنها الآن أربع عشرة جمهورية أخرى مستقلة، إلا أنها ما زالت
مرتبطة بعمق ثقافي واقتصادي مع روسيا، والتحدي البالغ الأثر أن على هذه الأطراف-
روسيا والجمهوريات الجديدة - إقامة علاقات جديدة ومختلفة عن الماضي، وهي قضية معقدة
وشائكة. الهزيمة في الحروب- في بعض الأوقات- تمكن الدول والشعوب من دفن الماضي
والبدء من جديد، ولكن هذا الخيار ليس متاحا لروسيا ولا لمنطق مواطنيها السابقين،
فإن الماضي لا يزال قائما وحيا. ولكن أيضا ليس هناك احتمال جدي للعودة إلى الماضي،
فإن عصب الشعب السوفييتي قد تحلل، وفي الأيديولوجية الشيوعية ومركز قوتها الحزب
الشيوعي، لقد سقطت وتناثرت الأفكار المثالية السابقة. ولكن الأصعب أن تلك الأفكار
المركزية والمستقطبة لم تبدل بأفكار أخرى مستقطبة تضمن ولاء الكثيرين. الفكرة
الجديدة يمكن أن تكون (القومية) والتي يمكن أن تظهر بأشكال مختلفة، والصراع على روح
وشخصية القومية الروسية قد بدأ بالفعل. والسؤال هل يمكن أن تكون النتيجة- مبدئيا-
إيجابية وموحدة والتي يمكن أن تجمع باتساق الماضي والمستقبل الروسي وتمهد الطريق
لتأسيس نظام ديمقراطي، أم أنها ستكون أداة طيعة للمتعصبين القوميين بالشكل السلبي،
مليئة بالغضب والتحدي وجوع مرضي لسلطة دكتاتورية جديدة؟!
الخيار الآخر من
الأفكار يتمثل في الديمقراطية وآليات السوق الحرة، وهما بدرجات مختلفة ولأشخاص روس
مختلفين، أفكار استقطابية جديدة ولكنها مخيفة في نفس الوقت وثمارها تحتاج إلى وقت
طويل لتنضج، كما أنها تبدو للآخرين أفكارا غريبة وأجنبية تشكل غواية أكثر منها غاية
وليس لها مكان في روسيا وليست مناسبة للشعب الروسي.
ما يجب أن يحسب
ضد احتمالات التعصب والتشدد والانفلات هو التشوق الواسع لحياة طبيعية ومتحضرة لدى
غالبية الشعب الروسي بعد التجربة البولشفية المغلقة والسلطوية.
التغيير
الثلاثي
روسيا تواجه جدول
أعمال ضخما وصعبا ومعقدا، فهي تحاول في نفس الوقت إنجاز ثلاثة تغييرات مختلفة،
الأول هو الانتقال من الدكتاتورية إلى الديموقراطية، والثاني من اقتصاد مركزي موجه
إلى اقتصاد يسير بآليات السوق، والثالث من إمبراطورية يمتد تاريخها حوالي أربعة
قرون إلى دولة قومية حديثة. لذلك فإن الاحتمالات المستقبلية واسعة، فهي يمكن أن
تتوجه إلى الديموقراطية وإلى رأسمالية على الطريقة الروسية، أو يمكن أن يستولي على
مقدراتها ائتلاف من (الأحمر والبني) كناية عن التحالف بين الشيوعية والفاشية اللتين
قد تقودان روسيا في المستقبل إلى الدكتاتورية.. البعض يخشى أن تدخل روسيا فترة
اضطراب وفوضى وتغوص في سلسلة من الحروب الإقليمية والعرقية، على شاكلة ما حدث في
جمهورية الشيشان أخيرا أو مع باقي الشعوب الشركسية في شمال القوقاز، أو الجمهوريات
المستقلة حديثا. هذه النظرة السوداوية أصبحت تعرف بـ "السيناريو اليوغسلافي". إلا
أن وضع روسيا يختلف عن وضع يوغسلافيا فالصراع العرقي والعنصري والقومي العميق يسيطر
على أغلبية الجمهوريات الجديدة المحيطة بروسيا الجنوبية والجنوبية الغربية، إلا أن
معظمه خارج روسيا نفسها، فروسيا الاتحادية متجانسة نسبيا يقطن مقاطعاتها المختلفة
ثمانون بالمائة من الروس وهذا أحد العوامل المحسوبة لصالح الاستقرار.
دوليا يمكن أن
تبرز روسيا أن سارت الأمور بشكل إيجابي كدولة عظمى شريكة في عالم أكثر سلاما، ويمكن
أن تكون عكس ذلك أن أحست بالإهانة الناتجة عن فقدان الهوية وانتقاص الاحترام على
هذا الصعيد. كما أن الآلام الاجتماعية والسياسية التي يسببها الانخفاض الشديد في
مستوى المعيشة، والمقاومة النفسية الدفينة لسقوط الاتحاد السوفييتي، هذه العناصر
السلبية يمكن أن تتوجه لإحياء فكر قومي متعصب يدور حول نفسه، يحيي من جديد الأفكار
الإمبراطورية للروس ويعيد النظر في أحداث عقد منصرم.
إن انهيار
الاقتصاد المحمي الذي عرفه الروس لسبعين سنة مضت دون أن يحل مكانه اقتصاد ترى
الأغلبية أنها مستفيدة منه يمكن أن يصدع روسيا، والنتيجة قد تكون فوضى أو حتى حربا
في روسيا نفسها، وهذا بدوره لن يفتح الباب فقط لتدفق المهاجرين بمئات الآلاف إلى
العالم ولكنه سيربك الدول الغربية بطريقة لا يمكن تخيل نتائجها اليوم. الفوضى في
داخل روسيا، وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، تهدد الاستقرار في أوربا
وآسيا والشرق الأوسط، وإذا تذكرنا أنه برغم تلاشي الاتحاد السوفيتي فإن أسلحته
مازالت موجودة، لذلك فإن اضطراب روسيا سوف يزيد من التوالد غير الطبيعي للقوى
النووية، فهناك حوالي ثلاثين ألف سلاح نووي بقي في روسيا الاتحادية، بجانب مخزون
هائل من الأسلحة الكيماوية والتقليدية، وهناك عدة آلاف من الرءوس النووية في
أوكرانيا وكازاخستان، ولا أحد يعرف الآن ما آلت إليه الأمور من حيث درجة الترابط
والقوة في سلسلة القيادة والتحكم، أو ما أصبحت عليه أنظمة الإنذار المبكر التي
تتحكم في إطلاق هذه الأسلحة. كما أن النظام المحاسبي لعدد من هذا المخزون الخطير
غير دقيق، مما ييسر على العديد من الحكومات أو المجموعات الإرهابية الحصول عليها إن
دفعت الثمن المناسب. والسؤال الأهم: ماذا يمكن أن يحصل لهذه الأسلحة إن ضعفت روسيا
أكثر؟!!
لا يستطيع مراقب
يدرس أحوال روسيا اليوم أن يتجاوز حقيقتين هما: أولا بأي مقدار وبأية سرعة حدث
التغير الأخير في روسيا، حيث إن السرعة وحجم المتغيرات غطت على العديد من القضايا
الجوهرية. والحقيقة الثانية أنه بعد سباق خطير وطويل بين القوتين العظميين خاصة
خلال العقود الأربعة الأخيرة انتهت الحرب الباردة دون حرب ساخنة، فاتحة الباب لعالم
أكثر سلاما وأقل مخاطرة. ولكن روسيا لم تصل إلى أول الطريق بعد، واحتمالات النكوص
لا تزال قائمة، كما أنها فرصة ذهبية لروسيا وبقية العالم أن يعم السلام، إلا أن
الصعوبات والمخاطر عظيمة في وقت لا تستطيع الدول الغربية- مع الصعوبات التي
تواجهها- أن تقدم أكثر مما تقدمه الآن لمساعدة روسيا للاتجاه نحو الديموقراطية
والسوق الحرة بأقل قدر من المخاطر الاجتماعية والسياسية.
المسرح
الروسي
لقد انخفض
الإنتاج القومي الروسي منذ سنة 1990 بحوالي 40% وفي نفس الوقت هناك معركة ضارية في
روسيا للفوز بالسلطة والملكية، معركة يشترك فيها الجميع، رجال العهـد الماضي
والمنشقون السابقون، المهاجرون الروس العائدون ورجال المخابرات السابقون. وكبار
موظفي الحكومة يعملون في نفس الوقت في مجالس إدارة الشركات الخاصة الجديدة.
المطرودون من الاتحاد السوفييتي والمهاجرون بسبب عيون البوليس السري عادوا لإدارة
شركات جديدة وتصفية حسابات قديمة، حتى جنرالات الجيش السوفييتي السابقون والذين
قضوا جل حياتهم يعدون أنفسهم للحرب مع الولايات المتحدة والغرب يقومون الآن بتوقيع
الاتفاقيات مع الشركات الأمريكية والغربية. كثيرون من أعضاء القيادة السابقة للحزب
الشيوعي السابق أصبحوا أكثر المتحمسين للرأسمالية، يقومون بإدارة شركات خاصة بعضها
حقيقي وبعضهـا غير ذلك. وليس غريبا أن تجد رجلي الأعمال الروسي يحمل أكثر من بطاقة
تسويق كل واحدة باسم شركة وعمل مختلف. ويبدو أن حمى السوق الحرة قد وصلت إلى كل
شريحة من شرائح الشعب الروسي، فإن كان هناك ثمن يمكن تحصيله فإن البضاعة جاهزة..
أية بضاعة! وعرف العالم شكلا جديدا من الروس لم يكن يعرفهم في السابق.
روسيا لا تزال
تحتفظ بجيش ضخم من حيث العدد لكنه يعاني من ضعف الروح المعنوية وتدهور التجهيز
المادي فيشعر بالإهانة. آلاف الضباط وعائلاتهم الذين عادوا من معسكراتهم في أوربا
الشرقية يعيشون في خيام. بعض الإحصائيات تقول إن هناك مائة وخمسين ألف ضابط روسي
يعيشون بلا مأوى، بعضهم ينتظر خططا وعدت بها ألمانيا الغربية لإنشاء منازل لهم كجزء
من الاتفاق الذي وقع بين روسيا وألمانيا لسحب القوات من ألمانيا الشرقية السابقة.
باختصار مستقبل الجيش الروسي غير واضح حتى لقيادته، وكانت التجربة العملية لمدى
قدرته وفاعليته قد ظهرت في معركة الشيشان الأخيرة حيث بدت القيادة مترددة غير
فاعلة، وصمد المقاومون برغم قلتهم وضعف تسليحهم أمام جنود روسيا الصغار عديمي
الخبرة.
توقعات
المستقبل
هل تستطيع روسيا
خوض المعركة الثلاثية في الاقتصاد والديموقراطية وبناء دولة قومية حديثة كما يريد
لها أبناؤها وغالبية العالم؟. ذاك سؤال تصعب الإجابة عنه بنعم أو لا.
المشكلة في
المفهوم السياسي أن الديموقراطية غير معروفة في معظم تاريخ روسيا الحديث، وعدا
فترات قليلة فإن الدائم والواضح هو شكل من أشكال الدكتاتورية. والمشكلات الاقتصادية
نابعة من استحالة بناء الرأسمالية في يوم، أو سنة أو عقد من السنين، فقد وصلت
الرأسمالية في الغرب إلى ما وصلت إليه بعد تضحيات اجتماعية وسياسية بل وحروب أيضا،
وروسيا غير قادرة أو راغبة فيها الآن. أما المعوقات الأخرى فإنها نابعة من نظام
صناعي متيبس بني لخدمة اقتصاد مركزي، ومن ثقافة تعتقد أنه إجرامي وملوث ومرضي كل ما
يفترض أنه تعامل تجاري عادي في أماكن أخرى من العالم. وهناك معوق مهم آخر هو تلوث
البيئة، فإن سقوط الاتحاد السوفييتي أخرج إلى العلن مساوئ عقود من الإهمال البيئي
بدرجة خطيرة، وسوف يبقى هذا التلوث البيئي طويلا في تاريخ العالم على أنه من أخطر
الجرائم التي ارتكبتها الشيوعية في حق الإنسان. كما أن روسيا الجديدة سوف تجد من
الصعوبة التعامل معه تقنيا وماليا.
لذلك فإن
السيناريو الأول المحتمل لمستقبل روسي هو ما سماه الكتاب (الغوص في الوحل) وهو ذو
شقين، فالفوضى الأمنية تتصاعد والمشكلات الاقتصادية تتفاقم، أمام كل ذلك يمكن أن
يحدث تحالف بين البارونات الحمر والعناصر العسكرية والإداريين الكبار مع قطاع من
الجيش، ويتوجه هذا التحالف إلى إعادة احترام الذات، وتقوية الدولة ومركزيتها على
الاقتصاد. والشق الثاني من هذا السيناريو يقود إلى التوجه المضاد نحو ضعف أكبر في
السيطرة المركزية ويقود إلى ردود فعل ضده تقود إلى دكتاتورية من نوع
جديد.
أما السيناريو
الثاني فيجد فيه الكتاب أسبابا للتفاؤل، فروسيا لديها الكثير من الموارد
الاقتصادية، بجانب ما لديها من طبقة تقنية وفنية متعلمة وخلاقة، ومع عدم التهوين من
المشكلات إلا أن الكتاب لا يعتقد بحتمية تفتت روسيا وانزلاقها في مستوى العالم
الثالث، فهناك قوى ضد هذا التفتت، كما أنه ليس من المحتمل أن ترزح روسيا من جديد
تحت قوة دكتاتورية، كما أنه ليس هناك حتمية أن يقوم صراع بينها وبين الغرب حول
المشكلات الجيوسياسية. بل يعتقد الكاتبان أن هناك معجزة روسية محتملة، ففي سنة 2010
سيكون في روسيا رأسمالية على الطريقة الروسية ونظام سوق مشكل جزئيا من توليد مستمد
من النظام السابق ونظام السوق الغربي.
روسيا
والعالم
أمام هذه
التوقعات المختلفة ينظر الكتاب في علاقة روسيا بالعالم، هل ستكون شريكا متعاونا مع
بقية العالم أم أنها من جديد سوف تتوجه إلى بناء إمبراطورية؟
تاريخ روسيا
الطويل في القرون الأربعة- قبل الهجوم البولشفي على القصر الشتوي سنة 1917- يقول
لنا إنها إمبراطورية، وحتى أثناء حكم السوفييت والشيوعية فإن نفوذ روسيا كان هو
الدافع للتوسع والتحالف تحت شعارات جديدة، كما أن قوة روسيا العسكرية لن تبقى دون
عمل لفترة طويلة، خاصة إن ساد هذه القوة شعور بالإذلال وخيبة الأمل، ولكن دور روسيا
في العالم لن يعكس رغبتها فقط ولكن قد يتحرك نتيجة لحوادث تقع قريبة منها لدى
الشعوب المجاورة والتي كانت في السابق جزءا من الاتحاد السوفييتي. عدم الاستقرار في
هذه الدول قد يشكل فتيل قلق للأمن الروسي ويدخل روسيا في صراع يمكن أن يمتد خارج
تلك الدول. هذه المشكلة يمكن أن تتفاقم بوجود العنصر الروسي في هذه المناطق، فهناك
خمسة وعشرون مليون روسي وضعوا جذورهم فيهـا لأنها جزء من الاتحاد السوفييتي الواحد
ذي الأيديولوجية الواحدة، والآن هم أغراب أو غير مرغوب في وجودهم لأسباب اقتصادية
وعرقية على أقل تقدير.
الخطر الأكبر أن
يقوم صراع بين روسيا وأوكرانيا، وبسبب نشر السلاح النووي الذي تبناه الاتحاد
السوفييتي السابق، فإن أوكرانيا المستقلة هي ثالث دولة في العالم في ملكية السلاح
النووي بعد الولايات المتحدة وروسيا وهي متقدمة حتى عن بريطانيا وفرنسا والصين،
والطريقة التي تفكك بها الاتحاد السوفييتي تركت مجموعة من المشكلات العالقة عرقية
واقتصادية وجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا، وأية واحدة من هذه المشكلات يمكن أن
تشتعل فيهـا النيران. هـناك أيضا تنافس جيوسياسي بين روسيا وألمانيا على صعيد كسب
النفوذ أو الأسواق، وقد تعود التحالفات أو الصراعات التاريخية بينهما. وفي شمال شرق
آسيا هناك تنافس تقليدي بين روسيا والصين واليابان واحتمال كوريا المتحدة في
المستقبل. وأي توجه مستقبلي تتوجه إليه روسيا يمكن أن يؤثر بالسلب أو الإيجاب على
تلك المشكلات المعلقة.
لقد ظهر توجه في
السنوات الأخيرة خاصة تحت قيادة جورباتشوف ثم يلتسين هو عدم استخدام القوة كوسيلة
سياسية لحل المنازعات الداخلية والخارجية، ولكن هذا التوجه بدأ يخبو في ظل اختراق
القانون داخليا، والاضطرابات السوقية والحركات الانفصالية، وقد تعود روسيا إلى
مسارها القديم باستخدام القوة كإحدى الوسائل لحل النزاع السياسي في فترة الانتقال
الطويلة نسبيا، وسوف نسمع من روسيا إشارات متناقضة في السياسة الخارجية، وكلما زادت
المشكلات الداخلية ألقى الروس اللوم على القوة الخارجية وأصبحت حساسيتهم تجاهها
مليئة بالشكوك، وأية حكومة تتعاون مع الغرب سوف تتهم شعبيا بالتزلف للغرب والدوران
في فلكه. لذلك من المتوقع في هذه الفترة الانتقالية أن تأخذ روسيا بسياسة خارجية
تريد لها أن تظهر الاستقلال بل والتناقض مع المصالح الغربية، حتى ولو من أجل
الاستهلاك المحلي.
روسيا والشرق
الأوسط
ما يهمنا نحن
كعرب أن نرى ماذا سوف تكون عليه السياسة الروسية تجاهنا، فإن كانت روسيا بشكل عام-
كما يتوقع الكتاب- سوف تنسحب من ارتباطاتها في معظم مناطق العالم الثالث، حيث لا
توجد مصالح واضحة، بجانب أن ثمن ذلك الارتباط سيكون مكلفا، فالمكان الوحيد الذي
سيكون استثناء هو الشرق الأوسط حيث كان للاتحاد السوفييتي مصالح عميقة فيه، ورأي
مهندسي السياسة الروسية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط هو حصول روسيا على مصالح
حقيقية في هذه المنطقة.
فعلى الصعيد
السياسي روسيا مهتمة بمسيرة نتائج الصراع السياسي المتمثل في القوى الإسلامية
السياسية، فهـي تنظر إلى القوة السياسية الإسلامية على أنها صراع بين المسلمين
والمسيحيين. والمسلمون ليسوا بعيدين عن حدود روسيا الجديدة في القوقاز أو في
يوغسلافيا السابقة، وما حصل ويحصل هناك ينم عن الحيطة والمخاوف لدى الروس. كما أن
روسيا ما زالت مرتبطة بأصدقائها السابقين في الشرق الأوسط، ومحاولاتها المتكررة
للتدخل في حل المشكلات العالقة أو مساندة طرف ضد آخر هو تأكيد لنفسها أنها ما زالت
فاعلة، خاصة إذا كانت تلك الأطراف ترحب- لأسباب عدة- بالتدخل الروسي. كما أن الشرق
الأوسط هو مصدر مهم للعملة الصعبة عن طريق بيع السلاح وهو مكان كما تال أحد
المسئولين الروس: "تحدد فيه أسعار النفط". ولقد عادت روسيا من جديد في الفترة
الأخيرة لإنعاش دورها في الشرق الأوسط- بعد ركود فترة التغيرات الكبرى منذ 1990 -
1993. كما أن المنطقة أخذت مفهوما جديدا عندما وسع مفهوم الشرق الأوسط ليشمل مناطق
جمهوريات الاتحاد السوفييتي المسلمة السابقة في آسيا الوسطى وأذربيجان.
كما أن إيران
وتركيا لهما أهمية خاصة في السياسة الخارجية الروسية لعلاقاتهما بالجمهوريات
الإسلامية الجديدة لغة أو مذهبا. ثم إن روسيا تتحسب للتورط في بعض هذه المناطق
انطلاقا من الحفاظ على أمنها. هذا كله فإن المتوقع أن تلعب روسيا دورا جديدا باتجاه
دول الشرق الأوسط.
***
تلك إطلالة عامة
على هذا الكتاب المهم، وإن كنا لا نثق كليا بالنتائج التي توصل إليها، فقد يكفي أنه
عرض بوضوح وشمول، وأمانة أيضا، مجموعة المتغيرات الفاعلة في مسيرة روسيا اليوم،
وآثار اهتمامنا باحتمالات تطوراتها المستقبلية وهي تطورات- كما يقول الكتاب- سوف
تؤثر على كل إنسان في الأرض، وهي بالتأكيد سوف تؤثر علينا نحن العرب والمسلمين في
هذه المنطقة من العالم.
محمد
الرميحي